أمسية في مسرح (البلشوي)
في ربيع عام 1989م كنت قد استضفت للمشاركة في مؤتمر دولي يعنى بشؤون البيئة تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة للبيئة في موسكو عاصمة روسيا الاتحادية وقد حرصت لجنة إدارة المؤتمر أن تنظم لأعضاء الوفود في أوقات فراغهم الزيارات للمعالم السياحية والثقافية للتعرف على حضارة وثقافات شعوبها وفنونها وتنوع أعراقها وعاداتها وتقاليدها.. فزرنا برج موسكو والسيرك الروسي العالمي وعدداً من المتاحف، كما زرنا مبنى جامعة موسكو الذي يعتبر واحداً من توائم ثلاثة كان قد أمر ببنائها جوزيف ستالين ونفذ البناء الأسرى الألمان بطابعها الفريد، والمبنيان الآخران هما وزارة الخارجية الروسية وفندق أوكرانيا وسط موسكو. ومن هذه الزيارات أيضاً “مسرح البلشوي” حيث تم حجز التذاكر لنا لمشاهدة إحدى حفلاته، وكان من الطريف أن من يريد مشاهدة إحدى حفلات هذا المسرح عليه أن ينتظر عاماً أو عامين من يوم شرائه التذكرة، مع مراجعته المستمرة لإدارة المسرح حتى موعد الحفلة، وأعتقد أن هذه الحالة مازالت قائمة حتى يومنا هذا، أما نحن لحسن طالعنا فقد شفع لنا في ذلك أننا كنا ضيوفاً على موسكو.وكلمة “البلشوي” باللغة الفرنسية تعني “الكبير” فالمسرح إذن هو المسرح الكبير، ومسرح البلشوي يعد من أعظم مسارح الدنيا قاطبة وهو صاحب التاريخ العريق إذ تخرجت من تحت ستاره أعظم فرق “الباليه” وأشهر راقصيها.تلك الأمسية التي كان موعدنا فيها لمشاهدة الفرقة الأوركسترالية السيمفونية الروسية والاستماع إلى معزوفاتها حين كانت في قمة مجدها.. وكان يأتي للاستماع إلى معزوفاتها المتذوقون من كل فج عميق، ولأنني لأول مرة في حياتي أحضر مثل هذه الحفلات، إذ لم آت إليها إعجاباً ورغبة بقدر ما كان برنامجاً معداً لنا، فما إن رفع الستار عن الفرقة الموسيقية “الطويلة العريضة” التي لم أتمكن رغم براعتي وقوة ملاحظتي آنذاك من أن أحصر عددهم.. حتى دوى من بعض الحضور في القاعة الذهبية الخلابة ذات الشرفات المتعددة التصفيف الذي هز القاعة هزاً، وكان في مقدمة الفرقة قائدها، أو كما يسمونه بالمايسترو الذي يعتبر من أعظم فناني روسيا ومن أبرز قادة فرقها السيمفونية والحائز على وسام بطل الاتحاد السوفييتي “سابقاً” فما أن سمع هذا المايسترو بداية التصفيق حتى أدار ظهره للجماهير في حركة درامية والتفت إلى فرقته الموسيقية مؤشراً بعصاه الصغيرة بالشروع بالعزف.. حينها سمعت أحد رفقتي إلى الحفل وهو من الأردن الشقيق يسأل : هل لاحظت قلة ذوق واستكبار المايسترو؟؟ إنه لم يعر التصفيق أي أهمية، بل أعطانا ظهره بدلاً من أن ينحني ويحيينا!، وكان يتوسطنا المترجم المرافق الذي بسرعة بديهته رد علينا : “لا ليس هكذا!! إن المايسترو أراد أن يؤكد للمستمعين أن التصفيق إنما هو تحية موجهة احتراماً للفن وليس لشخصه.. لأن شخصه لا يساوي شيئاً بغير فنه.. وهو لا يرى أن يتقبل تصفيق الناس له قبل أن يسمعهم من فرقته الموسيقية فنه”. ثم تابع المترجم واسمه (اليكسي) : “عليكم بالصبر والاستماع دون أحاديث جانبية أو حركة لغير سبب أو انفعال في غير وقته”!. فقد كانت فعلاً كل القاعة تصغي إلى فنه في سكون وخشوع، إلى أن انتهى العزف.. فالتفت المايسترو إلى الجمهور الذي استقبله واقفاً بالتصفيق المدوي غير المزعج.. وحينها فقط انحنى هذا الفنان العظيم للجمهور ليتقبل منه التحية والتقدير.. مسرعاً بالإيماء إلى فرقته كلها كي تنهض وتتقبل معه التحيات والإعجاب.. كما تقبل هو باسمها تلك التحية ورضا المستمعين من الحضور.