الثائر الشعبي وأمير شعراء العامية
كتب/ توفيق حنا :محمود بيرم التونسي هو الشاعر العظيم الذي عبر أصدق تعبير عن مصر وعن مقاومة الشعب المصري وكفاحه ونضاله في سبيل حريته واستقلاله بعد هزيمة أحمد عرابي واندحار العرابيين عام 1882.ولد محمود بيرم التونسي عام 1893 في مدينة الإسكندرية، في أحد أحيائها الشعبية الفقيرة، وهو حي (السيالة). نزوح والده من تونس وهجرته إلى الإسكندرية واستقراره بها عام 1890، كان فرارا من الاضطهاد والظلم والمطاردة التي يلقاها الأحرار التونسيون، وكان الرجل يتقن حرفة النسيج، ففتح حانوتا في سوق المغاربة.وفي هذا الحانوت استمع الطفل إلى ألفية ابن مالك وإلى لامية الطغرائي وإلى أعمال الخليل بن أحمد وتلميذه سيبويه. وذلك من علماء الأزهر الذين كانوا يترددون على حانوت صديقهم التونسي.وعندما بلغ بيرم التاسعة انتقل إلى حلقة الدراسة في مسجدي أبي العباس المرسي والبوصيري.ثم يترك هذا كله.. وينتهي به الأمر إلى أن يفتح محل بقالة يبيع فيه ويشتري ويقرأ، وكان يشتري الكتب القديمة، وبعد أن يقرأها يبيع في أوراقها بضاعته. وكان يتابع إنتاج الزجالين عثمان جلال والنجار وإمام العبد وعبدالله النديم شاعر وخطيب الثورة العرابية.وفي عام 1918 وفى أثناء اللحظات القاسية والثقيلة التي عاشتها مصر في الحرب العالمية الأولى، نظم بيرم التونسي قصيدة (المجلس البلدي) التي نشرها محمود إبراهيم في جريدته (الاكسبريس) وقد عبرت هذه القصيدة عما يعتمل في ضمير الشعب المصري، وحفظها المصريون، وصاروا يرددونها في مجالسهم ومنتدياتهم، وكانت هذه القصيدة سبب شهرة بيرم التونسي، كما كانت بداية صداقته بالفنان السكندري العملاق سيد درويش، هذه الصداقة التي دامت حتى فرق بينهما نفي الشاعر بيرم التونسي وإبعاده عن مصر.يا بائع الفجل بالمليم واحدةًكم للعيال وكم للمجلس البلديكأن أمي بل الله تربتهاأوصت فقالت: أخوك المجلس البلديأخشى الزواج فإن يوم الزفاف أتىيبغي عروسي صديقي المجلس البلديأو ربما وهب الرحمن لي ولداًفي بطنها يدعيه المجلس البلديوألف الشاعر بيرم التونسي لصديقه الموسيقي سيد درويش عدة أوبرات أشهرها أوبرا (شهر زاد) و(الباروكة)، كما ألف أغاني وأدوارا كتب لها الخلود، منها دور: ضيعت مستقبل حياتي في هواكوازداد على اللوم وكتر البغددةودور:أنا عشقت وشفت غيري كثير عشقعمري ما شفت المر اللي في هواكوفي عام 1919 قامت الثورة المصرية، وارتبط الشاعر بيرم التونسي بالشعب المصري وأصبح لسانه الصادق الجريء، وصار القلم في يده مشعلاً يضيء طريق النضال والكفاح في سبيل الحرية والاستقلال.وأنشأ بيرم مجلة (المسلة) وعطلتها السلطات بعد ستة أعداد فقط، ثم أنشأ صحيفة (الخازوق) التي أوقفتها السلطات كذلك بعد عددين فقط.ثم صدر الأمر بنفي بيرم التونسي عام 1919 وكان ذلك ليلة عيد الأضحى، ونفذ الأمر صباح يوم العيد، وسافر تاركا في الإسكندرية زوجته وولديه.وفي المنفى بفرنسا، يذكر عيد الأضحى ويتذكر مصر واليوم الذي نفي فيه ويسجل حنينه في قصيده حزينة يقول فيها:يوم الدبايح كان آخر مواعيدكوقفت لك فرحان وانصب رايات عيدكوافرش لك الريحان واسمع زغاريدكزعق غراب البين فصلت أكفانيعالسين يا مصر مشيت إياك يسلينيعليه عبد جولييت تركي على صينيياما التقيت ورأيت جمال ينسينيوافتكر الهرمين تجري دموع عينيويتحدث بيرم عن نفسه، وهو في المنفى فيقول مخاطبا باريس:(ياباريز) يام بلاد برهيا مربيه لامرتينبعتت لك أم الدنياشاعر في الشعر متينيعمل أشعار لبرابرهوصعايده وفلاحين وتلامذة وأزهريهوخواجات ومفتشينعالج الشاعر بيرم التونسي الزجل والشعر والمقالات السياسية والاجتماعية الأدبية والقصة الأقصوصة - منثورة ومقطوعة - والأفلام والتمثيليات والأحاجي والألغاز والنوادر والأغاني والأوبريتات والمسرحيات والملاحم والمقامات.وبالنسبة للمقامة فقد احتفظ بيرم بشكلها وبنائها على الرواية والبطل كما فعل بديع الزمان والحريري واليازجى، ولكن الرواية والبطل يختلفان في مقامات بيرم عنها في مقامات بديع الزمان والحريري واليازجي، فالرواية عند شاعرنا بيرم يتعدد رواتها وليس رواية واحداً كعيسى بن هشام عند بديع الزمان أو كالحارث بن همام عند الحريري أو كسهيل بن عباد عند اليازجي، وهو يطلق على الرواة أسماء موحية مثل العاجز بن عميان، أو زعرب بن صديان، وقدم لنا بيرم خمسا وأربعين مقامة، وأبطال هذه المقامات جميعاً لا تبعد كثيرا عن شخصية المجاور الذي لم يكمل دراسته في الأزهر أو الذي انقطع عن الدراسة واشتغل بالأعمال التي يؤهله لها ما حفظه في (الكتاب) وما علق بنفسه من الدرس، وكأنه يحكي لنا فيها حياته الخاصة والعامة، وقد نشر هذه المقامات في مجلة (الإمام) في أواخر الثلاثينيات تحت عنوان (مقامات المجاورين).وبيرم يكتب مقاماته بالعربية الفصحى وأسلوبه سهل رشيق يطعمه بالعامية من باب التظرف أو المطابقة لمقتضيات الحال ويحسنه بالسجع ويوشيه بالشعر.قضى بيرم التونسي في المنفى عشرين عاما من عام 1919 - عام الثورة - حتى عام 1938 وألَف في هذه السنوات أزجالا وروايات ومقامات وانتقادات باللهجات العراقية والشامية والتونسية بجانب العامية المصرية.وقلد بيرم الشعراء المعاصرين وحاكى قدماء الأدباء غير المعاصرين وكتب على ألسنة كتابنا وشعرائنا ومفكرينا في مختلف العصور.وفي ظهر يوم 6 مايو/آيار عام 1938 وصلت الباخرة (بورسعيد) إلى مصر وكان وزير الداخلية في ذلك الوقت محمود فهمي النقراشي، وكان من المعجبين بشاعرنا فأصدر أمراً بالكف عن مطاردته، وعاد شاعرنا إلى الوطن واختار حي السيدة زينب، وأقام في شقة متواضعة في شارع النواوى بالقرب من السلخانة، واتجه إلى تأليف التمثيليات والأغاني الشعبية والقصص التاريخية، وقدم للسينما رواية (رابحة) و(عنتر وعبلة) و(مجنون ليلى) و(عزيزة ويونس) التي لم تمثل حتى الآن. ثم قدم للإذاعة المصرية (فوازير رمضان).وتوفي شاعرنا الكبير يوم 15 يناير/كانون الثاني عام 1961.وبعد وفاة شاعرنا بشهرين أصدر أستاذنا الجليل المرحوم أمين الخولي عددا خاصا في مارس/آذار 1961 من مجلة (الأدب) عن (أديب الشعب محمود بيرم التونسي) علامة وفاء وتقدير وإعجاب لهذا الشاعر المناضل والأديب الوطني الثائر بيرم التونسي.وخير ما اختتم به هذا الحديث قصيدة بيرم التونسي التي لخص فيها حياته وجعل عنوانها (حياتي):الأوله: آه .. والثانية آه .. والثالثة آهالأوله: مصر .. قالوا تونسي ونفونيوالثانية: تونس .. وفيها الأهل جحدونيوالثالثة: باريس .. وفي باريس جهلونيالأوله: مصر .. قالوا تونسي ونفوني جزاه الخيروالثانية: تونس .. وفيها الأهل جحدوني وحتى الغيروالثالثة: باريس .. وفي باريس جهلوني وأنا مولييرالأوله: مصر .. قالوا تونسي ونفوني جزاه الخير واحسانيوالثانية: تونس .. وفيها الأهل جحدوني وحتى الغير ما صافانيوالثالثة: باريس .. وفي باريس جهلوني وأنا موليير في زمانيالأوله: شربتني من فراقها كأس .. بمرارة والثانية: آه فرجتني على الجمال ينداس .. يا خسارة والثالثة: يا ناس يا ريتني كان لي فيها ناس .. وأدارهالأوله آه .. والثانية آه .. والثالثة آهالأوله اشتكيها للي أجرى النيلوالثانية دمعي عليها غرق الباستيلوالثالثة لطشت فيها ممتثل وذليلالأوله آه .. والثانية آه .. والثالثة آه.