الأستاذ أنيس منصور ..
نجمي عبدالمجيدقال عنه الكاتب محمود فوزي: (الكاتب الكبير أنيس منصور ضرب بسهم وأفر في جميع الاتجاهات الأدبية والفكرية والفلسفية والثقافية وأعماله تتخطى حدود الزمان والمكان فهي من التراث الإنساني الذي يحمل هبة الخلود وسمة المعاصرة.وأنيس منصور .. فنان وأديب كبير .. شخص موهوب ذو حساسية خاصة تستطيع أن تلتقط الإيقاعات الخفية اللطيفة .. وذو قدرة تعبيرية خاصة تستطيع أن تحول هذه الإيقاعات التي يتلقاها حسه مكبرة مضخمة إلى لون من الأداء الجميل يثير في النفس الانفعال ويحرك حاسة الجمال. وأنيس منصور كاتب مبدع لا يعبر في كتاباته المتعددة الا عن انعكاس الحياة في نفسه، ولا يمكن أن يكون تعبيره الا من الزاوية التي يرضي منها الوجود ويتلقى منها الإيقاع فهو فنان حقيقي صادق التعبير، وليس مجرد صانع ماهر يتفنن في صنع الكتابة.إن حركة القلم في يده تمثل صورة لحركة الأفكار في ذهنه ولسائر الدوافع والأحاسيس التي تتفاعل داخل نفسه .. وهو لا يتخيل الحياة بل يندمج فيها ويلحظ جزئياتها، ويسجل تفاصيلها بمنتهى الدقة، ويحصي دقائقها بمنتهى الأمانة، ويغرس قلمه في لحم الواقع ما يضفي على أدبه روح الصدق والحرارة والأصالة).تعد كتابة المقال الصحفي بداية الطريق التي دخل منها أنيس منصور إلى عالم الصحافة الرحب.في هذا الاتجاه أسهمت كتاباته بأوسع قدراتها وأمتد أثرها في عدة أجيال وجدت في أعماله موسوعة صحفية لم تترك حقبة من زمن التاريخ البشري، ولا معرفة دخلها الوعي الحضاري ولا فكرة تصارعت حولها العقول واختلفت التصورات الا وكان لقلم أنيس منصور حضوره الفكري فيها.وفي هذا الصدد شكلت مسألة كتابة المقال الصحفي لديه حالة إبداعية ترتكز على عدة مقومات، منها: التوسع الثقافي، اللغة والقدرة على استخدامها في صياغة المادة الصحفية، وجعل لكل فكرة أسلوبها، تناول القضية بأكثر من أسلوب ونقلها من مستوى إلى آخر والتعامل مع جزيئاتها في نفس الدرجة التي يتعامل بها مع مركز الموضوع.وقد أسهم في هذا تنوع ثقافاته التي قامت أساساً على إجادته لعدة لغات مثل الفرنسية والألمانية والإنجليزية والإيطالية والعبرية، واللغة العربية في أعلى درجات الفهم لقواعدها وتاريخها وثقافتها، وفي ذلك ما يجعله قريباً من أفكار حضارات وثقافة شعوب، وقدرة على هضم ذلك الطيف المتنوع من المعارف وإعادة صياغتها بأسلوب لغته العربية التي شكلت الصحافة مساحتها الكبرى المتصلة مع عقول الناس.منذ عام 1957م والأستاذ/ أنيس منصور يحصل على المركز الأول في كل الاستفتاءات التي كانت تجري بين قراء الصحف لاختيار أفضل الكتاب .. وقد حصل قبل عدة أعوام على المركز الأول من بين الذين أسهموا في الكتابة الصحفية اليومية، وكان حصوله على هذا المركز قد جاء نتيجة لسلاسة أسلوبه وفهم عباراته المشرقة مع تعدد قراءاته وهي قاعدة ثقافته، وتركيزه على هموم العامة وقضايا المجتمع، وهو في هذا المجال صاحب مدرسة متميزة في عالم الصحافة العربية.يقول الأستاذ/ أنيس منصور عن أولى محاولاته في دنيا الأدب: (لابد أن يكون أولى محاولاتي الأدبية هي نوع من محاولة الحديث مع النفس، عن النفس، ولذلك وجدتني أكتب مذكرات شخصية وأنا طالب في المدرسة الثانوية.وقلبت في هذه المذكرات فلاحظت إنني كتبت عن المدرسين والباعة والحلاقين والطلبة.وكنت حريصاً جداً على أن اجعل هذه المذكرات في مكان بعيد عن الأيدي والعيون. ولكن لماذا؟ وما الذي قلته؟لاشيء أكثر من محاولة إبداء، رأي في كل الناس، دون الحديث معهم أو وصف حالهم في هذه الدنيا. وهذا يدل على الخوف الذي دفعني إلى اتخاذ موقف عدائي من الجميع، أو موقف دفاعي من كل الذين حولي. فأنا وحدي. وأنا أقوم بمحاولات سرية. وهي سرية لأنني غير مطمئن إلى قدرتي على شيء.وبعد ذلك لابد أن أكون قد حاولت القصة القصيرة التي تروي مالم يحدث في حياتي، وأنها تدور حول ما أتمنى أن يكون قد حدث.ومعنى هذه القصص والمحاولات الشعرية ايضاً:أنني أدور حول نفسي، وأحضنها ضد الناس .فأنا في حالة دفاع عن النفس، مع أن احداً لم يعتد علي أو على شيء أملكه .. ولا أذكر إنني كنت املك أي شيء وربما الشيء الوحيد الذي املكه هي القدرة على إخفاء ما يخصني، أو الرغبة في التخفي.وفي التخفي أمارس حريتي في الخوف من الناس. والوقوف ضدهم.أنيس منصور في عالم السياسة، له من الكتابات ما تعد مرجعاً لقراءة أزمات وحقب من تاريخ مصر والمنطقة العربية.مابين المقالة والعمود والدراسات والحوارات والترجمات والرحلات، أخذت السياسة موقعه ما في هذه الجوانب من عمله الصحفي، ومن مؤلفاته السياسية: الحائط والدموع، وجع في قلب إسرائيل، الصابرا، عبدالناصر، في السياسة (3 أجزاء)، الدين والديناميت، على خط النار، لا حرب في أكتوبر ولاسلام ، في صالون السادات.بعد عام 1967م وهو عام النكسة، والحرب التي اندلعت بتاريخ 5 حزيران ـ يونيو، بين العرب وإسرائيل وكانت من اقصر الحروب في التاريخ.فخلال ستة أيام الحق الصهاينة بالعرب هزيمة واسعة واستولوا على مساحات شاسعة من عدة دول عربية، وقد عرفت تلك الحرب باسم (حرب الأيام الستة).بعد هذه الحرب، رفع الكاتب أنيس منصور عدة شعارات ثقافية منها (الإنسان القارئ تصعب هزيمته) وأقام معرضاً للكتاب متنقلاً ما بين العواصم العربية عنوانه (أعرف عدوك) .ومؤلفاته المتحدثة عن اليهود تتناول تاريخهم في العالم وجذورهم القديمة حتى الراهن، وقد كشف نواياهم وحلل أفكارهم الخبيثة وميولهم العدوانية وغيرها من القضايا التي تصب في هذا الجانب.لهذا لم يكن غريباً أن تتقدم الحكومة اليهودية في أقل من عام من يوليو 1984م حتى مارس 1985م ـ باحتجاجات أربع مرات على أربع مقالات كتبها، وهاجم فيها بقوة إسرائيل، ومشكلة الأستاذ أنيس منصور مع اليهود انه كان يعرف عنهم الكثير، بل أن وزارة الخارجية الإسرائيلية اعترفت بشكل رسمي لحكومة مصر وبكل وضوح وصراحة، بأن أنيس منصور يعرف الكثير من نقاط الضعف في الشخصية اليهودية، بل إنه يعرف مواطن الوجع في الفكر الإسرائيلي.كانت بداية أنيس منصور مع الحياة العملية بعد أن تخرج من كلية الآداب قسم الفلسفة في عام 1947م وكان مركزه الأول، فعمل مدرساً بالجامعة، لم يكن يقف طموحه عند هذا الحد، وحبه للصحافة والأدب يشده إلى عالم الكتابة، فترك عمله، ودخل عالم الصحافة من خلال الكتابة والترجمة، فأقدم على ترجمة عدة قصص من الآداب العالمية، كما عاش فترة من حياته مع مذكرات قادة الشعوب وزعماء العالم، وترجم عدداً منها خلال الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) وغير هذه الكتابات عبر الصحافة التي جعلت أنيس منصور من الأقلام صاحبة الشعبية عند القراء.ومما كتبه الأستاذ أنيس منصور في السياسة هذه الكلمات التي كان ينشرها في عمود مواقف بصحيفة الأهرام وجاء فيها: (ليس غريباً على التاريخ كله ما يحدث في إيران فقد قامت الحروب الدينية منذ ألوف السنين وأريقت فيها الدماء على الجانبين وفي كل الساحات .. والحروب الصليبية نفسها قد استغرقت مئات السنين ... وبعض الناس يرى أن الحرب بين العرب وإسرائيل هي صليبية ايضاً أي حرب دينية.ولا توجد حرب في الدنيا ليست دينية ـ أي ليست بين مذاهب سياسية لها عمق الدين ومظاهره حتى لو كان طرف هذه الحرب ماركسياً لينينياً ملحداً. فالماركسيون ليسوا فقط متدينين وإنما هم متعصبون متهوسون تماماً كأمثالهم في أي دين.فإذا انتبهنا إلى القول بأنه كم من الجرائم ارتكبنها باسم الدين فلابد أن يقفز إلى أذهاننا ما يحدث في إيران الآن.أن الإسلام مذهب متكامل في المعاملات الأخلاقية والاجتماعية والسياسية. والإسلام يريد العدل والحرية والخير. والإسلام دين الرحمة.وقد أصيبت إيران بالفساد بسبب استبداد الشاة وأسرته وحاشيته والمنتفعين به من الساسة المحترفين والتجار واللصوص والأقارب والمحاسيب .. وثار الشعب الإيراني على جلادية وسارقيه .. طبيعي جداً ومنطقي.ولكن الخطأ الذي وقع فيه المسلمون في ايران ليس اسلامياً، وإنما هو مذهبي. (فالمذهب الشعبي) يرى أن الأمام مرجع الإسلام آية الله روحج الله الإسماعيلي القاضي الإثنا عشري الموسوي الخميني معصوم من الخطأ ـ وعلى ذلك لا يصح أن يراجعه احد.ولذلك تراكمت الأخطاء وتعاظمت حتى أصبح الخميني نفسه هو خطأ الأخطاء.فلكي تستقيم الثورة وتكون إسلامية، فيجب أن يذهب الخميني ويجيء من هو أكثر تجربة ومرونة واستعداداً لتصويبه إذا أخطأ.).هذه التجربة الصحفية التي جعل منها الكاتب أنيس منصور خاصية منفردة في دنيا القراءة والكتابة سوف تظل لعقود عديدة من الزمان معلماً ومرشداً لمن يسعى للدخول إلى هذا العالم الرحب والمتعدد الأطياف، دنيا الصحافة وما بها من تجارب وأزمات ومن صعود وتراجع وكيف تكون الثقافة الموسوعية هي القاعدة الأقوى التي يقف عليها الكاتب،وكلما توسعت معارفه اقترب أكثر من قمة التواصل مع عالم المجد والخلود، فالمعرفة في دنيا الصحافة هي من يكسب القلم قوة الكلمات ونفاذ الرؤية والمقدرة على المواجهة.[c1]المراجع[/c]1ـ مواقف ـ 3 أنيس منصور ـ الناشر مكتبة المدبولي 1989م.2ـ عزيزي فلانأنيس منصورالناشر: مكتبة نهضة مصر2004م3ـ أنيس منصور .. ذلك المجهول . تأليف: محمود فوزي الناشر: مكتبة مدبولي 1986م.