يبدو العنوان محفزا للقارئ، ومربكا له في الوقت نفسه.. محفز لأنه يستفز فيه المخيلة السردية، ويستثيرالتوقع لديه، فيجعله يخمن كثيراً، ويتساءل أي ملاعق هذه التي سيصادفها في النص، وما هي دلالتها، وما وظيفتها المحتملة؟ هل هي بؤرة النص، أم مرجعيته، أم الآلية التي تفك مغاليقه التي تنغلق في لحظة انفلات القراءة؟ وأسئلة شتى تستفز القارئ، وتربكه، وتجعله في لحظتي صعود، وهبوط مع المتن، والعنوان أيضا.. ومربك من جهة أخرى لأنه لا يقدم بيانا مفصلا عن المتن، ولا عن حيثياته المتخفية وراء دواله، وفي آخر ملفوظ منه تحديدا كما سنرى ذلك أثناء الدراسة...فإذا كان العنوان مؤشراً أوليا يحيلُ على المتن -وان بصورة مكثفة غير محددة- ويقدم للمتلقي صورة استباقية عن مضامينه بشكل أو بآخر؛ فان المتن يقدم تفصيلات مركزية -محددة ومفصلة- لهذا العنوان، توضح -من جهة- ما انغلق في بنيته التركيبية والدلالية وتفسر -من جهة أخرى- كيفياته، وماهيته، وحيثياته التي يومئ إليها، ويحيل عليها، و/ قد يخبر عن سبب اختيار المؤلف له، ووضعه ثريا لهذا النص أو ذاك...لعل أهم سبب لاختيار الذات الكاتبة/ القاصة لهذا الدال وجعله عنوانا مركزيا للنص هو لأنه مهيمن على ملفوظات النص ومتشظ في دواله بشكل لافت.. فقد تكرر في النص باسمه: (6) مرات، ناهيك عن الضمائر العائدة عليه، وهو ما يجعل القارئ يعيد تفحص كيفيات تشكلاته الدلالية، والتركيبية أيضا، وماهياته الوظيفية والسياقية..** **تأتي الجملة المبدئية في النص حاملة لبرنامج سردي، يحيل على حالة استقرار وهدوء، فهو يخبر -البرنامج- عن وصول الأب متأخراً من عمله:(وصل والدي متأخراً من عمله)، فتطمئن مخيلة القارئ لهذه الحالة المستقرة التي تفضي إلى الحالة غير المستقرة التالية لها، وتتكئ عليها وهي:(بنفس النبرة المعتادة سقطت تلك العبارة اليتيمة من فمه ( حضروا طعام الغداء ) ومن ثم توجه لغرفته ليبدل ملابسه ).دلالة على تشبث الأب ببرنامج سردي مألوف، مكرر، وممل (طلب إحضار الغداء، التوجه إلى الغرفة لاستبدال الملابس).. إن الساردة تتعمد وصف النبرة التي يتم طلب تنفيذ مشروع (الغداء)، بأنها نبرة يتيمة، لتحيل على مدى انشطار العلاقة القائمة بين الأب/المرسل، وبين الذات الساردة(المرسل إليه)، وعلى محدودية موضوع القيمة المحدد (تحضير الغداء) فقط دون غيره، في ملفوظ الأب(البرنامج المعطى) الذي يريد الأب تنفيذه من ابنته، إن العلاقة قائمة على القطيعة -إذن- بينه وبينها، و هو ما يجعل الهوة بينهما تتعمق وتتسع أكثر، كما تشير إلى ذلك بملفوظها الدال على تكلف الأب في إصدار أمره؛ بتنفيذ الفعل المراد تنفيذه، لأنه مستفيد منه فقط وإلاّ لما طلبه: (سقطت تلك العبارة...)، فحتى العبارة الملزمة لإحضار الأكل سقطت من فمه، إن الجملة الافتتاحية تلك بمثابة تهيئة للمتلقي، لإدخاله في المفارقات الصارخة التي تليها..تتوجه الذات إلى المطبخ لإعداد الطعام.. وتقوم بتنفيذ برنامجها السردي، وتقف عند الملاعق قبل غسلها.. ومن هنا يأخذ النص(السرد) منحى مغايراً، قائما على المفارقة الدلالية، لقد استوقفها عدد الملاعق(ملاعقهم).. إنها ستقدم هذه المرة عددا محدودا منها(ستا).. بينما كانت تقدم في السابق عددا أكبر من ذلك.. من ثم تحدد سبب التناقص في هذه الملاعق:(منذ ستة أشهر كانت سبعاً ومنذ عامين كانت ثماني.. أما منذ خمسة أعوام فقد كانت تسعاً، منذ ستة أشهر تعاقد شقيقي على وظيفة في مدينة أخرى .. ومنذ ذلك الحين لم أره إلا مرة واحدة، ومنذ عامين تزوجت شقيقتي الكبرى لتتركني خلفها دون أم مع بقية أشقائي.. أما والدتي فقد غادرت باكراً منذ حوالي خمس سنوات .. تركتنا لنصارع الحياة بمفردنا .. يومها طمعت بأن تزيد عددنا فتركتنا هي الأخرى مع المولود الجديد، أما أنا فلست أطمع بزيادة عدد ملاعقنا ..).فثمة مساعد على تناقص هذه الملاعق وهو مغادرة أفراد الأسرة تحت مسميات شتى وكان أكثرها إيلاما مغادرة الأم، وما يعمق هذا الإيلام هو وصف الساردة لما ترتب على هذه المغادرة، فقد تركتهم ليصارعوا الحياة بمفردهم..يترتب على ذلك برنامج سردي مضمر، وهو ضياع أفراد الأسرة الروحي(الاجتماعي)، وعدم استقرارهم، وكذلك برنامج مضمر آخر، وهو سبب مغادرة الأم.. إن سبب مغادرة الأم مجمل وغير محددٍ، وغير واضح الأسباب، إن هذا الملفوظ يقدم تفصيلا لما أجمل في الملفوظ السردي السابق(انشراخ العلاقة بين الأب والأفراد).. وهو مغادرة الأم.. فغياب الأم مساعد على انشراخ هذه العلاقة، والأب طرف في هذا البرنامج السردي، وكذلك الأم، والنص -هنا- لم يحدد أيا منهما كان السبب في المغادرة، ولن يستطيع القارئ أن يجد سببا واضحا إلا في آخر ملفوظات النص، فالأب متجهما في علاقته بأولاده كما هو واضح في الملفوظ السابق؛ من خلال تحدثه باقتضاب، وروتينه الممل أيضاً، والأم تركتهم لمصارعة الحياة بمفردهم.. إن الطرفين يشتركان في تشكيل البرنامج السردي، وما يترتب على تنفيذه من ضياع وتمزق أسري كما يرمز إليه تناقص عدد الملاعق...إن الأم الحقيقية التي كانت هذه الساردة تعتبرها كذلك -عوضا لامها الأصلية- هي أختها الكبرى، التي تركتها هي وبقية أشقائها دون أم بزواجها:(ومنذ عامين تزوجت شقيقتي الكبرى لتتركني خلفها دون أم مع بقية أشقائي ..).ومعنى هذا أنها هي من ستتحمل أعباء كل شيء بعد غياب شقيقتها(الأم) وهو ما يجعل مأساتها تتعمق وتتعدد نتيجة لغياب متعدد ناتج عن أسباب شتى، غياب الأم غير محدد السبب، غياب الأخت بسبب الزواج، وغياب الأخ بسبب عمله في مدينة أخرى...الخإن ذلك قد أحدث شرخا في قرارة نفس الذات الساردة، حتى أنها لم تعد ترغب في زيادة ملاعقهم(أفراد الأسرة) إنها تريد للنمو أن يتوقفَ، ولعدد أفراد الأسرة أن يتوقف أيضاً:(فمنذ عرفت نفسي علمتُ أنها لن تزيد ..)إنها تعي بحجم الكارثة هذه منذ أن عرفت نفسها، منذ لحظات تشكل وعيها الأولى، فهي لم تعرف أهلا أو أقارباً ولن يأتي لها أخوة أو ما شابه ذلك حتى تظن وتزعم توقن أن عدد الملاعق سيزيد..إن المفلوظ الختامي للنص يحمل مفارقة من جهة، ويحمل تفسيرا لما أضمر من تفسير لقصة حياة الأبوين من جهة أخرى، ويفَصلُ سبب الشرخ العائلي بين قطبي الأسرة(البيت) (العائلة) (الأب والأم):(والدتي لم تكن تحب أهل و الدي فعاملها والدي بالمثل .. ليتركونا دون ملاعقٍ تؤنسنا إذا ما غادرتنا ملاعقهم ).إنها قطيعة قائمة على عدم محبة الأم لأهل زوجها، وهو ما جعل الأب يتعامل معها بالمثل، إن عدم محبة الأم لأهل الزوج هي مساعد على الانفصال، وتمزيق الأسرة، وجعل أفرادها يصارعون الحياة بمفردهم، إن مرارة الحالة الواقعة تحتها الذات الساردة(الشخصية القصصية) تمعن في إظهار ما تفرزه حالة الانشقاق تلك، عن طريق المفارقة القائمة على السخرية من الوضع، فقد ترك الأب والأم الأسرة بدون ملاعق تؤنسهم، إذا غادرت ملاعق الأب والأم..فالملاعق في النص تكاد أن تكون الشخصية المحورية الموازية لشخصية الذات الساردة، وتكاد أن تنافس الشخصيتين الرئيسيتين في النص(الأب والأم) فهي قائمة بذاتها واشتغالاتها على برامجها السردية أيضا، حتى أنها غدت في آخر ملفوظ كائنا بشريا قادرا على إدخال الأنس على أفراد الأسرة، حينما تداهمهم الوحشة من غياب الكائنين الروحيين (الأب والأم)...النص يختزل حالة إنسانية، تحدث كثيرا في المجتمع، ولكن السرد هنا أضفى عليها حالتها الشعرية(الأدبية الأعمق) حتى فارقت الحالة الإنسانية(انفصال الوالدين) في درجتها الصفر، ولم تكتفِ بذلك فقط، بل أمعنتْ في تمزيق أقنعة النتائج التي تترتب عليها حالات الانفصال الأسرية هذه، وما تؤول إليه الحالة عند تنفيذ برنامج الانفصال، والبرنامج المضمر الذي يليه ضياع وتشتت الأسرة وأعضائها بوحشته وقسوته..[c1]النص المدروس:[/c]ملاعقوصل والدي متأخراً من عمله ..بنفس النبرة المعتادة سقطت تلك العبارة اليتيمة من فمه (حضروا طعام الغداء ) ومن ثم توجه لغرفته ليبدل ملابسه، توجهت إلى المطبخ لأشرع في تجهيز المائدة .. أطفأت النار تحت القدور .. غسلت الأطباق .. أخرجت الملاعق لأعدها قبل أن أغسلها .. استوقفني هذه المرة أمرٌ لم أنتبه له مسبقاً إنه عدد ملاعقنا .. هذه المرة سأقدم ست ملاعق .. ست فقط ، منذ ستة أشهر كانت سبعاً ومنذ عامين كانت ثمان .. أما منذ خمسة أعوام فقد كانت تسعاً ، منذ ستة أشهر تعاقد شقيقي على وظيفة في مدينة أخرى .. ومنذ ذلك الحين لم أره إلا مرة واحدة ، ومنذ عامين تزوجت شقيقتي الكبرى لتتركني خلفها دون أم مع بقية أشقائي .. أما والدتي فقد غادرت باكراً منذ حوالي خمس سنوات .. تركتنا لنصارع الحياة بمفردنا .. يومها طمعت بأن تزيد عددنا فتركتنا هي الأخرى مع المولود الجديد ، أما أنا فلست أطمع بزيادة عدد ملاعقنا .. فمنذ عرفت نفسي علمتٌ أنها لن تزيد .. لم نعرف أقاربا أو أهلا ليعيشوا معنا .. و والدتي لم تكن تحب أهل و الدي فعاملها والدي بالمثل ِِ.. ليتركونا دون ملاعقٍ تؤنسنا إذا ما غادرتنا ملاعقهم .
|
ثقافة
قراءة في نص (ملاعق) للقاصة اليمنية حفصة مجلي
أخبار متعلقة