قصة قصيرة
تنسيم الحبيبتطبعين على وجهك تلك البسمة الكالحة، تخرجين من صومعتك المشبعة برائحة صخب بائت، تلحدين أنينك في قعر روحك، لا يشغلك ضجيج الحافلات ولا اكتظاظ الطرقات، تصلين إلى مكانك المعتاد كل صباح وتوافينهن.تدخلين بأناة أمامهن جميعا، تذرفين كلماتك برتم بارد كأن لاشيء يعنيك، تجلسين على مكتبك لحظات ثم تقومين بحرد، تملأين وجه صحنك، تبتلعين طعامك، غصصك، تثنين على الطاهي، لكنك رغم كل ذاك...مفتضحة!حينما تظهرين، تخرس كل المواضيع المتداولة، تلفظ بقاياها الألسن لتحتجب خلف الدهشة لجرأتك، والحيرة من جمودك، تتلون وجوههن جميعا بلون الاستهجان، تحاولين كسر ذلك بالسؤال عنهن، عن أحوالهن، عن برنامج العمل السقيم، فتعود تلك المواضيع والحوارات تملأ بهو المكان، لكن..يبقى موضوعك سيدها.أنت، جذوة اللهب في ذلك المبنى العتيق، تمضغ الأنياب لحمك في الأروقة، في ممرات الفصول، وربما على لوحة الدرس أيضا!تفتح زميلتك المذياع على نشرة الصباح، تتشرع أبواب ألمك وأنت متيقنة من أن (اسمه) الأحب سيتصدر النشرة، لذا تقومين، تلتقطين فتات حزنك، وبعض أوراقك وتقولين:(بإذنكن، حان موعد الدرس).يشيعنك بنظرات متقدة، تطلق سهام التثريب، الازدراء، و ربما بعض الرثاء .تبتعدين عنهن بخطوات تسابق بعضها تائهة في دهاليز المبنى، تصعر لك الجدران وجناتها، و يبصق عويل جرس الحصة أنينا في مسمعك،حتى نباتات المدرسة الداخلية لا تتعاطف معك بل تحجم عنك بغرور نرجسة، تودين أنك الآن في منفاك، في بيداء بوحك المترامية الأوجاع، خلية من أوراق التوت، تهتن سماواتك الآسية بديم أمومتك الملدوغة.تسيرين في الممرات كما سار النبأ الفجيع على أرض قلبك المدحوة، تفتحين باب الفصل، تنتظرك المقل الودودة العذراء التي لم تلتقط بعد علاقتك بـ ( صوره ) المبثوثة في الصحف، تغسلك بترحيب صادق..فتسكنين.متى بدأ كل ذلك؟ متى اختلسك اللهث في طريق المعاش الأجرد لتسلميه لمثل هذه العاقبة ؟ بالأمس، كنتِ تناغينه في مهده، تشاطرك نجوم الليل آمالك، ويبزغ صبحك مضمخاً بروائح قربه، وهو نبع الرواء الوحيد في قاحل حياتك، متى اكتسى وجهه بعشب الشباب ليشق له طريقا مختلفا لا يشبهه ؟ها أنت ترين عينيه في كل الصحف، عيناه اللتان نهلت منهما السكينة بعد ليالي عطش مديدة، ومدتاك بما يشبه بعض العزاء، كانتا موطن سكناك، جزيرة الأمن في خضم حياتك الهائج، فأصبحتِ لعينيه أماً وأباً، تذوبين زهور العمر في درب السعي من أجل توفير ما يحتاجه / يلزمه / يشتهيه، من أن أجل أن يحظى بقرة عين لم تكن يوما من نصيبه.يتلون سؤالك داميا في بياض لوحة الدرس :- ( أي الصور مرت على عينيه الحبيبتين؟”صورتك طير يذبح بسكين عنف أبيه في ليالي الخوف،حتى التقطته محلقة في سماء طلاقك مهيضة الجناح، و صورتك آيبة في نهاية يوم شحيح، منهكة، مبهوظة بعناء اللهث خلف لقمتكما و تسديد الفواتير المتناسلة، ثم صورتك وأنت غارقة بين أوراقك، عاجزة ..تتساقط أوراق خريف أمومتك، تعجزين حتى عن سرد قصة المساء واليوم - أي الصور تمور على عينيه بعد ما استحدث؟صورة الثعابين ( الكبيرة ) التي اتخذت منه بوقا لبث سمومها فانجرف بتهوره الغر في تيارها ؟ حتى إذا ما تبدت الأمور تباعدت عنه وبدلت جلودها؟صورة قاعات الجامعة التي لفظته، كتبه، مذكراته، وظلال مستقبله الموسوم بجناية لا تغتفر؟صورة الزنزانة الرطبة ، وظلال القضبان الموحشة، أم تراهم عصبوا عينيه؟!وأنتِ؟!من يخمد حرائق أمومتك؟ من يأخذ من بئر الذكرى صورته البريئة النقية ليبدلها بصورة المجرم الأخطر؟يزأر الجرس، تنتهي الحصة، تعودين، تلقي إليك إحداهن الوجع المتوقع بعد جلسات القضاء:- (أو علمتِ ، حكم على ابنك بـ............)ترين شفتيها، يصم سمعك عن كل صوت، تضعين رأسك بين ذراعيك، وتغيبين في أمطار البكاء.