نبض القلم
معظم الشرائع الدينية تمجد العمل والعاملين، والشريعة الإسلامية تعتبر العمل والعاملين عنصراً فعالاً في سبيل كسب العيش، بل وتعتبره أبرك طرائق الكسب جميعها، وترى أن كل مسلم مكلف بالقيام بعمل نافع لنفسه وأهله ومجتمعه، وتتجه الوصايا النبوية إلى الحض على العمل، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “أفضل الكسب ما كان من عمل اليد”. ويقول عليه أفضل السلام: “ما أكل ابن آدم طعاماً قط خير من عمل يده” ويقول كذلك: “إن من الذنوب ما لا يكفره إلا السعي في طلب الرزق”.والله سبحانه وتعالى سخر الكون للإنسان ليعمل فيه فقال: “هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه” والشريعة الغراء حين تحض على العمل، إنما تصون المجتمع من الإصابة بداء الفقر، فالعمل مطلوب لأن فائدته لا تعود على العامل وحده، وإنما فائدته على الجماعة كلها. ويقرر فقهاء الشريعة أن لكل فرد الحق في اختيار العمل الذي يباشره بما يتفق مع قدراته ومواهبه، ويدعون إلى تقرير هذه الحرية له، بحيث لا يحول دون تحقيقها أي قيد يستند إلى عدم انتسابه لطبقة معينة أو عدم حيازته لمركز معين، وبهذه الروح السمحة يعالج الإسلام مشكلة العمل، فالكفاية وحدها أو المقدرة هي المعيار لأهلية الفرد للقيام بالعمل من عدمه، كما يكفل الإسلام تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين العاملين كافة وأساسه تحريم أي امتياز يستمده صاحبه من سيطرة ذوي السلطة والجاه، بهدف ضمان حرية العمل، وتحرير السعي المشروع من كل عقبة تعوق نطاقه.وفقهاء الإسلام مع تقريرهم لمبدأ تكافؤ الفرص في السعي المشروع لا يقرون وجوب المساواة بين العاملين في ثمار هذا السعي، بل يقرون بالتفاوت الفطري بين الأفراد في الملكات والمواهب والجهد والمؤهلات والخبرة والإخلاص.. وغيرها، ما دامت الفرص متكافئة ومتاحة للكافة. واستناداً إلى هذه النظرة المنطقية بتفاوت الأفراد في القدرات والمواهب، فإن تبعة الاختصاصي عند التقصير في أداء واجب العمل الذي تخصص فيه أكبر من تبعة العامل العادي. وذكر بعضهم أن التربية الإسلامية يجب أن تقوم على مبدأ تمكين كل ذي موهبة من القيام بالعمل الذي يناسب موهبته، وقال الإمام الشافعي: إن الأمة كلها مطالبة بمقتضى قانون التكافل الاجتماعي بتحقيق ذلك، وتمكين كل ذي موهبة وكل متخصص في أي علم أو فرع من أن يؤدي ما هو قادر على أدائه، وبهذا يتحقق مبدأ تكافؤ الفرص أمام الجميع، كل بحسب قدراته واستعداداته.وفي الوقت الذي تقرر فيه الشريعة تكافؤ الفرص أمام الناس تحيط هذا المبدأ بسياج من الضوابط السلوكية الاقتصادية، فتحمي الإنسان من تجاوز الحد المرسوم في ابتغاء الرزق، وتضبط غلواء الحافز الذاتي نحو المزيد من الكسب، سواءً أكان مشروعاً أم غير مشروع.وقد حقق الإسلام هذه الغاية بتقريره أن كل عمل عبادة، وأضفى على كل عمل صبغة تعبيرية، ذلك أن العبادة في الإسلام ليست مقصورة على الصلاة والصيام والحج وغيرها مما يقوي العلاقة بين العبد وربه، بل هي أعم من ذلك وأشمل،ويندرج في نطاقها كل عمل نافع. والعمل النافع لابد أن يكون متقناً، امتثالاً لتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”. وقال كذلك: “أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل”.[c1]* خطيب جامع الهاشمي (الشيخ عثمان)[/c]