أضواء
إنّ أي منظومة تعليمية لا تلتفت التفاتة حقيقية للحاضر والواقع المعاش ، ولا تقدم مفرداتها على أسس ترتكز على أسئلة نحو ما مدى فائدة ما تقدمه للمتعلم ؟ وما أهميته ؟ وهل يتناغم وفكر الجيل الحالي كما تناغم مع فكر من سبقه؟ وهل بقاؤه ضرورة في وقت لا نطبقه فيه ، و لا نبقي عليه إلا لمجرد الشعور بطمأنينة زائفة ؟ وما مدى ملاءمته لثقافة العصر وعقول المتلقين ؟ ثم ما الذي يمكن أن يضيفه لهم على الصعيد المعرفي والوظيفي ؟ إن منظومة كهذه هي منظومة تكبلها أغلال الفشل ، مهما ادعت سعيها وحرصها على تطوير فلسفتها وآلياتها . والمؤسف في هذا الأمر أن التعليم حتى درجات عليا، لم يفلح في فضّ سجون العقل وكسر تلك الجدران الصماء المحيطة به ، وبقيت نسبة كبيرة من نتاجه عصية على الانفتاح على واقعها ومشاكلها الخاصة أو حتى على مشاكل مجتمعها ! ولم تعد الأنثى في هذا المناخ توأد جسدياً كما كان الأمر في الجاهلية ، فما زالت عملية وأد حقوقها ومكتسباتها ومقدراتها العقلية والإبداعية وترويضها ضاربة أطنابها في مستويات عدة؛ تعليميا وإعلاميا ومجتمعيا ! بل إن هناك من يصر على أن تبقى المرأة حبيسة منظومة أفكار وعادات متوارثة يعود جلها إلى مرحلة مجتمعات العبودية التي ظلت تأثيراتها الثقافية تمارس فعلها كموروث حي بدرجات متفاوتة ، وتعمل على تشكيل وعي المرأة لنفسها وللعالم من حولها . فلماذا تسير أمور التعليم على هذا النحو في هذه الجزئية المتعلقة بالمرأة بالذات ؟ وهل من تفسير ممكن لها ؟ لا شك في أن مفهوم الغرس هو المسؤول عن ذلك ، و ( الغرس) في علم التربية يعني الأمر الذي يعاد تكراره في مراحل عمرية مختلفة من أجل أن يبقى عالقًا في ذهن الدارس ، و في وضعنا الراهن يقابل ( الغرس ) الأسلوب الذي يتبعه بعض معلمي المواد الدينية ، وهو أسلوب كفيل بتخريج أجيال نمطية في فكرها وثقافتها ووعيها للأمور الحياتية ، وذلك في مجمل السياق العام، أما في السياق الخاص القائم على الأدلجة ، فقد أنتج أسلوب الغرس نماذج كارهة للحياة وكل ما فيها من حمولات جميلة ، أجيال مشدودة إلى الموت ، وحتى لو فكّروا في عيشها فستكون على طريقتهم المتطرفة التي تقول بأنهم (ناجون) ، وبأنّ الآخرين (هالكون). فلم يخرج المتطرفون والإرهابيون من فراغ ؛ بل من تعبئة ذهنية على مفاهيم الموت والقتل والدمار اتخذت آلية الغرس وسيلة ناجحة لتحقيق ذلك ، وإلا فما معنى أن يعمد القائمون على مناهج الدين على اختزال نعيم الجنة في الحور العين ؟ وهل يمكن لأحد أن يبرر لنا لماذا يغفل أحد معلمي التفسير للصف الأول المتوسط عددا من آيات المقرر ، ليورد قوله تعالى ( إن للمتقين مفازا ، حدائق وأعنابا ، وكواعب أترابا ) طالبا شرح بعض الكلمات ومنها كلمتا ( كواعب وأترابا ) ؟ أما إجابة الطالب فلا تدل على شيء أكثر من دلالتها على الضعف الواضح لدى الطالب في اللغة العربية إملاء ، واستخداما لكلمات عامية مبتذلة ، إنما السؤال الذي أتمنى أن تجيب عنه وزارة التربية والتعليم هو: ماذا يستفيد طفل في بداية المرحلة المتوسطة من معلومة تتعلق بجسد الحورية وعمرها ؟ سوى ولع بعض القائمين على المناهج بمفاهيم لا تفيد طلاب تلك الفئة العمرية ، وهو الأمر الذي يؤكد التساؤلات التي طرحناها في صدر المقال . لقد منح الإسلام المرأة حقوقا وصلت إلى حد الاحتجاج، فهاهي أم سلمة عندما شعرت أن الوحي يخاطب الرجال دون النساء في أمر الهجرة، هبت مسرعة إلى رسول الله قائلة : يا رسول الله يذكر الرجال في الهجرة ولا نذكر ؟ فنزل قول الله تعالى : ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) . أي إن المرأة في زمن نزول الوحي كانت تناقش وتحتج على نص منزل فيأتي الوحي بنص آخر يقر بحقها ، ومساواتها بالرجل في العمل والأجر . من هنا تبدو تأريخية النص الذي يستجيب للمتغيرات والتحولات والاحتجاجات !! فكيف في مناهج تعليمية ينبغي لها أن تضع في رأس أولوياتها عامل الزمن ومتغيراته ؟. وإذا نظرنا بشكل موضوعي إلى ما جاء به الإسلام من تعاليم نجد أنه قد ساهم في نقل موقع المرأة الاجتماعي إلى مرحلة أكثر رقيا ومنحها بعض الحقوق التي رفعت من شأنها وجعلت منها كائناً إنسانياً يتمتع بالكرامة والتقدير ، وفقا للحدود المسموح بها داخل الإطار العقلي والمعرفي لتلك الفترة التاريخية ، وقد وردت العديد من النصوص القرآنية التي تنظر إلى المرأة من وجهة نظر أكثر إنسانية وأكثر عدالة : (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء...) ، ( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون). لكن أنصار « التيار المتشدد» سعوا لفصل قضيتين أساسيتين ترتبطان بحقوق المرأة ، الفصل بين حقوقها كامرأة وبين حقوقها كمسلمة ، واعتبروا الفصل هو السلاح الذي من خلاله يستطيعون مواجهة المفاهيم الداعية إلى تحرر المرأة من أسر التقاليد والفكر المتشدد وإعطائها حقوقها الإنسانية كاملة غير مجزأة، فهم يثيرون مشروعهم الضيق بهدف التفريق بين حقوق المسلمة وبين جميع نساء العالم ، ويستندون في ذلك إلى فهم تاريخي يقول إن الإسلام طرح مشروعا متكاملا للمرأة يحتوي على الكثير من الحقوق ، لكنهم فشلوا في المواءمة بينه والراهن العصري .إنه حتى في العصور المبكرة للإسلام ، كان الالتفاف على النصوص وفق تفسيرات معينة لها عملا ذكوريا خالصا ، فهاهو ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى «الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض » يقول الرجل قيم على المرأة أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت ... لأن الرجال أفضل من النساء ، والرجل خير من المرأة في نفسه ، وله الفضل عليها والإفضال . وفي هذا التفسير ما فيه من مخالفة صريحة لمقاصد الخطاب القرآني في مساواة المرأة بالرجل في العمل والأجر والعقل ، وأن القوامة لا تعني إطلاقا فضله عليها ، بل في قدرته على الإنفاق ، تلك القدرة التي تفوقت فيها بعض النساء على بعض الرجال !.ومن ذلك الالتفاف الدعوة إلى لزوم المرأة بيتها تحسسا ذكوريا ضد الاختلاط ، وتخوفا مبالغا فيه من انفلات المجتمع ، وعدم التعويل على الضبط الديني لأخلاق الناس ، وعندما تضعف مشاركة المرأة المجتمعية ، فإنها لن تساهم في تحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للوطن ، وحين تقدم العادات والأعراف رؤية مشوهة للتعاليم الدينية المتعلقة بالمرأة ، ويجبر المجتمع في كل مستوياته على الرضوخ لها ؛ فإن الظلم يجثم على المرأة ويجعلها أكثر شبها بمن يعاني إعاقة لا يد له فيها ، أما حين يعجز الإعلام في زمن الثورة المعلوماتية عن تغيير بثه للصورة النمطية المشوهة للمرأة ، فإن ذلك يجعل وضعها أكثر قتامة . لقد تنامت ظاهرة العنف بصورة لافتة ، تجاه الفتيات الصغيرات والزوجات ، ولا ريب في أن العنف يكثر في المستويات الاجتماعية التي ليس لها حظ كبير من التعليم ، كما أن الفقر يشكل عبئاً يزيد من نسبة الاضطرابات النفسية والسلوكية المختلفة. وإذا تساءلنا: ما الذي يجعل النساء يصبرن على أوضاع كهذه ؟ نجد السبب في ذلك يعود لرغبة الزوجة في الحفاظ على بيتها من أجل الأطفال ، والحرص على سمعة الأسرة ، وتأثير المفاهيم المجتمعية التي تبيح الاعتداء الجسدي، إذ تعده حقا من حقوق الرجل !.كما لا نبرئ مناهج التعليم التي تجعل للمرأة منزلة أدنى من منزلة الرجل ولا تنفك تركز على بعض المفاهيم الدينية الحافة بالمرأة ، كنقصان العقل والدين ، إذ توظفه في غير سياقه الذي أورده الرسول صلى الله عليه وسلم فيه ، كما تشجع على تزويج القاصرات اللاتي لا يستطعن الدفاع عن حقوقهن أمام تسلط الآباء وهوس - الأزواج الأكثر مالاً وعمراً- بالصغيرات ، بمبررات لا تنسجم وحال الفتيات في هذا العصر ، والتركيز على طاعة الزوج طاعة عمياء بإيراد نصوص في هذا الشأن ، وإهمال نصوص أخرى تؤكد على حق المرأة بالرعاية والعدل ، أي تأدية الدور المثالي ، الذي يعني التجاوب مع كل رغباته ، وتحمل إساءاته بصبر وجلد ، كسبا لرضاه الذي يؤهلها لدخول الجنة فيما إذا مات وهو عنها راض . إن وعي المرأة بحقوقها المشروعة جزء مهم من إستراتيجية تطورها ، إذ يساهم جهلها بها إلى عدم قدرتها على تغيير واقعها وإزاحة حجب الظلام التي حفت بها ، لكن التغيرات الطفيفة التي حدثت في موضوع المرأة ، لم تكن تغيرات عميقة في وعيها بقدر ما هي تغيرات شكلية ، فالمرأة اليوم تعاني من ازدواجية تتمثل في التقليد والحداثة ، السلفية والعصرية ، المحافظة والتغيير ، لذا فلا بدّ من معالجة إشكاليات المرأة في ظل هذه المتغيرات . وهي معالجة ينبغي أن تستنفر لها جهود كل المؤسسات ذات العلاقة بالمرأة من تعليمية وإعلامية واجتماعية ووظيفية .[c1] كاتبة سعودية