من مراجع التاريخ وتراكم الإرث المعرفي للأمم تدخل التجارب في دوائر من القراءات وعمليات من التعرف على ما قدمت من حضور في مشاريعها قادت به الفكر من مربع الثقافة وتحديد وعي الأمة إلى حالات من الترنح والصدام مع ثقافة مغايرة لم تقف معها على مساحة من التوافق ولكن ذهبت بها الذاتية إلى خطوط المواجهة والرفض. الدكتور فاروق عمر فوزي يقدم لنا في كتابه ( الفكر العربي في مجابهة الشعوبية - عصر الخلافة العربية الإسلامية) قراءة في صفحات التاريخ العربية غير أن هذه الرؤية لا تقف مساحات نظرتها عند حدود الماضي الذي جعل منه الباحث مجال تحركه مع تلك الأحداث ، بل هو يجد في الحاضر ما يعيد تلك الأوضاع من الانقسامات والتناحر وصعود الفكر الشعوبي - المناطقي القائم على نزعة الصراع الثقافي والاجتماعي والمذهبي الذي يذهب بالشعوب إلى مربعات الاقتتال على الفردية وتحويل الثقافة إلى أسلحة مدمرة لركائز الأمة. يقول الدكتور فاروق عمر فوزي : ( البحث في الظاهرة الشعوبية بحث قديم وجديد .. بمعنى انه يحتمل دوماً فضلاً من الدراسة ومزيداً من الاستقصاء. ومن هنا تأتي الدعوة وينطلق النداء من قبل المفكرين والمؤرخين بأن ثمة حاجة الى دراسات جديدة عن الحركة الشعوبية تتناولها من منطلقات واطر جديدة خاصة بعد ظهور حركات تحريفية هدمية شعوبية من عصرنا هذا اعتمدت الشعارات والتعاليم نفسها والتكتيك نفسه فسخرتها لتبرير مخططاتها السياسية والدينية كما فعلت الشعوبية تماماً في العصر العربي الإسلامي الوسيط .. فاتخذت من هذه الشعارات البراقة وسائل لتمرير برامجها - بالتواطؤ مع قوى داخل الوطن العربي وخارجه - بهدف إلغاء السيادة العربية وتفتيت الوطن العربي وإنهاء العقيدة الإسلامية. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن البحث يدلل بأن هناك ارتباطاً جدلياً عبر التاريخ بين الظاهرة الشعوبية وبين الفكر العربي الإسلامي المناهض لها.. فكلما ازدهر الفكر العربي وتقدم المجتمع في مجالات الحياة المختلفة وازدادت الدولة العربية قوة نشطت الحركة الشعوبية محاولة بأساليب وطرائق متعددة هدم ما يمكن هدمه والعكس صحيح ايضاً إذ كلما تعرض المجتمع والدولة والتراث والقيم العربية الإسلامية لتحديات الشعوبية داخلياً وخارجياً جاء رد الفعل المناهض للشعوبية في صورة صحوة فكرية تنبع من الذات العربية الإسلامية وتتجسد في مواقف وممارسات وأعمال متنوعة محصلتها النهائية العمل على الحفاظ على تماسك المجتمع العربي الإسلامي بقيمة وتقاليده وتراثه. ولابد لنا قبل الانتهاء من المقدمة أن نوضح امراً مهماً ذلك أن الشعوبية بوصفها مصطلحاً من المصطلحات المتعارف عليها تبدل مفهومها ضيقاً واتساعاً مع تبدل الزمن مثلما اختلفت في معناها تبعاً للمخدوعين بها أو المناهضين لها. فالشعوبية في معناها الضيق عدت حركة فكرية اجتماعية عادت العرب وأنكرت دورهم التاريخي واستخفت بتراثهم وتنكرت لأثره الحضاري العالمي. ومع أنها ضمت عناصر من فئات شتى كالزط والنبط والديلم والصقالبة وغيرهم ولكن القوة الضاربة والمؤثرة والموجهة في الحركة هي الفرس المجوس الذين كان لهم الدور الفعال في تحديد مسارات الحركة ورسم أهدافها وتسخير كل الإمكانات باتجاه تحقيق مشاريعها الهدمية. على أن الشعوبية بمعناها الواسع كانت اكبر من ذلك بكثير فمع تطور الزمن وتعقد المجتمع العربي الإسلامي في العصر العباسي ظهر العديد من الحركات الدينية والسياسية وكذلك النزعات الانفصالية العنصرية الإقليمية، كانت تشترك في هدف بارز إلا وهو ضرب السيادة العربية وتقويض دعائم العقيدة الإسلامية . وبمعنى آخر فقد كان للبعد الشعوبي دور نافذ وفعال في هذه الحركات ومن هنا فهي تدخل في إطار الشعوبية بمفهومها الواسع. من هذا الاتجاه الفكري القائم على المستند التاريخي يقدم لنا الباحث تصوره حول مفهوم الشعوبية ما بين موقعها في الماضي في قلب الصراعات الثقافية والفكرية والسياسية ومحاولة استدعاء هذا الجانب من التاريخ وإدخاله في تحديات الحاضر من قبل عقليات تسعى إلى إعادة رسم المشروع السياسي من خلال توظيف الثقافي القائم على الانتماء العرقي والمذهبي والطائفي وجعل المساحة الأوسع التي تتحرك فيها أهداف الشعوبية العاملة على تقسيم العقل العربي فالثنائية المتناحرة هي الوضعية التي تتعامل عليها الأهداف الانقسامية في دفع حالة التأزم إلى أقصى درجات الصدام في داخل المعتقد الواحد.
|
ثقافة
الفكر العربي في مجابهة الشعوبية .. صراع الطائفة والأمة (1 - 2 )
أخبار متعلقة