في أمسية الجمعة عند الساعة الحادية عشر من (إحدى ليالي ابريل عام 1931م) لفظ الأديب المهجري اللبناني العربي الكبير جبران خليل جبران أنفاسه لتلتقي بارئها في احد مستشفيات نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، وبموته انطفأ قبس في دنيا الفكر والحكمة والأدب والفن في عالمنا العربي . وبعد أشهر أربعة نقل جثمانه من الولايات المتحدة ليدفن في تراب وطنه لبنان تنفيذاً لوصية له وهو على فراش المرض .. وعرف عن جبران انه لم يكن يهاب الموت بل كان له أكثرتشوقاً ليأخذ به نحو الخلود من بعد عمر . وتحضرني في مناسبة كهذه هي ذكرى وفاته الثمانين بعض كلمات له خالدة، قال فيها:( اشتاق إلى الأبدية لأنني سأجتمع فيها بقصائدي غير المنظومة، وصوري غير المرسومة) وفي رسالة له إلى الأديبة مي زيادة كتب لها (أتعلمين يامي أني مافكرت في الانصراف- الذي يسميه الناس موتاً- إلا وجدت في التفكير لذة غريبة، وشعرت بشوقٍ إلى الرحيل). اليوم وبعد هذه السنين الطويلة التي ولت، وأنا أفتش في بعض المجلات اللبنانية القديمة التي يرجع صدورها الى فواتح الستينيات من القرن الفارط وبعد ثلاثين عاماً من وفاته اثار انتباهي في احداها رسالة كتبها جبران الى الاديبة ماري يني جواباً على طلب لها وقتها، جاء السماح للأديب الكبير عمر فاخوري أن يترجم له- لجبران- كتابه( النبي) إلى اللغة العربية، فجاء في رده..” ما أكرم الأستاذ فاخوري راغباً في ترجمة ( النبي) .. ولكن إليك هذه الحكاية الصغيرة ... منذ مدة طلب إلي القسيس انطونيوس بشير أن اسمح له ترجمة الكتاب، وقد سبق له أن ترجم كتابي (المجنون) فمن الناس من قال أحسن ومنهم من قال لم يحسن، أما أنا فكنت ولم أزال على الحياد.... فإذا شاء بعد ذلك وفعل فهو حر أن يفعل مايريد بما يريد حيثما يريد. وعلى سبيل المثال أقول أن مؤلفي ( النبي) ترجم مرتين إلى الألمانية ، فترجمة ظهرت في مونيخ والثانية في فينيا، وترجمة في مدينة مدريد، إلى أخر ما هنالك من اللغات في هذا العالم الغريب والعجيب .... هذا العجيب والغريب، الذي يترجم أقوالنا، ولايعرف شيئاً عنا، ويمدحنا كأفراد، ويتعامى عن ماساتنا كأمة!!”. هذه نفحة من نفحات أدبه الراقي كثير الدلالات الحكمية ، حين يكتب رسالة. أما مكانته كرسام مصور ومقدرته في الرسم فتفوق عند العارفين مكانته الأدبية .كما يذهب الكثيرون من أمثال الفنان النحات الفرنسي الكبير رودان الذي عاصره وكذلك الأدبية جيني بيمونتال دي بوثا التي قالت عن رسم لوحة وجه السيد المسيح كان قد رسمها جبران:( انه قد جمع فراسة السلالة التي نسل منها السيد المسيح وهي اقرب الرسوم إلى وجهه الذي فيه من روح الله، ففي نظرته العطف الإنساني الذي لايستهوي أعيننا فحسب،بل وقلوبنا المخطوفة أمام وجه يعلوه جبين يشع منه نور الهي) وأما ميخائيل نعيمة فقال عن إبداعه :(أن رسوم جبران تدهشني لأنها علاوة على مافيها من رشاقة وانسجام وألفة الألوان، فهي قوة كنت المحها في البدء في فن جبران، ولكن ما رأيتها قط مجسمة إلى هذا الحد، ولقد كان جبران في آخر أيامه متفرداً في فنه ليس في هذا الشرق وحده بل وفي الغرب الذي يعد ذاته مملكة الفن ومهد الفنانين.وجبران حي في وجدان البقاء .. الم يقل ( وما الأمس سوى ذكريات اليوم .. وما الغد سوى أحلام اليوم)؟؟!!.