د. محمد حسين حبيب :(المسرح الرقمي قادم). جملة تصدرت طرحنا لمشروع نظريتنا (المسرح الرقمي) منذ عام 2005 وتحديداً في 27 /11 في ثقافية صحيفة (المدى) العراقية العدد 544، تلاها عدد من المقالات وبحثان علميان عن مشروعنا ذاته. وكنا ابتداءً قد قدمنا تعريفا للمسرح الرقمي هو (المسرح الذي يوظف معطيات التقانة العصرية الجديدة المتمثلة في استخدامه الوسائط الرقمية المتعددة في إنتاج أو تشكيل خطابه المسرحي، شريطة اكتسابه صفة التفاعلية)، وان هذه الأخيرة - أي التفاعلية - وبحسب د. بريان دايفد فيلبس في مقالته (الدراما التفاعلية) أغسطس/اب 1996، هي (شكل جديد من أشكال المسرح الذي يختار أشكالاً تقليدية ثم يقلبها رأسا على عقب، وهذا ما يجعلها قريبة الصلة بالمسرح البيئي أو المفرط أو المسرح النفسي، لكنها في النهاية ليست من هذه الأنواع المسرحية مطلقاً). مسرحية (فيس بوك) التي عرضت على خشبة المسرح الوطني ببغداد مساء 30 مارس/ آذار 2011 من إعداد وإخراج عماد محمد، وتمثيل محمد هاشم، هي منودراما سعت إلى توظيف التقنيات الرقمية الجديدة في تأسيس سينوغرافيتها التي حاول المخرج أن يجعلها سينوغرافيا رقمية بجدارة حيث هيمنت شاشة الحاسوب الرقمية على فضاء المسرح والصالة بوصفها العلامة الكبرى المتصدرة للعرض، فأمامنا صفحة الفيس بوك الشخصية للممثل الرئيس نفسه حيث تظهر فيها صورة الممثل محمد هاشم الأصل، وفي صالة المشاهدين - على الجدار الكبير يسارنا - يهيمن (كيبور) ضخم و(كف ابيض) تصوره لنا كاميرا فيديو مباشرة حين تتحرك أصابعه لتطبع بين لحظة وأخرى بحسب ما تتطلبه اللحظة الدرامية المراد التعبير عنها بكلمات ذات دلالة كبيرة كالحب والحرية وغيرها. إلى جانب المؤثرات الصوتية المستندة أيضاً إلى برامج الرقمية نفسها فضلا عن الصورة الحركية لبعض المقاطع الفيلمية. المتن الحكائي للمسرحية عبارة عن ليلة في حياة معارض أو محتج شاب، يحاول التعبير عن احتجاجه (صراعه مع ذاته) أولاً ومع السلطة ثانيا عبر منولوغ طويل يتخلله عرض صور وثائقية عن استلاب الإنسان وقهره في صفحة (الفيس بوك) نفسها، تمثلت في صور فيلمية لسجن ابوغريب العراقي، وهي ذات الصورة المتداولة إعلامياً التي تكشف عن تعذيب السجناء العراقيين من قبل القوات الأميركية والتي أطلق عليها حينها (فضيحة ابوغريب). فضلاً عن كلمات مثل: الأرق، والحب، والحرية، والديمقراطية. لنعرف في النهاية أن هذا المحتج لا يطلب سوى مناقشة ومحاورة السلطة بهدف تحسين الوضع الإنساني اجتماعياً واقتصاديا واعتباريا. وكان هذا واضحا منذ لحظة إعداد نص العرض حين لجأ المخرج المعد عماد محمد إلى مصادر إعداده لروايتين مهمتين ولكاتبين كبيرين هما: عبدالرحمن منيف في روايته (شرق المتوسط)، وغائب طعمه فرمان في روايته (آلام السيد معروف). في الرواية الأولى تتصدر لائحة قانون (حقوق الإنسان) الدولية والتي لم تجد لها مكانا هذه الحقوق جميعها في أحداث الرواية عبر معاناة وتعذيب وقتل بطلها، وكذلك في الرواية الثانية نشهد مدى الإحساس بالإحباط والقهر الروحي والاستلاب الفكري الذي يعاني منه بطلها الشارد والمنعزل عما حوله والمطارد من قبل الجميع. على وفق هذين المصدرين كان المعد المخرج - باختياره لمصادر إعداده - قد قبض على خطه الدرامي ومسعاه الفكري إلا أن العرض لم يفد كثيرا من هذين المصدرين (الروايتين) سوى اعتماده على جوهرهما الفكري حسب، فكلا الروايتين تدافعان عن حقوق الإنسان، مع ما أفاد منه من جمل أساس من (شرق المتوسط) تحديداً. أرضية المسرح امتلأت بالخوذ البيض بإضافة كرسي متحرك. اللون الأبيض عكس طهارة الشخصية ونبل فعلها التحريضي عبر (هذا السكون الأخرق الذي لا تمزقه الأصوات)، وعبر هذا التوظيف لشاشة الفيس بوك التي تم تفعيلها إخراجيا باستنطاق الشخصية الافتراضية من داخلها (حيث يظهر لنا الممثل نفسه بشخصية رجل سياسي) محاوراً ومعترضاً على احتجاجات البطل بل ويحقره بين لحظة وأخرى بألفاظ نابية وباللهجة الشعبية العراقية. فشاشة الحاسوب هنا وظفت لأغراض وثائقية مرة ولإيجاد علاقة ما بين الشخصية الواقعية الموجودة على خشبة المسرح والشخصيات الافتراضية التي تظهر على الشاشة مرة أخرى. من هنا كان العرض محاولة للجمع بين ما هو مادي واقعي إلى جانب ما هو رقمي تقني لصناعة خطابه المسرحي بين عالمين: افتراضي وواقعي، متجاوزا فكرة (النص الرقمي التفاعلي) الذي أرساه الكاتب المسرحي الانجليزي تشارلز ديمر منذ عام 1985 عبر موقعه الالكتروني، حين يبدأ بكتابة نص مسرحي ويترك تكملة أحداثه للمتصفحين المتفاعلين مع شاشة الانترنت هذا أولاً، وثانياً أن هذا العرض اقترب من كونه عرضاً مسرحياً رقمياً باستخدامه لبعض التقنيات الحاسوبية لا جميعها من الأنظمة الرقمية المونتاجية والصوتية والضوئية الأخرى .. لكن العرض في النهاية كان باحثاً عن لغة جديدة فعلا تمثلت بهذا الشكل الجديد. ويبدو أن الإجابة عن سؤالنا السابق ظلت قائمة حيث كيف يمكن للمسرح أن يكون رقميا بكليته كي يشطب على كل الأزمنة والأمكنة بينه وبين جمهوره؟. وفي نهاية العرض تحركت الأشياء والملحقات مع تحرك الفضاء بأجمعه وذلك حين نزلت مجموعة من الخوذ العسكرية والهراوات من فوق الخشبة من أعلاها وهذا دلالة واضحة للسلطة العليا التي بدت هنا غير راضية عن هذا الاحتجاج، مع ارتفاع شبكة خيطية وخوذ أخرى، شكلت كلها حاجزاً ما بين بطل المسرحية وبيننا كجمهور جعله المخرج جزءا من العرض حين وضع الكيبور بجانبنا. وفي هذه اللحظات يظهر فيلم وثائقي للمظاهرات العراقية الأخيرة (مظاهرات الجمعة) في ساحة التحرير لنشهد وجود بطل المسرحية ذاته إلى جانب معد وخرج المسرحية ذاتها، وهما يتظاهران ويحتجان ويطالبان بحقوق الإنسان التي شرعتها لائحة القوانين الإلهية والوضعية. وهما وسط عدد كبير من الفنانين العراقيين وفئات وشرائح أخرى من الشعب العراقي. هذا التقارب والتداخل ما بين التمثيلي واليومي أوجب العرض مشروعية خطابه وقداسة رسالته التي قام من اجلها. لم يقع في المباشرة ولا الشعارية، برغم انه عبرهما وبحيلة العاب الخدع المسرحية خرج من هذه المباشرة لأنه استند إلى سر إخفاء الصنعة المسرحية واللحظة البعيدة عن أفق توقعنا كمتلقين بمعنى أن المخرج تعاكس مع أفق التوقع السردي لأنه كان بإزاء عالم رقمي متشعب ومتعالق عبر كولاج مسرحي مختصر ودلالي ابرق لنا سريعا بوحه واهتزازه الكبير والمنبعث من (زمن فقدت فيه الإيديولوجيات العتيقة حضورها وشاخت .. نحن في عصر التواصل والمثاقفة الذي كان نتاج التقدم التقني المتسارع .. عصر تبدل الهويات الثقافية والمعرفية، أقول من رحم هذا كله ولدت مونودراما فيس بوك .. وهي دعوة للمشاركة مع آمالنا وأحلامنا مستقبلنا و تطلعنا..) بحسب كلمة المخرج الذي أهدى العمل إلى شباب الفيس بوك في بروجرام العرض الذي اعتمد هو الآخر على رقمية الفوتوشوب تصميما له في صورة مونتاج رقمي تظهر فيها مظاهرة جماهيرية وعلى رؤوس المتظاهرين بيدق شطرنج الملك وخلفه بيدق الجندي الحارس الشخصي له. حوى البروجرام أيضا أسماء 18 فنياً وتقنياً للمونتاج وللتصوير الفوتوغرافي ولسيناريو المادة الفيلمية بجانب تقنيات أخرى يحتاجها هذا النوع من العروض المسرحية الرقمية أو التي تسعى أن تكون رقمية. فهل سنصل إلى اليوم الذي تتم فيه إزاحة فن المسرح الحالي إلى الهامش من اجل الإبقاء على عرض مسرحي ذات صورة رقمية خالصة تتحطم فيه قواعد الوحدات الثلاث والبناء الدرامي مثلما تتحطم فيه الأزمنة والأمكنة، ولا نشم خلاله رائحة الممثل بلحمه ودمه لان فيه تظهر كائنات شخصيات افتراضية وسط عوالم افتراضية هي الأخرى ربما لا تشبهنا ولا تشبه عالمنا هذا لا بالصوت ولا بالصورة؟. إذا كان الأمر قد نجح مع ريشارد فورمان في مسرحه الفلسفي (الهستيري الانطولوجي) حين عمد فيه إلى مسرحة عمليات التفكير في مجموعة من الصور عالية التعقيد والتي تحل محل الدايلوغ، وتكون علي علاقة متداخلة مع الكلمات بصفة دائمة؛ فهل سننجح نحن؟ وهل يبقى من حقنا التأكيد على جملتنا: المسرح الرقمي قادم؟.