محمد حسين هيثم
صعقني موت الصديق الشاعر والأديب محمد حسين هيثم وأوقعني في غياهب الحزن العميق . وفي غمرة الحزن والألم بهذا المصاب الفادح بموت صديق عزيز ، وشاعر كبير من شعراء اليمن في العصر الحديث ، أعياني البحث عن كلمات لائقة للرثاء قبل أن اكتشف أن قاموس اللغة لا يسعفني ، وأنني مفلس وقزم أمام هول الفاجعة ! ماذا يمكن أن يقوله المرء إزاء موت فجائي كهذا لشاعر بزغ نجمة كالشهاب وانطفأ كالشعاع سوى أن موته خسارة كبيرة للشعر ، وللأدب ، وللوطن ولعائلته ، ولأصدقائه ، ولنا نحن قبيلته الصغيرة التي تنتمي إلى الحرف النبيل ، والكلمة الشجاعة والإبداع الأصيل الذي ليس له نهاية . لقد أصابنا موتك أيها الشاعر النبيل بالحزن العميق والشجن الأسود ، والألم المترع ، فكيف سنحتمل ألم غيابك ؟ وكيف سنحتمل الحياة من بعدك ، والآم التجارب المخبرية الناقصة لا تتوقف ؟ في حضورك ، وبفضل الله وأمثالك من الشعراء الذين كانوا يلتقطون همومنا ، ويرون حياتنا البائسة ، وصورنا التي يفترسها المرض والجوع والظلم المزدوج من الغريب ، ومن ذوي القربى ، كنا قادرين على الاحتمال ، لانكم كنتم تدعوننا لعدم الاستسلام لليأس ، وللانخراط في الفعل والتسلح بإرادة الحياة حتى نستحقها ، ونستحق العيش الكريم ، والحلم بالقادم الأجمل . بعد أكثر من ثلاثين عاماً من العطاء الشعري والأدبي ، والمساهمة في إرساء قصيدة الحداثة في اليمن تعب قلب الشاعر الطفل وتوقف عن الخفقان ، وأسلم الروح . لكنه ترك لنا شعره وإبداعه الذي سيبقى بعد رحيله ولن يدركه الموت أو النسيان . وفي شعره بعض منا ، من همومنا ومعاناتنا ، من الآمنا ، ومن أحلامنا الكبرى ، فالشاعر لايكتب للتنفيس عن عذاباته وهمومه وحدها ، بل عن عذاباتنا وهمومنا أيضاً . وفي هذا العالم المادي ، كان ( كأي مبدع ) يشعر بالغربة بكل أنواعها ، غربة الروح والجسد ، وغربة الذات ، وغربة الفكر ، وزاد مرضه الأخير بالقلب من هذا العذاب.فالشاعر كثيراً ما ضاق ذرعاً بالقيود والجمود ، والشاعر يروم دوماً التحليق في الآفاق ويرنو إلى الحرية ، وهذا التصادم بالواقع كثيراً ما ولّد ثورة الشعر والشاعر على واقعة ، وجسم حالات الشاعر النفسية والفكرية لكن ينتج عنه في الأخير تجارب شعرية وإبداعية منفردة . ومعاناة شاعرنا الراحل مزدوجة تنبعث من الآم مرضه خلال السنوات الأخيرة الذي جعله يحس بأنه صار قريباً من الموت أكثر من مرة خاصة بعد أن أصيب مرتين سابقتين بذبحة صدرية ، وتشمل الآمه المعنوية التي تسببها رقة مشاعره ، ويقظة حسه ، ورهافة أحاسيسه ، ورهافته وحساسيته . فالشاعر يحمل همومه الذاتية ، وفوتها همومه الإنسانية في ذات الوقت . فعشق الحياة والجمال والحرية هي أقصى ما يمكن أن ينتزعه الشاعر من وجود بائس ، ومصير يائس يحس به أكثر من غيره بحكم رهافة حسه ، وطبيعته الشعرية ، ويراه في كل مكان . ولكن ذلك الحب والألم والشاعرية هو ما يجعل الشاعر يعيش المعاناة الإبداعية ، ويتكبد المعاناة الفنية والشعرية فوق احتمالاته لمعاناة الحياة .. لذلك فإن محمد حسين هيثم ألقى بمراسيه كلها على شواطئ الشعر ، ومرافئ الابداع ، وباح بأوجاعه إلى البحر والنخيل والتراب الذي ينتمي إليه في اليمن كأنه كان يحس بأن النهاية ليست بعيدة . ولعله في مقارباته الإبداعية تلك ، فتح عيونه على الحقيقة ، ففضل ألا يستغرق في متاهات الحياة اليومية ، تلك البقعة الضيقة التي لا تتسع للمبدع الحقيقي فانصهر في الإبداع ، في الشعر يقاوم به بعد أن وجد فيه حقيقة تتجاوزه شخصياً لتسمو به إلى عالم الحقيقة الأبدية . مات محمد حسين هيثم ، مات " الرجل الكبير " ، وموت صديق أمر مؤلم وموت صديق عزيز وشاعر نبيل بحجم محمد هيثم مؤلم أكثر ، وقد المني كثيراً موته ، فقد فقدت صديقاً وزميلا عزيزاً كما فقدته وفقدته الأسرة الأدبية واليمن شاعراً . كان الراحل – رحمة الله وتغمده بغفرانه – على مقربة مني لسنوات عديدة ، أي منذ بدأ ينشر قصائده الأولى في جريدة " 14 أكتوبر " التي كانت الحاضن الأول لشعره وموهبته ولشعر زملائه " الشباب " ، تلك البدايات الجنوبية التي ظهرت في عدن في سبعينيات القرن الماضي ، لكنها سرعان ما أزهرت ، وأينعت ، وكبرت وحلقت مثل النسور تزاحم القمم العالية ، وأثرت وما تزال المشهد الشعري الحداثي في اليمن . تم صار أكثر قرباً مني ، عندما تزاملنا في صنعاء التي استقرينا فيها منذ عام 1987م ، تجمعنا قبيلة تنتمي إلى عالم الحرف والكلمة والإبداع في الشعر والقصة والصحافة ، وكان من أفرادها بالإضافة إليه وإلى العبد لله الشاعران أديب قاسم ومحمد ناصر شرا ، والقاص عادل ناصر ، والصحافيان أمين أحمد عبده ، وأحمد راجح.وخلال هذه السنوات اكتشفت عن قرب السجايا الإنسانية الرائعة التي يتمتع بها فقيدنا الغالي ، وتشاركنا معاً حالة القلق والهموم بالإنسان ، واللحظة ، والوطن ، والإبداع ، وبالجديد في عالم الثقافة بكل مكوناتها والتي كنا نتابعها عن كثب ، وكان الفقيد مولعاً مثلي بالقراءة ، بل قارئانهماً ليس في مجال الشعر فقط ، بل بالرواية والقصة والمسرح ، كما كان متابعا دؤوبا لكل جديد في عالم السينما والموسيقى والفن التشكيلي ، ولعل هذا ما منحة صفة المثقف الشامل فوق كونه شاعراً ، كما منح شعره تلك الأبعاد الشاملة حيث كان شعره بملأ الكون بكل تجلياته ، وتفاصيله ، وغموضه ، وعنفوانه ، وتفجره . ثم فرقت بيننا سنوات الغربة ، التي أمضيتها خارج الوطن بين سورية والإمارات حتى عودتي في العام الماضي ، فذهبت لزيارته في مكتبه في مركز الدراسات والبحوث اليمني في صنعاء حيث يشغل منصب ( نائب المدير). وقد لفت انتباهي وضعه الصحي الذي لم يكن على مايرام ، فقد زاد وزنه كثيراً ، أكثر من أن يتحمله ، وبدأ بطئ الحركة ، وغير قادر على السير ، ولا على الوقوف طويلاً ، ويلهث ويتعب لاقل جهد يبذله ، لكنه لم يتحدث عن مرضه ، ولا عن إصابته بأكثر من نوبة قلبية بل عن الإبداع ، عن الشعر الذي يجد فيه معادله الموضوعي ، وعن القصة التي هي عالمي الأثير ، وقد كان المرحوم أحد أول من يقرأ مخطوطات قصصي بالإضافة إلى الأديب أديب قاسم ، فبعد كل هذه السنوات من كتابة القصة والتي تقارب الأربعين مازلت دائم الشعور إلى الأستئناس برأي الآخرين فيما أكتب ، كأنني أكتب للمرة الأولى ، وقد كان محمد حسين هيثم قارئا ناقداً بامتياز ، لذلك كنت أثق بقراءته الناقدة لقصصي قبل أن أقدم على نشرها ، وكذلك هو الحال للصديق الأديب أديب قاسم الذي مازلت مواظباً حتى اليوم أن يكون أول من يقرأ مخطوطات قصصي القصيرة .وفي هذا اللقاء القصير ، أهداني الفقيد أعماله الشعرية الكاملة الذي أصدرته وزارة الثقافة ضمن إصدارات ( صنعاء عاصمة للثقافة العربية ) فكان ذلك أجمل هدية تلقيتها من صديق عزيز وشاعر كبير ، لانه أوصلني بما انقطع عني من تجليات إبداعه الرائع في السنوات التي غبتها عن وطني اليمن ، وبعد قراءتي له لمست مدى التطور الكبير الذي حققه محمد حسين هيثم منذ بداياته في السبعينيات ، إلى خطواته الوئيدة في الثمانينيات ، إلى وثباته الثائرة الواثقة في التسعينيات ـ، إلى تحليقه العالي نسرا في الألفية الثالثة ، فكانت ( الأعمال الكاملة – الجزء الأول ) حصيلة سنوات تزيد على الثلاثين من العطاء والإبداع الشعري الواثق المتنامي الذي نقلة من قمة إلى قمة أعلى .. وضم ست دوواين من شعره التي أصدرها من خلال تلك السنوات . واذكر إنني أبديت له خلال لقائنا القصير ذاك عندما أهداني ( أعمالة الكاملة ) ملاخطة لماذا لم يكتب على الغلاف ( الجزء الأول ) طالما لا يزال على قيد الحياة وقادراً على مزيد من الإبداع . واذكر أنه حينها نظر نحوي ، وابتسم كطفل وقال لي : يا محمد .. لايعرف أحدنا متى يداهمه الموت ويفارق هذه الحياة !! .. فهل كان يشعر بأن ساعة الحقيقة قد أزفت وأن عليه أن يترك وراءه مايبقى وهو الشعر ؟!مات محمد حسين هيثم الشاعر والإنسان وفيه شيء من قصيدة جميلة لم يكتبها بعد .. ومن غصة ، ومن إبداع لم يكتمل إلا بالموت والسكتة القلبية التي أودت بحياة الشاعر .. لكن الشعر لا يموت .