كتب /سمير عبد الرحيم أغاربما أنت قصيدة بلا عنوان أو قصيدة بلا معنىأو ربما أنت حرف لا يخص أحداً سوايفي آخر المطافمشينا معاً في مدينةِ الجوعِ والمزابل الليلية.كنا ثلاثةوالقمر الأسود يحرسنا بعبثه الأسود.ثم يواصل تكملة هذا المقطع بالصور والألوان ذاتها:ياليتني بقيت مخدوعاً من دون قمر أسودوياليتني بقيت قمراً أسودمن دونِ كلب رمادي.هنا أعطى الشاعر القمر لوناً أسود وهي صفة متشائمة إلى حد ما وكان من الممكن أن يعكس العنوان ليصبح القمر رمادياً والكلب أسود، لتصبح خلفية القصيدة سوداء أيضاً بقمرها وكلبها الرمادي . والرمادي هو لون العنصر الناتج عن الاحتراق ويوحي بمعنى العدمية والانتهاء فضلاً عن سمته الضبابية، من العنوان إلى داخل الجوع والموت من هول المفاجأة .... الخ .استطاع الشاعر أن يوظف اللون الأسود بتدرج وأن يغير حاله من حال إلى حال. ويمتاز أديب كمال الدين بأنه يقيم علاقة بين لونين فيصرح بأحدهما ولا يصرّح بالآخر بل يتحسسه عبر عنصر ملازم له. يقول في قصيدة (طفلة):مثل ورقةٍ سقطت من الشجرةِ اللعوب،مثل ريشةٍ اقتلعت من جناحِ طائر ماوجدت الطفلة نفسها:اسمها لا ينطبق على ذاكرتها.وفي مقطع آخر يقول:أي طائر هو؟صرخت الشجرة باسم الطائرلكن الاسم ضاعفي الهواء الأسود القاسي.فالسماء كانت ممطرة جداً.... ص74هنا اللون الأسود يضج بالدمار الذي كثيرا ما يتكرر عند الشاعر في قصائده، فالهواء أسود وأضاف له تعاسة أخرى وهي القساوة وربما أراد بها المطر الأسود الذي سقط على العراق أثناء حرب الخليج الأولى، عندما تشبعت السماء بالدخان الأسود في ذلك اليوم الممطر . (والصواعق تملأ الأرض / والرعد كان هو الآخر / مبتهجاً حد الجنون). وفي قصيدة (قرد الصحراء) يقول:وحين يصيب القرد الملل يؤخذ إلى الغابة البعيدةليلتقي بأصدقائه القردة،فيعرض القرد عليهممزهواً هدايا الملك:موز ذهبي،تفاح ذهبي،عرموط ذهبي.تفرح القردة لمنظرِ الفاكهةِ العجيبة ص 82 خلفية هذا القصيدة الطفولية.. اللون الذهبي، وهذا اللون كما نعرف يشير إلى المعدن المعروف بلمعانه وهو ليس من ألوان الطيف ويرمز إلى التفاخر والجمال والجاه , هنا ملك وقرد وصحراء ، ولهذا كانت هي هدايا القرد من الملك عندما يفشل القرد الذي أتى به الملك من الصحراء (حيث يعيش الملك) في إقناع بني جنسه في مضغ الفاكهة وهي الموز الذهبي والتفاح والعرموط : حيث ترمي القردة الفاكهة الذهبية على الأرض وتتسلق الأشجار لتطلق اصواتاً منكرة . وتعود إلى الغابة. لقد كان اللون الذهبي رمز التفاخر للملك وتأكيداً على طبيعة معدن الفاكهة . حيث يرفض إنسان أن يغير واقعة ويأكل غير ما تربى عليه وهي حكاية وصورة شعرية أنيقة هادئة جاء بها الشاعر ليحقق الترابط الدلالي بين التفاخر واللون الذهبي.يقول في قصيدة (العلقم) ص87 .. المقطع الثاني:المشهد قاسٍ حتماً.فكراج السيارات موحش ومظلموأنت تهرب من شمس سوداء إلى شمس خضراء.ينبغي عليك وأنت في صميم طفولتك اليوميةأن تخفي أسماء أمطاركَ الموسميةويختتم القصيدة ..وأنتبه للدالِ: دال الطفولة،دال الأمطارِ الموسمية،دال الحبرِ الأخضر والشمسِ الخضراءولباس الحبيبة الأخضرخلفية هذه القصيدة أوالمشهد أيضاً الأسود ابتدأ من العنوان وكراج السيارات الموحش المظلم والشمس السوداء / والبطيخ مر كالعلقم / البطيخ صار أكثر مرارة من الموت / والموت اختفى في ماضٍ / يجيد لبس القناع والسير وسط الظلام /. هنا التقاط دقيق للجزئيات والعناصر المألوفة المكونة للمشهد العام للوحة الفنية.في قصيدة (بلا عنوان) يقول في المقطع الثاني:كان المشهد رمادياً.والقصيدةأعني الجملةأعني الكلمةبحروفها التسعةعصية على الولادةمادامت عصية على الوصول إلى نفسهافي آخر المطاف!خلفية هذه القصيدة اللون الرمادي، وهذا اللون لون البؤس والانتهاء،والقصيدة تبنى هنا على وفق شكل اللوحة التشكيلية العين تنقل المشاهد ثم تعيد خلقها . وقد تكرر هذا اللون في قصيدة (قمر أسود وكلب رمادي). أما في بقية قصائد المجموعة فتمثل الألوان بشكل آخر غير لفظي كما في قصائد: ذات ربيع، حاء باء، جمجمة، عابر سبيل، طاغية. يقول في قصيدة (طاغية):الحرف الذي لا معنى لهسيشعل للنقطةِ حرباً لا معنى لها،حرباً تأكل الزرع والضرع.وحين يتم له ذلكسيجبر الحروفَ كلهاعلى المشاركةِ في حربه الغبية هذهخلفية هذه القصيدة..النار والرماد، في سباق مع حروفه مبالغ في عشقه لها ، والرماد ناتج النار وهو معنى الحرب التي تشعل كل شيء وفي معنى الحرب التي تأكل الزرع والضرع. حيث الطاغية سقط وسقطت معه رموزه . الشاعر هنا لا يسرد وإنما يؤشر وتأشيراته تعد حاله لواقع منحرف، أما في قصيدة (ذات ربيع) ص 93ذات ربيعأقامت الحروف معرضاً في الهواء الطلق.رسمت الباء امرأة عاريةتبيع البيض في السوق.ورسمت الحاء دماً يتدفقوجلادين يتقاتلون كالوحوش.وفي مقطع آخر يقول:ولونت النقطة مشهد الارتباكحيث يعزي الأنبياء والأولياء والشعراءبعضهم بعضاًبمناسبة حضور مشهدِ الجنازةهنا تسربت مفردة الفنون التشكيلية (الرسم) إلى الشعر وتداخلت مع بنيته ويتجلى ذلك في استثمار فعل الرسم والمعرض / ذات ربيع / رسمت الباء امرأة عارية / ومن خلال هذه القصيدة يتبين التأثير على هذه التبعية بتكرار فعل الرسم أكثر من مرة وكذلك معرض الرسم في الهواء الطلق. رسمت الحروف الباء امرأة عارية، الحاء دماً يتدفق. كأن الشاعر يرسم ما يراه (وبشكل إنطباعي) . وبتكرار فعل الرسم يتأكد لنا أن الشاعر رسم لوحة تشكيلية من خلال المفردات حتى العنوان يتأكد فيه معنى واسم لوحة (ذات ربيع) توحي أن القصيدة لوحة فنية يرسم بداخلها منظر الربيع ، فالشاعر يجعل القارئ يرسم في خياله الصورة التي رسمتها القصيدة. خلفية هذه القصيدة هو لون الربيع وهو لون التجدد والانبعاث (الأخضر).نأتي إلى (الفراغ) الذي يشكل حيزاً مهماً في اللوحة التشكيلية وكيف وظفه الشاعر أديب في قصائد المجموعة. والفراغ من العناصر الفاعلة في تشكيل اللوحة التشكيلية فضلا عن اللون والضوء والظل والنقطة. ويأتي توظيف الشاعر لعنصري اللون والفراغ في تشكيل لوحته الشعرية باستثمار المعنى الدلالي لهما. يقول في قصيدة (جاء نوح ومضى):النجدة!نعم، يا صديقي الحرفدعنا نصرخ الآن:ال........ن............ج.............دة!وفي المقطع الأخير يختتم القصيدة :أرجوكأنا لم أفقد الأمل بعد!أرجوكال........ن............ج.............دة!ال........ن............ج.............دة!ال........ن............ج.............دة!هنا يستند الشاعر أديب إلى تشكيل إلى الفراغ محاولا إثراء القصيدة بتنويعات دلالية وإيقاعية فالفراغ داخل الجمل الشعرية يتيح للشاعر التصرف في عناصر بناء القصيدة . وقد ساعدت التقنيات الطباعية الحديثة في هذا ويبدو أن نزوع الشعراء إلى هذا النوع من الكتابة هو نزوع للحداثة. والفراغ في النص الشعري ليس تكوينا أو تأليفاً خارجيا (وإنما هو تجسيد لوعي وحركة ولمسار شعري) 4 .وتقطيع كلمة نجدة إلى حروف وفراغات وترتيبها بشكل يوحي بالتبعثر والانشطار وترتيب الحروف بهذه الطريقة الأفقية (وهناك الطريقة العمودية) في تأكيد دلالية النص إذ يوحي بتناثر الكلمة وتشظيتها... الموت الذي ينتظر الحرف ما يجعله يلفظ كل حرف طالباً الاستغاثة بصرخة مدوية تتردد في كل سهلٍ ووادٍ . يستنجد ولكن ما مِن مغيث، وقد توافق هذا الترتيب مع حركة المعنى إذ يوحي تقطع الكلمة بتقطع أنفاس الغريق طالباً النجدة .إن مجموعة (أربعون قصيدة عن الحرف) قصائد كتبت بجمال الألوان وقدرتها التعبيرية قصائد جسدت الأشياء والحياة بالألوان عن وعي قصدي من خلال توظيف شعري في اللوحة التشكيلية سواء من خلال وظيفتها الدلالية المباشرة أو غير المباشرة. وقد سبقني الشاعر عبد الرزاق الربيعي في قراءته اللونية للمجموعة السابقة للشاعر أديب كمال الدين عبر مقالته: (دلالات الألوان في مجموعة)ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة).إن عدد القصائد التي اتخذت اللون عنوانا لها أربع قصائد. أما القصائد التي اتخذت اللون كدلالة ومعنى فهي عشرون قصيدة . وقد طغى اللون الأسود على أغلب القصائد إشارة صريحة ومعنى, وهذا يؤكد عتمة الاتجاه النفسي للشاعر وحتى (إذا مزجت الألوان الأخرى بالأسود فإنها تقتم وتفقد نورانيتها) .وحين نضيف غلاف المجموعة المطبوع باللون الأسود كاملا لأضفنا عتمة أكثر وأكثر للوحة. وما يؤكد العلاقة أكثر أن كلمة الموت ذكرت في سبع عشرة قصيدة وهذا يعني نصف القصائد تقريباً. ففي قصيدة (تناص مع الموت) ذكرت كلمة الموت سبع عشرة مرة، وفي قصيدة (اعتذار) تسع مرّات وفي( كنتَ سعيداً بموتك) خمس مرات وفي(عن المطر والحب) خمس مرات، وفي (معاً على السرير) ثلاث مرات ... إلخ.. ومن أمثلة ذلك:حينما متلم يشأ أحد أن يخبر الحروفبالنبأ الأليم..... (قصيدة: حاء باء).كنتَ سعيداً بموتكحين رأيت مشهد موتي.............(قصيدة: كنت سعيداً بموتك).وسيتنفس معك:نفسه ثقيل أثقل من دخانِ الموت............(قصيدة: الشبيه).لا شك في أن (أربعون قصيدة عن الحرف) (ديوان فريد عن الموت والقصيدة التي تكتب على أكفان الميتين) . فخلفية اللوحة (القصائد..) التي هيمن عليها اللون الأسود بدءاً من الغلاف، حيث في منتصف اللوحة صورة أديب رُسِمت بضبابية معتمة ومن حوله تتطاير الحروف والنقاط وهي تؤدي طقوس الحياة. وهنالك حرف مبحر يلتصق بجانبه يسعى للفرار من اللوحة-الموت تناثر إلى بقايا رماد وأنفاس مثقلة بهموم الغربة.لقد وظف شاعرنا اللون في تحديد جوانب مهمة من عناصر قصيدته ورسمها بخطوط وألوان وفراغات ومعارض وعبر بها كما قال هوراس (كما يكون الرسم يكون الشعر) كما عبر عنها عِبر صور ذهنية تثير من خلال التشكيل باللون مزيداً من الكشف عن عوالم الشاعر والنص معاً.(أربعون قصيدة عن الحرف) أحاسيس مثقلة بالغربة مثيرة للمشاعر , تملك قدرة فائقة في استنطاق الطبيعة بهمساتها اللونية البالغة السحر وتجسّد براعة الشاعر في توظيفه لهذه المفردات لرسم الصورة الشعرية بطرائق متعددة.