نبض القلم
في ظل الهجمة الشرسة الموجهة ضد الإسلام من قبل أعدائه، سرت موجة جديدة بين الناقمين عليه أن الإسلام دين يقف حجر عثرة في سبيل التقدم والنهوض، ما يتطلب العمل على إبعاده عن طريق تنمية المجتمعات الإسلامية، فهو يحول دون تطويرها والنهوض بها، وإذا كان لابد من وجود دين كعاطفة أو كغريزة فليكن ذلك بعيداً عن مجال الحياة التي تسير بخطى حثيثة منطلقة إلى الأمام غير مرتبطة بشيء مما هو وراء المادة المحسوسة، التي هي مجال النشاط البشري العام. وهذه الموجة الناقمة على الإسلام أساسها عدم الفهم لحقيقة الدين الإسلامي، الذي هو قمة التطور للرسالات السماوية، وجاء لتطوير الحياة والمجتمع الإنساني، وليخرج الناس من الظلمات إلى النور. ويرتكز التطور في الإسلام على قاعدة ثابتة ومتينة لها ثلاثة مبادئ هي : إنه لا يعاند الطبيعة الإنسانية التي من مبادئها ولوازمها تطور الحياة والتقدم بها إلى المستوى الأفضل، فالمعاندة خروج عن طبيعة الوجود، ومعارضة لسنة الله في الكون، فهو لذلك يوفق بين مطالب الروح ومطالب الجسد. إنه يحب الكمال المادي والمعنوي، ويدعو لتحقيق هذا الكمال والسير على منهجه، ويرفض السير مع الناس بدون هدف أو غاية، ومن مظاهر الكمال في الإسلام الأخذ بالأحسن في كل شيء. إنه يمجد القوة في الماديات والروحانيات على حد سواء، ويدعو إلى عدم الاستسلام بالعجز والكسل وعدم التعلق بالأماني الباطلة. وعلى أساس هذه المبادئ حذر الإسلام من الجمود، وندد بالتمسك بالقديم الفاسد، وحث على الأخذ بالجديد الصالح، أو الأحسن، لأن الجمود فيه تعطيل للقوى البشرية، وإهدار للكرامة الإنسانية، وثبت في الحديث الشريف: ( من سن في الإسلام سنة حسنة، فعمل بها بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها، ولاينقص من أجورهم شيء )- ( مسلم، علم ، 15 ). وهذا دليل على تشجيع الإسلام للابتكار، واكتشاف طرائق جديدة للعمل، قد تكون أحسن وأفضل. كما شجع الإسلام على طلب العلم، ورفع من منزلة العلماء، على اعتبار أن العلم هو الذي يساعد على تطور المجتمعات البشرية. كما أمر بالعمل والنشاط والسعي الجاد في الحياة، على اعتبار أن العمل هو الذي يطبق ما حققه العلم من نتائج بحوثه. وجاء في القرآن الكريم: ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) “ التوبة ،105”. وجاء في الحديث الشريف: ( ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده ) “ البخاري ، بيوع ، 15). ودعا الإسلام إلى تطوير الحياة ضمناً، بما عدده من نعم الله تعالى التي أسبغها على عباده، ولا يمكن الاستفادة من هذه النعم إلا بإقامة المصانع والمعامل ودور العلم والبحث وبناء السفن، ووسائل النقل، وتنشيط التجارات، واستغلال الموارد المختلفة، وما إلى ذلك من أنواع الأنشطة التي تساعد على الإفادة من نعم الله. ولضمان استمرار التطور البشري وضع الإسلام عدداً من الضوابط للسلوك الإنساني منها: - إخلاص النية في كل عمل. - أن تكون مادة التطوير حلالاً طيباً. - أن يكون طريق التطوير مشروعاً. ويتضح مما سبق أن دين الإسلام دين مرن، يساير كل تطور في إطار الأصول العامة للدين، ويستجيب لكل المتغيرات الحضارية، ويعنى بالتطور من جانبه الروحي وجانبه المادي، فأقام حضارته على أسس أخلاقية قيمية، مما جعلها تتميز بجملة من الخصائص منها: أنها حضارة إيمانية انبثقت من العقيدة الإسلامية فاستوعبت مضامينها، وتشربت مادتها، واصطبغت بصبغتها فهي حضارة توحيدية، ولكنها من صنع البشر، ولكنها ذات منطلقات إيمانية ومرجعية دينية، وكان الدين الإسلامي من أقوى دعائمها. إنها حضارة إنسانية المنزع، عالمية في الآفاق والامتداد، لاترتبط بإقليم جغرافي، ولا بجنس بشري، ولا بمرحلة تاريخية ولكنها تحتوي جميع الشعوب والأمم، وتصل آثارها إلى مختلف البقاع والأصقاع، فهي حضارة يستظل بظلها البشر جميعاً، ويجني ثمارها كل من يصل إليه عطاؤها، وقد قامت على أساس الاعتقاد بأن الإنسان أهم مخلوقات الله، وإن جميع الأنشطة البشرية لابد أن تؤدي إلى سعادته ورفاهيته، وأن كل عمل يقصد به تحقيق هذه الغاية هو عمل في سبيل الله. إنها حضارة معطاءة أخذت واقتبست من الحضارات والثقافات الأخرى التي عرفتها شعوب العالم القديم، وأعطت عطاء زاخراً بالعلم والمعرفة والفن الإنساني الراقي، وبقيم الخير والعدل والمساواة والفضيلة والجمال، وكان عطاؤها لفائدة الإنسانية جمعاء، لا فرق بين عربي وعجمي وأبيض وأسود، بل لا فرق بين مسلم وغير مسلم، سواء كان من إتباع الديانات السماوية أو الوضعية، أم ممن لا دين لهم من أقوام شتى كانوا يعيشون في الحضارة الإسلامية. إنها حضارة متوازنة، وازنت بين الجانب الروحي والجانب المادي، فالاعتدال والوسطية هو طابع من طوابع الفكر الإسلامي وميزة من مزايا الحضارة الإسلامية في كل العصور، فلا تفريط ولا إفراط، ولاغلو بغير وجه حق، ولا اندفاع ولا تهور، وإنما هو الاعتدال والتوازن الذي هو من صميم العدالة التي تقام في ظلها موازين العدل. وهذه الخصائص تكتسب طابع الديمومة والاستمرار لأنها نابعة من الدين الإسلامي الحنيف، ولصيقة به، وهي لا تتبدل بتبدل الأحوال وتغير المجتمعات، ولقد أفادت الحضارة الإسلامية أيما إفادة، ولاتزال صالحة لبناء حضارة معاصرة. [c1]*خطيب جامع الهاشمي بالشيخ عثمان[/c]