قصة قصيرة
نبيلة الشيخ:فارعة مخضوضرة، احتضنها ركن صغير في واجهة الدار،حين تراها تشعر بألفة إضافية، مثقلة بالخوخ الطيب لطالما اختلسنا الأوقات لنقطف ثمارها، حتى قبل أن يأن الأوان، بيديها زرعتها أمي، داومت على ريها ،نشأت بينهما صداقة لم نلحظها في حينها، استمتع وإن كانت المتعة مزدوجة الملامح، بمجرد جر ذاكرتي إلى ذلك الركن، وكيف لا وهو زمن الطفولة والهموم الساذجة، ينتصب لي قوام جدتي النحيل، العالي الهمة، هناك نظارة واسعة تحجب بعض ملامحها الحنونة وتساعد إحدى عينيها على الرؤية، بعد أن ودعها نور عينها الأخرى ذات يوم وهي تقطَّع الأخشاب اللازمة للخبز، جدتي هي ملجأنا الذي نلوذ به حين تقترب ساعة العقاب، هي القلب الآخر الذي يطفح منا الأمان بجوارها، هنا أبي أيضاً يلوح بحنان غامر إذا ما مرض احدنا وتكون الفرصة الذهبية لا بتزازه بالهدايا، أما مواسم الأعياد فإنها موشومة بليالي طويلة يذرع فيها أبي الأسواق طولاً وعرضاً ونتدلل عليه فيها فيغدق علينا بلا حساب شجرة الخوخ، هي ذي تزداد كل عام تألقاً وعطاء فتفيض أيضاً على الأهل والجيران، أمي صوتها يشيع البهجة والحنان، يلفنا بحنان لم نشعر أنها مصدره، كم بقينا على هذه الحال؟ومتى انتبهنا ؟حين بدأت شجرة الخوخ تضمر وتشح ثمارها ،لم نلق لها بالا ،لم نكترث ،كانت كل يوم تزداد اصفراراً وذبولاً، أمي أيضاً بدأ صوتها يخفت ويخفت ،ترى أيهما ذبل أولا ؟ لا أدري .كنا في موجة مرحنا الطفولي لا نقف عند أحد ،لكننا توقفنا أخيرا حين غادرت أمي، توقفت أشياء كثيرة داخلنا لم نشعر بها حين توفقت وبدأت أشياء أخرى لم نشعر بها أيضاً حين بدأت .لم ادر كم من الوقت أخذت حتى لا حظت أن شجرة الخوخ قد تركت لنا مجرد جذع خالٍ من الأوراق يذكرنا بأطلالها، وتحول ذلك الركن إلى مجرد مرمى للنفايات. كبرت وكبر إحساسي بشجرة الخوخ وبرحيل أمي، الآن تتسمر عيناي بذهول مرير عند ذلك الركن وأتحسس فجوات بروحي من الخوف والوحشة، وأتساءل كيف فاقتنا شجرة الخوخ إحساسا بأمي ووفاءً، إنها ممتنة ليدي أمي التي غرستها وتعهدتها، فكانت أول من توجع مع أمي ،أول من شاركها أحزانها وقاسمها خبز الألم، اصفرت أمي فاصفرت أوراقها وتساقطت ،ولما غادرت أمي، غادرت معها ،كيف يكون الخوخ أكثر وفاء وإحساساً منا يا أماه ؟ أو ليست يداك هي التي تعهدتنا ؟ما بالنا لسنا كالخوخ ؟أحببت شجرة الخوخ بقدرما أحببت ذلك الماضي الجميل، وبقدر ما أحببت وفاءها الجميل ،لو تمتلئ حديقتنا بالخوخ، لا تنسم روائح المحبة والوفاء، وفوحة الولاء، هل أزرعك أيتها الخوخة من جديد ؟هل يعود زمن أمي ؟وصوت أمي ؟ودفء أمي ؟ اعلم أني لست خوخة وفية مثلك لا فعل ذلك لست خوخة فرحها عطاء، وحزنها وفاء، وموتها محبة ؟أيها البشر ليتني وإياكم أشجار خوخ.