طه حيدر الكعبي في ذكرى رحيله السابعة :
يا غريب الدار عن وطنه *** مفرداً يبكي على شجنه مضى طه عنا جسدا وبقي شخصه فينا .. وبقيت معه ألف حكاية - هي رحلة الاغتراب بكل ما يكتنفها من مصاعب وأسرار بكل ما يحيط بواقعنا من أسى وشجن وحزن وحنين إلى الوطن بكل تفاصيله وأمكنته.دروب الفيافي والمنافي التي اتخذ منها صفوة أبناء العراق طريقاً نحو العودة إلى الوطن هي معادلة تبدو عصية على الفهم لكنها ليست كذلك عندما كانوا تحت ربقة الظلم والجبروت والبطش .. في عراقنا العزيز ولد طه حيدر محمد الكعبي .. واحد من تلك الكوكبة النيرة، وبدأ رحلة حياة مليئة بكل أنواع الحياة وقسوتها.في أحيان كثيرة تبدو حياة الرجل غامضة .. كأعماق نفسه الإنسانية التي لا تقبل الضيم، كنا نظنه كتاباً مفتوحاً في عشرة وحياة عمل امتدت إلى ما يزيد على ربع قرن من الزمان .. لكننا برحيله نفاجأ أننا أبعد من الإحاطة بكل تفاصيل وأسرار الرجل الذي تنازع حياته.. موطنان عراقة الولادة والشباب والأمل .. ويمن حط فيها رحاله، وتلخصت أسمى معانيها في ذاته، بأم حيدر، ومحمد وعمار وآخر العنقود سلافة، التي لم تتخط بعد العاشرة من عمرها.أنها حكاية موجعة، ولد طه حيدر في بغداد عام 1947م لأسرة ريفية تقطن جنوب العراق ذات توحد ديني شيعي، تزاوج ما بين توجهها الديني السياسي باعتبار أن المناخات السياسية كانت يسارية.والده حيدر الكعبي عامل في سكك الحديد، وفي عام 1963م شهد الفتى طه حيدر المفعم بالحيوية وحب الحياة مأساة اعتقال والده وتعذيبه في السجون .. وأمام ناظريه سارت المتغيرات والأحداث المتوالية من انقلاب 63م ضد الزعيم عبدالكريم قاسم وإعدامه، ثم انقلاب معاكس في نوفمبر من نفس العام وتوالي مسلسل الدم الذي توج بعودة البعث إلى السلطة في السابع من تموز 1968م ولم ينته الأمر عند هذا الحد.لقد كان إصدار المرسوم رقم (13) المشئوم أكبر طامة على حياة القوى الشيوعية والديمقراطية وحتى على الناس المتعاطفين معهم، هذا المرسوم قد نص على مطاردة هذا النوع من العراقيين واجتثاث شأفتهم من كل العراق.الشاب طه حيدر شهد بأم عينيه اعتقال والده وسجنه وآثار تعذيبه.. وما طال الشرفاء من ملاحقات وإهانات وذلك قبل صدور المرسوم، قد حفظ تلك الأحداث في ذاكرته وتشرنق بعذاباتها ليخرج مصقول الفكر والشكيمة بعد تبلور الروح السياسية في الداخل ولم يجد لطموحاته الثورية وانفعالاته الجياشة بالكره تجاه النظام البعثي الحاكم سوى الالتحاق بصفوف الحزب الشيوعي العراقي نهاية الستينات من خلال نشاطه في “منظمة الشبيبة الديمقراطية”.كان طه طالباً جامعياً في كلية التربية الرياضية بجامعة بغداد حين التحق بالتنظيم، أحبه الجميع لنشاطه وحيويته، وكان محط إعجاب الجميع أولاً لصوته الجميل وغنائه أو ترديده المواويل العراقية وثانياً لعشرته الحلوة فهو شخصية اجتماعية وفية ورحيمة.وفي عام 1969م حصل على الشهادة الجامعية بدرجة البكالوريوس من جامعة بغداد في مجال الرياضة “رفع الأثقال” وكان يمارسها باحتراف وكان اسمه دائماً في قائمة المسابقات الرسمية لرياضة “رفع الأثقال” ومع عشقه وحبه للرياضة صحبه عشق آخر وهو الكتابة وكان يطلق عليه لقب “أبو مخلص الصغير” وهو الاسم الحركي ربما يتساءل القارئ لماذا؟ أقترن الصغير بـ ابو مخلص.والإجابة: أن “أبو مخلص الكبير” هو لقب الأستاذ عبدالرزاق الصافي سكرتير تحرير صحيفة “طريق الشعب” الناطقة باسم الحزب الشوعي العراقي - وكان طه محرراً ومسئولاً عن الصفحة الرياضية فيها.كان طه شاباً حزبياً ملتزماً لمبادئه ولمناهج حزبه .. إلا أن فيه نزعة الرفض التي كانت تظهر عليه من حين إلى آخر في بعض الأمور على سبيل المثال كان يجاهر بارائه المعارضة للتحالف الجهوي الذي تم بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث الحاكم سنة 1972م روح الرفض الكامنة في نفسه كانت مقرونة بشيم الوفاء والشجاعة التي عرفناها من خلال هذه النفس الرافضة.عند اعتقال صديقه “منعم جابر” في أحد الأيام من عام 1976م من قبل زوار كان المفروض أن يختفي طه في الحال عن أعينهم باعتباره الصديق الدائم لمنعم، ورفيقه المستمر إلا أن طه لم يكترث لذلك الخطر فقد عزت عليه دموع أم منعم وفاجعة أسرته وركب الخطر متوجهاً إلى منزل رفيقه المعتقل ليلاً،وأصر على النوم في فراش صديقه حتى لا يظل خالياً تلك الليلة.هذا الموقف من طه قابله إنذار من حزبه باعتباره أسلوباً متهوراً ومغامرة تضر بشخصه أولاً ثم بحزبه ثانياً.ازدادت حدة العنف والاعتقالات على الشيوعيين والملاحقة والقتل بكافة إشكاله فأضطرت كثير من الكوادر الحزبية إلى الهرب من ضيم السلطة وجبروتها، وتشرد العديد منهم، بعد أن تعرضت عائلاتهم للبطش. إلا أن حظ طه من التشرد بدأ مبكراً بين حنايا الوطن .. أّذ قد حذا الخوف والرعب بأحبته وأهله بوصد أبوابهم في وجهه خيفة من النظام السفاح الذي لا يرحم والذي قطع حتى صلة الأرحام. فلم يجد أمامه خياراً إلا ترك العراق. ذات ليلة من ليالي شباط لعام 86م وتحت جناح الليل الذي وصفه السياب قائلاً (حتى ظلام بلادي أجمل) “كان يردد هذه العبارة دوماً” فقد ستره الليل بمجونه وحضنه وخرج طه ليلاً دون وداع ودون رجعة، لا يحمل معه سوى هويته “جواز سفر” متجهاً إلى الصحراء الغربية المؤدية إلى سوريا التي دخلها ليلاً وسراً عن طريق منطقة يطلق عليها أسم (آل بوكمال) منذ تلك الليلة التي ترك خلفه العراق بكل ذكرياته وأماسيه وملاعب صباه ولهوه، هناك ترك أحبته ومنهم أمه التي خلفها وراءه والتي لم تره بعد ذلك ولم يرها.يقول طه في مذكراته “وطئت قدماي أرض الشام في الرابعة صباحاً، وكان الصباح يسحب ظلام الليل وكأنه يقول لظلام بغداد أعط هذا الرجل فرصته في الحياة».كانت سوريا أول المنافي التي وطئتها قدماه، كان مثقلاً بالحزن لأنه يعي حقيقة ومرارة المنافي والتشرد التي يعانيها المثقف العربي لإيمانه بمبادئه وصدق قضيته وقناعته التي كانت زاده الذي يغذي عزته في مواجهة مستقبل مبهم.في دمشق التقى برفاق الدرب ومكث معهم عدة أسابيع ليوفد في بعثة حزبية إلى أحدى المدارس الحزبية في بلغاريا، وهناك واجه وضعاً سيئاً للغاية وصل به إلى حد المعاناة من الجوع، حيث كان رفاقه يكلفون أحد زملائهم بالذهاب إلى أحدى محطات القطارات لإنتظار القطارات القادمة ونزول ركابها وجمع الفضلات المتبقية من الأكل المتروك في عرباته .. ويعود إدراجه لإطعام رفاقه ومنهم طه هذه المعاناة لم تتضح أسبابها ولم يتحدث عنها طه أبداً إلا لعزيز. عليه ولكنه عكسها في قصته التي سطرت عام 79م، والتي كتبها في مدينة “دلفن” في قصة بعنوان “الأفواه المنتظرة”.كان يروم إلى الاستقرار والعيش بهدوء فانهماكه بحياته الشخصية أيقظ حفيظة هؤلاء الأفراد، فراحوا يناصبونه العداوة خصوصاً وأنه يجاهرهم بأرائه واتجاهاته الإصلاحية فقد كان يرى أو يرجح منهاجية الخط الإصلاحي وتجديد روح الحزب، وينتقد علانية بعض الممارسات الخاطئة لمسئولي الحزب ذوي الاتجاه “الكلاسيكي” مما أدى الأمر بهم إلى اتخاذ قرار بفصله مع مجموعة من رفاقه الذين يدعمون رأيه وكان ذلك في العام 1983م.حدث الطلاق التام بين طه وحزبه ولم يطلق من حياته أو داخله تلك المبادئ والأهداف التي ضحى من اجلها بالوطن والأهل والأحبة.ظل وطنه يعيش في داخله معه أينما أتجه وشهدت على ذلك دروب المنافي الوعرة وأرصفة المرافئ البعيدة ودموع الليالي الحالكة الجارية على خده، كلما وضع رأسه على وسادته ليغمض عينيه، يستيقظ فيه الشجن والشوق لينازعه راحته.لم يكتف رفاق الأمس بفصله ولم يهدأ لهم بال خصوصاً بعد انتقال طه إلى محافظة عدن والتحاقه بالحقل الإعلامي من خلال صحيفة 14 أكتوبر التي كانت مكان عمله وإقامته، فقد حاول هؤلاء استغلال علاقتهم بالأخ باذيب لمساعدتهم في ترحيله ونفيه من عدن في محاولة منهم للتخلص منه بحجة أن هناك ضرورة لإرساله، وضمه لصفوف المحاربين في كردستان، وكان طه الملاحق والمشرد يخفي مشاعر خوفه بداخله من هذه المحاولات، فقد مل التنقل والتشرد وحسب أنه وجد في الوطن الجديد بعضاً من الراحة والاستقرار رغم إجحافهم بحقه وفصله من حزبه ولكن سؤالهم لم يجد إجابة لدى من سعوا إليه.ولأن الأمر يبدو أنه مجرد سلوك أفراد من قبل أنفسهم وليس من قبل الحزب الذي ضحى طه من أجله ومن أجل أهدافه السامية، قد بدت سلوكياتهم ومواقفهم تتجلي بوضوح بكرههم الشخصي وغيظهم من الرجل الشامخ الذي جعلهم يتقزمون يوماً عن يوم بصمته ومواجهته سلوكياتهم التعسفية، وصلفهم الذي أعماهم وأوصلهم للتآمر على قتله.