قصة قصيرة
كلهم كانوا ينامون مبكرين في هذا البيت...يأخذون معهم إلى سطح الدار آنية مثلجة ويقرؤون آيات من القرآن لجلب الأحلام...لكنه يبقى معزولاً، يحدث أشخاصاً لا نراهم ويكتب أشياء لا نفهمها، تاركاً لنا الغزل مع النجوم ، والهواء العذب القادم من الشمال، يغوص بعيونه السنجابية في كتب عتيقة، ويتصاعد البخور الذي يوقده إلى الأعلى كأرواح الشهداء عطراً.لماذا لا أحلم مثلهم ، وتؤرقني اهتماماتي بعالمه الآخر، إنه جدي الذي لا يقول صباح الخير إلا بأعجوبة ، يزرع أعشابا تكرهها أمي ، تتوعدها بالقلع متى غادر .غرفته تطل على النهر، ولا يدخلها أحد منا..يحمل أحجاراً يؤكد عمي إنها تحبس جاناً أزرق يجلب له أخبار الدنيا ويطلعه بود غامر عن غد نريد جميعاً أن نعرف ما فيه ...لن نعرف طبعاً لان جدي لا يخبر أحداً ..انه فقط يرسم أشكالاً بدوية في باحة بيتنا وينادينا نحن صغار الدار يقول:- صفوا لي ماذا ترون؟.فنضحك: تلك الخالة وفية تقود خروفاً للذبح.فيقول : - سيعود ولدي من الحرب سعيداً وسيعود -أكيد- لان رسوم الجد حقيقة لا نقدر أن نكذب فحواها..جدي طويل كما الجمال في وادي النيل، ثفناته زرقاء، كمساء يأتي بهدوء ...يملُك روح أمير عربي، يوزع بسخاء المال علينا في كل غروب ، جلباً للرزق.يغسل ثيابه بماء الورد، وينشرها صوب القبلة، ويطيل النظر إليّ، لكنه لا ينطق أبداً مثل تماثيل بابل ، لا يفقد هيبته بحوارات عبثية.ناداني مرة، قربني منه ...أعطاني قلماً من فضة وأوراقا سمراء كوجهي، علمني حرف الباء وبعد أسابيع صرت أتقن الجداول الفلكية.نهرتني أمي أن أطرق بابه حين ينام، لكنه صرح ببيان ليس عسكريا، بأن لي حق المثول في حضرة عرشه الخشبي متى أريد، على أن أحمل في دمي نداءات الحكمة، وأن أوغل في عوالم الله، كي لا أتوه مثل غيري، فأقسمت له على كتب العلماء، بأن أحمل شرف الحياة، وأن أرفع الراية الخضراء، كي لا تخاصمني الشمس فهي تشرق بشوق لبشر محدودين.عمره ثمانون عاماً ، وأنا عشرة ولكني ظله، لم يكن يفتح فمه أو يحرك عينيه كان يكفي أن يفكر بذلك ويتحدث في سره ليأمرني بجلب الماء أو فتح باب البستان ، وظن الجميع بان اللعنة تخرسنا...سكتنا عن كلمات متعبة، وبكل سرور تركنا النهار لكم، ولأن مكاناً جميلاً نادانا، وأردنا سبر الأغوار إليه ، مكاناً طاهراً يسمى الجنة، متنا عند الفجر سوية.