أضواء
الخيول والجمال والبغال والحمير كانت تعادل، في وقتنا الحاضر، السيارات والطائرات والقطارات والدراجات. تلك وسائل نقل وهذه مثلها. الأولى قديمة لاءمت عصرها، والثانية حديثة تواكب زمانها.نساء المسلمين استخدمن وسائط النقل الأولى، وبعضهن قدن أو شاركن في معارك، بعضها حدثت والإسلام في بدايته، أي كما لو أن إحداهن كانت تقود سيارة في أيامنا هذه، أمام حشود من الرجال من غير محارمها. يقينا، أنهن يحفظن عن ظهر قلب الآية الكريمة القائلة ( وقرن في بيوتكن)، لكن للضرورة أحكام. ما الزي الذي كانت ترتديه كل واحدة منهن ؟ جلباب، درع، خمار، أو كلها معا ؟ إذا استندنا على الآية القرآنية التي تقول ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما). (الأحزاب: 59)، فنفترض أن الجلباب كان هو الزي. ما هو الجلباب ؟ قد يكون الجلباب، كما في لغة العرب، «الثوب المشتمل على الجسد كله، وعلى الخمار، وعلى ما يلبس فوق الثياب كالملحفة والملاءة تشتمل بها المرأة.» لكن كيف يكون إدناؤه ؟ البعض يقول: أن «تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها.» آخرون يقولون: أن «تلويه المرأة فوق الجبين ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه.» لكن هذا عندما تكون المرأة في وضع اعتيادي، رخية البال، وتستطيع فيه السيطرة على حركات جسدها، كأن تمشي الهوينا في طريق عام، مثلا. ماذا لو كانت امرأة على ظهر دابة، وفي ساحة معركة حامية الوطيس، وبالها تشغله أمور خطيرة عديدة، وقد تحتاج أن تترجل عدة مرات في اليوم، بل في الساعة الواحدة ؟ سقنا هذه المقدمة حتى نطرح السؤال التالي: إذا كان نساء المسلمين، وبعضهن يتبوأن مواقع رفيعة في الدين والأخلاق، والحسب والنسب، يسمحن لأنفسهن أن يقدن أو يستخدمن وسائط نقل أمام حشد من ذكور من غير محارمهن، فهل هم أكثر غيرة على الدين وأعمق باعا في تفسيره، وأكثر حرصا على مكارم الأخلاق، هؤلاء الذين يمنعون امرأة من قيادة سيارة، سواء بصحبة محارمها، أو لوحدها ؟ الجواب، قطعا، لا. أما حديث هؤلاء عن الفتنة، والخلوة المحرمة بالمرأة، والسفور، والاختلاط بالرجال، التي تقترن، كما يقولون، بقيادة المرأة للسيارة، فهو حديث لا يليق إلا بأصحاب الكهف. هؤلاء الذين يتحدثون هكذا، هم صم عن سماع أصوات تكنولوجيا الاتصالات الحديثة، وهم عمي لا يشاهدون الكاميرات المثبتة على أجهزة الحاسوب والموجودة داخل أجهزة الهواتف المحمولة، وهم بكم لا ينطقون بحقائق عصرهم. فقبل عقد أو عقدين ما كان أمام الفتيان والفتيات في المملكة العربية أي فرصة لرؤية بعضهم البعض الآخر، ناهيك عن الجلوس سوية والتحدث وجها لوجه. أما الآن فنحن جميعا نعرف ماذا أصبح بمقدور فتى وفتاة أن يفعلا، بفضل انجازات التكنولوجيا الحديثة، بما في ذلك، كما ذكرنا توا، الكاميرات المثبتة على أجهزة الحاسوب وداخل الهواتف النقالة. أيهما أكثر عفة وأقل غواية وأبعد للفتنة، وفقا لآراء الذين يحرمون قيادة السيارة،بالطبع؟ أن تقود امرأة سيارة في عرض الشارع وأمام الملأ، أو أن تتواصل بالنظر والكتابة والكلام، وكما تشاء وترغب، مع رجل غريب في خلوة لا وجود فيها إلا لأياهما ؟ الجواب واضح للجميع ما خلا من يقلدون النعامة في طريقة النظر للأشياء. لكن، حتى هؤلاء ستتكفل التكنولوجيا الحديثة، آجلا أو عاجلا، بل عاجلا، بتحويل الرمال التي يدفنون فيها رؤوسهم إلى جنائن خضراء، وعندها سيجبرون على رؤية الواقع كما هو. وما مسألة تحريم قيادة المرأة للسيارة إلا مهزلة، وصرخة في صحراء لا تخيف (بنات الرياض) من الاستمرار في الحصول على حقوقهن، رغم كل الضغوط الاجتماعية والعصبية والعاطفية التي يعانين منها مع بقية نساء المملكة، بفعل التغيير الحاد الذي تمر به البلاد، ورغم ازدياد حالات الانتحار بينهن، وفقا لما تذكره الكتب الإحصائية بوزارة الداخلية في المملكة.الاستمرار في منع النساء من قيادة السيارة، في زمن تحتشد فيه نساء اليمن، ونساء البحرين، حتى لا نذكر إلا هذين البلدين المجاورين، في الساحات العامة للمشاركة في الشأن العام، وطلبا للمزيد من الحريات، هو عناد لا طائل له، أو كحرث في بحر لن يحصد الحارث منه إلا النسيان، مثلما حدث في بلدان آخري مجاورة للمملكة.فقبل أكثر من قرن أكد الشيخ العراقي خير الدين نعمان الآلوسي (1899/1836) إن (الإصابة في منع النساء من الكتابة) وألف كتابا بهذا العنوان قال فيه: « فأما تعليم النساء القراءة والكتابة فأعوذ بالله إذ لا أرى شيئا أضر منه لهن، فأنهن كما كن مجبولات على الغدر، كان حصولهن على هذه الملكة من أعظم وسائل الشر والفساد، وأما الكتابة فأول ما تقدر المرأة على تأليف كلام بها فأنه يكون رسالة إلى زيد، أو رقعة إلى عمر، وبيتا من الشعر إلى عزب، وشيئا آخرا إلى رجل آخر، فمثل النساء والكتب كمثل شرير سفيه، تهدي أليه سيفا أو سكير تعطيه زجاجة خمر، فاللبيب من الرجال من ترك زوجته في حالة من الجهل والعمى، فهو أصلح لهن وأنفع.»الشيخ نعمان الآلوسي ليس من سواد الناس، فهو من عائلة دينية لا تحتاج إلى تعريف لشهرتها، وكان في زمانه واعظا وداعية وقاضيا ومدرسا، وباحثا، له كتب وتصانيف عديدة في حقول اختصاصه الديني، ومناصرو أفكاره الذين كتبوا عن سيرته يسمونه «سيف الله المسلول على أهل البدع والأهواء، والبلاء المبرم على خالف الشريعة الغراء». (الشيخ نعمان الآلوسي، سلفي عاصر فترة ظهور دعوة محمد بن عبد الوهاب وكان من المنادين لها في العراق، وكان والي بغداد عبد الوهاب باشا قد أمر بنفي الشيخ نعمان ومعه ابن عمه محمود شكري الآلوسي وآخرين إلى الأناضول بتهمة الترويج لفكرة الخروج على السلطان، وتأسيس مذهب يناسب كل الأديان، قبل أن يصفح عنهم، بعد وصولهم إلى الموصل). لكن الشيخ الآلوسي يظل، مهما كان تبحره وغزارة معلوماته في مجالات اختصاصه، فردا من أفراد المجتمع، خاضعا لشرط اجتهاده الشخصي، أولا، ولشروط مجتمعه، ثانيا. والاجتهاد الفردي لا يلزم إلا الفرد نفسه ومن يؤيده في أفكاره. والثاني، أي الشرط الاجتماعي يتحرك ويتغير دائما وأبدا، ومن المستحيل أن يتوقف الحراك الاجتماعي بموعظة، أو أرشاد، أو فتوى دينية، اللهم إلا بالزجر والعنف واستخدام القوة، ولكن رغم ذلك إلى حين. فالنصيحة التي أسداها الشيخ الألوسي للعراقيين في نهاية القرن التاسع عشر أن لا يعلموا نساءهم، لأن التعليم من (البدع والأهواء) ربما وجدت لها قبولا واستحسانا داخل المجتمع العراقي وقتذاك. لكن، حتى قبل أن ينتصف القرن العشرون أصبحت (البدع والأهواء) التي حاربها الشيخ الآلوسي، أي تعليم النساء، من ضرورات الحياة ومتطلبات العصر، وبدأ العراقيون لا يكتفون فقط بتقديم «السيوف وزجاجات الخمر» لبناتهم، وإنما يشجعونهن على خوض القتال التعليمي، والسكر حتى الثمالة من زجاجات خمر المعرفة، فأصبح عدد الفتيات في بعض المعاهد التعليمية يفوق كثيرا عدد الفتيان، وأصبحت واحدة من هؤلاء (السفيهات) وزيرة عام 1959، وأخرى من (الشريرات) رائدة لثورة شعرية هدمت بناء ديون العرب، وثالثة (مجبولة على الغدر) تقتحم كلية الحقوق لتصبح أول امرأة بين تلاميذها. وكلما كانت الأيام تتقدم كان عدد «السفيهات الشريرات» العراقيات يزداد داخل المدارس والمعاهد و الجامعات، حتى أصبح «اللبيب من الرجال» العراقيين ليس ذاك الذي يمنع بناته من الذهاب إلى المدرسة، بل الذي يرسلهن أسرع من غيره إلى المدارس، بينما تحولت نصيحة الشيخ الآلوسي إلى نادرة يتندر بها الرجال قبل النساء. الشيخ نعمان الألوسي، وهو ليس الوحيد، بالطبع، كان يؤمن أيمانا راسخا بأن ما يقوله صالح لكل زمان ومكان، بغض النظر عن التحولات والتغيرات والمستجدات والمستحدثات الديموغرافية، والتكنولوجية، والثقافية، والأيديولوجية، والطبقية، وبغض النظر عن عملية التلاقح بين حضارات العالم .وإذا عذرنا صاحب (الإصابة في منع النساء من الكتابة)، لأنه مات ولم يركب سيارة، فكيف نعذر من يحرم قيادة المرأة للسيارة في زمن يكاد أن يختفي فيه القلم والدواة والحبر والكتاب الورقي، وتشيع فيه تكنولوجيا تشخص جنس الوليد وهو في بطن أمه.[c1]عن/ موقع ( إيلاف ) الالكتروني[/c]