كتب /سعيد محمد سالمينولد هذا الكاتب الهجاء الساخر (1667 - 1745م) في العاصمة الأيرلندية (دبلن)، من أبوين إنكليزيين، وكان الشاعر (درايدن) ابن خاله، كما أنه كان يدعى بصلة قربى مع الشاعر (هيريك)، ولد سويفت يتيماً، فقد مات أبوه قبل مولده، فكانت هذه فاتحة النكبات في حياته، فترعرع في فقر مدقع. وكان من زملائه في المدرسة الكاتب المسرحي (كونكريف)، ومع أن سويفت دخل كلية الثالوث بجامعة دبلن، فإنه لم يظهر أي قابلية أو مقدرة، وكان مشاغباً، عكر المزاج، سيئ الطبع.من آثاره الأدبية : (حكاية حوض غسيل) وهي نقد لاذع ساخر لفساد الدين والعلم في المجتمع الأيرلندي، و (معركة الكتب) والتي يصف فيها بأسلوب تهكمي معركة بين القدامى والمحدثين، و(يوميات ستيلا)، وتلقي هذه اليوميات الكثير من الأضواء على أخلاقه الغريبة.وبالرغم من أنه كان يمقت الأيرلنديين،ويعتبر الإقامة في أيرلندا ضرباً من ضروب النفي،فقد اهتم بالشؤون الأيرلندية،وكتب مدافعاً عنها، وأحرز شعبية خارقة بعد أن وضع كتابه (رسائل درا بيير).وفي سنة 1726م نشر في لندن (رحلات جلفر) أشهر كتبه وأبقاها على الدهر، وهو تهكم مر، لاذع. وفي رأي بعضهم فإنه موجه ضد البشرية ومنطوٍ على كرهها. وقد كتب عن هذا الكتاب الشهير في رسالة إلى بعض أصدقائه يقول فيها :“لقد أنهيت رحلاتي،إنها جديرة بالتقدير، وستصلح العالم بشكل مدهش”.والحق أنها كتبت لتميط اللثام عن حماقات البشرية ورذائلها، وعلى حد تعبير (سويفت) نفسه: “لتغيظ العالم بدلاً من تسليته”. ولكن الذي حدث كان عكس ما توقعه (سويفت) تماماً، فإن العالم ولاسيما صغار أبناء العالم لم يشعروا بأي غيظ، بل على العكس استمتعوا بالكتاب كل الاستمتاع، فكان نجاحه منقطع النظير حال ظهوره في الأسواق.وإذا ما استعرضنا الكتاب بصورة عامة وجدناه أدب محاكاة تهكمية ساخرة لقصص الرحالة التي كانت شائعة يومذاك إلى حد إذا ما احتاج سويفت إلى أن يصور عاصفة أو زوبعة بحرية عمد إلى استنساخ ذلك من كتاب خاص بالرحلات البحرية بالحرف الواحد.و (جلفر) رحالة يقوم بمغامرات ومخاطرات في أربعة أقطار خيالية مختلفة، ويستغل (سويفت) كل قطر من هذه الأقطار الأربعة للتهكم على البشرية بأشكال متباينة أولها وأكثرها انطباعاً في الذاكرة هي بلاد “الليلبوت”، حيث سكانها مؤلفون من أفراد يبلغ حجم أحدهم جزءاً من اثني عشر جزءاً من الحجم الاعتيادي للإنسان، فيقع (جلفر) في قبضتهم أسيراً وهو نائم، ويؤخذ إلى الإمبراطور، فيصف سويفت الإمبراطور ورجال حاشيته متهكماً ساخراً بصورة غير مباشرة من البلاط الإنكليزي المعاصر له. وكان يومها جورج الأول على عرش بريطانيا ولكن ذكريات الملكة آن التي ناصبته العداء كانت لا تزال عالقة في ذهنه، وها هي ذي مثلاً يعكس فيها الوضع السياسي يومذاك: “ هناك حزبان في هذه المملكة، يتميز أحدهما بالكعوب العالية والآخر بالكعوب الواطئة غير أن كعب حذاء صاحب الجلالة اخفض من كعوب حاشيت ولو أن ولي العهد يبدي بعض الميل إلى الكعوب العالية فأحد كعبيه على الأقل أعلى من الآخر ما يجعله يعرج في مشيته ويتراقص في خطواته”.ولو رجعنا إلى التاريخ الإنكليزي لوجدنا أن جورج الأول لم يكن على وفاق مع ولده الوحيد وولي عهده الذي أصبح فيما بعد جورج الثاني، إلى درجة أنه أقام بلاطاً ثانياً مستقلاً عن أبيه لأن الأخير منعه من دخول بلاطه، فاضطر هذا إلى أن يقيم بلاطاً خاصاً به مع زوجته الأميرة كارولاين وحولهما جميع الناقمين على جورج اندول ومدرائه.فبلد الليلبوت أو الأقزام في رحلات جلفر تصوير ساخر لما كان عليه الأمر بين جورج الأول وولي عهده، ويهرب (جلفر) من بلاد (الليلبوت) ليجد نفسه في (بروبد ينكناك) بلد العمالقة فيتقزز جلفر من منظر الجسم البشري، وقد تضاعف حجمه.ويدهش كذلك عندما يرفض ملك العمالقة تعلم سر صناعة البارود منه، وهو تعليق ساخر من سويفت على استعمال البارود بنطاق واسع في العالم الواقعي، وتكون الرحلة الثالثة إلى البحيرة الطائرة في (لابوتا) المليئة بالعلماء وهم شاردو الذهن إلى حد أنهم لا يعون أو يسمعون شيئاً ما لم يقم قيم خاص يعرف بصاحب المخفقة بضربهم بمخفقته ضرباً رفيقاً على آذانهم فيجتذب انتباههم، ويفصح (سويفت) في هذه الرحلة عن كراهيته للعلماء، فقد كان يعاني من موجدة شخصية إزاء الرياضي الشهير إسحاق نيوتن، صاحب نظرية الجاذبية، فيصف (سويفت) بتهكم أكاديمية لمشاريع مضحكة سخيفة من نحو استخلاص أشعة الشمس من مادة الخيار.أما الرحلة الرابعة والأخيرة فأكثرها مرارة. إذ يزور (جلفر) بلداً حيث مسخت الخيول الذكية الأصيلة إلى حيوانات تعرف “بالياهو”، وهي ضرب من البهائم لها هيئة إنسان ركبت فيها جميع الرذائل التي يتصورها العقل (واللفظة من ابتداع سويفت)، ولا يزال الكثير من تهكمات سويفت رائجاً في أيامنا هذه، فالشخصيات العظيمة لا تزال في بعض أقطار عالمنا المعاصر محاطة بأصحاب المخفقة أو السكرتاريين الذين يقررون أي شخص يجب أن يزور العظيم ويقرب منه وأي شخص يجب أن يمنع ويبعد.ومن مفارقات القدر أن سويفت كان يكره الأطفال، بل كان في الواقع كارهاً للناس، ذلك أنه أصيب بخيبة أمل في حياته، ولكن الناس أحبوه ومجدوه،وتمتعت أجيال عديدة من الأطفال بكتابه الشهير (رحلات جلفر) على مدى قرنين ونصف أو يزيد. ورغم كراهية سويفت للجنس البشري، فقد أوقف ثلثي وارداته لوجوه البر والإحسان.
أخبار متعلقة