قصة قصيرة
كان يشعر بالمرض يزحف إلى جسمه .. كان يحس بالآم في رأسه وفي ساقيه وفي ظهره .. وفي كل جزء من أجزاء بدنه الذي هده التعب .وحار في أمره الأطباء .. قصد أكثر من طبيب يشكو علته .. وفحصوه بدقة وعناية وأجروا له التحاليل اللازمة .. وجاءت النتائج كلها مؤكدة أنه يتمتع بصحة طيبة، وأنه ليس هناك مبرراً لهذه المخاوف التي استبدت به.ولكن الآلام ظلت تلازمه وتلح عليه .. وتقض مضجعة وعبثاً حاول أن يطرد الأوهام التي كانت تملأ رأسه وصدره .. وتصور له أن نهايته قد اقتربت .. وأن الموت يقف له بالمرصاد.وعندما هرب النوم من عينيه، ووجد الرجل أن حالته تسير من سيء إلى أسوأ، لم يجد مفراً في النهاية من أن يحمل متاعبه وآلامه، ويذهب إلى عيادة أحد الأطباء النفسانيين لعله يجد عنده الدواء لهذا المرض الخفي الذي استعصى علاجه .. وقد كانت تلك هي نصيحة زوجته وأم أطفاله التي هالها ما رأته من أمر زوجها .. وهو يقضي الليالي جالساً على مقعده، من دون أن ينطق بكلمة واحدة .. حتى الطعام لم يكن يقربه الا عند ما يحس بالجوع يعض معدته .. فإذا أكل أشفق على نفسه من الألم الذي يصيب معدته.وطرق الرجل باب عيادة الطبيب النفساني .. ودعاه الى الجلوس، ففعل ولم ينتظر فقد أنطق يشكو إليه آلامه ومتاعبه: (إنني لا أنام ياسيدي .. إن الصداع يكاد يحطم رأسي، وعسر الهضم يمزق أحشائي .. عرضت نفسي على أكثر من طبيب .. ولكنهم فشلوا جميعاً في اكتشاف سر علتي قل لي يا سيدي ماذا أفعل؟ وكيف أخلص نفسي من هذه الأعراض التي أحس بها دون أن يدري الأطباء لها سبباً ..وراح الطبيب يتأمله في جلسته على المقعد الكبير المريح الذي وضعه أمام مكتبه ! ولم يجد الطبيب مشقة في اكتشاف سر علة الرجل .. فقد كان الاضطراب يبدو واضحاً عليه .. كان يرفع ساقه ليضعها على أختها، ثم لا يلبث أن ينزلها بعد لحظات .. كانت قسمات وجهه كلها تعبر عن انفعالات شتى تعتمل في داخله .. كان يحرك يديه بعصبيه ظاهرة، ثم لا يلبث أن يرى على طرف المكتب القريب منه، حتى لا تظهر تلك الرجفة التي تهتز لها أصابع يديه.وتكلم الطبيب النفساني أخيراً، قال:أنت مريض فعلاً يا سيدي، ولكنه مرض غير عضوي هذا الذي تشكو منه .. إنك تعاني من حالة نفسية .. ولن أستطيع أن أفعل لك شيئاً الا إذا حدثني بصراحة.قل لي ماذا يدور في رأسك، وفيم تفكر؟ فإذا فعلت ربما استطعت أن أساعدك في التغلب على مشاكلك ..وربما خلصتك من آلامك ومتاعبك !ونظر الرجل إلى طبيبه نظرة توسل ورجاء .. وفتح الرجل سريرته أخيراً وقال:سأتكلم يا سيدي .. سأفتح لك قلبي، وسأروي كل شيء بصراحة : (لقد نهبت ثروة أبناء شقيقي .. كنت وصياً عليهم بعد وفاة والدهم، وأغراني الشيطان .. فأبحت لنفسي أموال هؤلاء اليتامى .. كنت أعطيهم الفتات، بينما أحتفظ في جيبي بنصيب الأسد .. ثم أستيقظ ضميري فجأة:وبدأت أشعر بأثر الجريمة، التي اقترفتها .. إنني أتعذب يا سيدي .. أريد أن أكفر عن جريمتي، ولكنني لا أدري ماذا أفعل ولا كيف أبدأ!.وقال الطبيب: (لا تحزن ففي يدك أنت وحدك العلاج لكل أمراضك .. خذ هذا القلم واكتب صكاً لأبناء أخيك مبدياً أسفك لما حدث .. واطلب منهم الصفح.وفعل .. وحمل الرجل الشيك والرسالة ووضعهما في مظروف .. تم مد يده للطبيب شاكراً مودعاً .. ولكنه فوجئ به يقول: سوف اصطحبك الى الخارج.وخرجاً معاً .. ومشياً في الشارع .. وفجأة توقف الطبيب عند أول صندوق بريد .. وأخرج الرجل المظروف من جيبه ودس به في الفتحة الصغيرة .. وتوقف برهة، ثم ما لبث أن انفجر باكياً .. وأخرج الطبيب منديله من جيبه ليجفف الدموع التي ملأت عينيه.قال الرجل، وقد أشرق وجهه بابتسامة امتزجت بدموعه :شكراً لك .. شكراً يا سيدي .. فقد شفيت نعم، إنني أحس أن الحياة قد عادت تدب في عروقي من جديد بعد اعترافي بالخطأ وعودة الحق إلى أصحابه.