قراءة في صفحة من صفحات تاريخ اليمن
[c1]محمد زكريا[/c]السلطان الملك الناصر أحمد إسماعيل الأشرف أحد سلاطين وملوك الدولة الرسولية التي حكمت اليمن قرابة أكثر من مائتي عام ( 626 ـ 858هـ / 1228 ـ 1454م ) . وبالرغم أنه جلس على سرير المُلك زهاء 24 عاما( 803 ـ 827هـ / 1400 ـ 1424م ) إلا أن سيرته مازال يلفها الكثير من غيوم الغموض الكثيفة أو قل يشوبها الاضطراب الشديد والتناقضات الحادة فبعض المؤرخين يضعه في مصاف أعظم الملوك الذين ظهروا على مسرح اليمن السياسي وعلى وجه التحديد في عهد الدولة الرسولية. والبعض الآخر من المؤرخين ينعته بأوصاف سلبية تخرجه من ملة الإسلام من ناحية وتصفه أيضاً أنه كان مستبداً جباراً على رعيته من ناحية أخرى . [c1]دراسة سعودية قيمة[/c]ولكن استطاع باحث سعودي أن يرفع الستار عن شخصية السلطان الملك الناصر أحمد الأشرف ودوره الهام في إدارة شؤون الحكم ،وإعادة هيبة وقوة الدولة اللتين افتقدتهما منذ فترة ليست بقصيرة حيث تلاعبت بها الأهواء الشخصية ، وتقاذفتها الأطماع السياسية . والحقيقة لقد رسم الباحث السعودي الأستاذ محمد بن يحيى الفيفي صورة كاملة عن مسرح الأحداث السياسية الذي كان بطلها السلطان الناصر ،الذي كان الشطر الأول من حكمه وهو قرابة عقد من الزمن في مرحلة مواجهة مع حركات التمرد والثورة أو القوى السياسية المناوئة له التي أطلت برأسها في الكثير من مناطق اليمن وأخطرها قضية الأئمة الزيدية ،والقبائل الأخرى التي انتفضت في تهامة والمعروفة برباطة الجأش ، وصعوبة المراس فضلا عن الصراع الداخلي في البيت الرسولي أو بمعنى أدق حرب الرسوليين ـ الرسوليين والمتمثلة بشق أخيه الحسن الأشرف عصا الطاعة في وجه أخيه الملك الناصر . وبالرغم من تلك الصورة المليئة بالأحداث الجسام الملتهبة ، والأمور العظام الدموية . [c1]مع حرية الفكر[/c]والحقيقة أن السلطان الملك الناصر أحمد الأشرف في خلال فترة حكمه الذي امتد ـ كما قلنا سابقا ـ 24 عاما لم يهدأ ويستكين بل كان جذوة متقدة من النشاط والحركة . ولقد أجمعت الروايات التاريخية أنه كان يتحلى بالشجاعة الهادئة ، والحكمة السياسية العميقة ، والحنكة العسكرية الكبيرة . ويتعجب المرء وهو يتنقل في قراءة سطور صفحات سيرة السلطان الناصر الممتلئة بالأحداث الخطيرة التي ما تلبث أن تهدأ حتى تثور مرة أخرى وأقوى مما كانت عليه في السابق أن يجد ذلك السلطان الشغوف بالعلوم والمعارف فسحة من الوقت ليقرأ ، ويطلع على المصنفات التي ظهرت في عصره وقتئذ . وكيف كان ويترك حرية الفكر للآخرين بصورة تدعوا إلى الإعجاب ودليل ذلك الصراع الفكري بين الفقهاء والصوفية وكيف تمخض عن ذلك المنصفات العديدة والقيمة لهؤلاء وأولئك وكان من ثمراتها الطيبة أن ساد مناخاً ثقافياً رائعاً في اليمن وبالرغم أن السلطان الناصر كان صوفي الهوى إلا أنه لم يتدخل إلا عندما تحول ذلك الصراع الفكري إلى صراع مسلح بين الطرفين فتدخل البلاد في دوامة البلبلة والقلاقل . [c1]تعز قبلة العلماء[/c]ولقد شجع النهضة الفكرية تشجيعا كبيراً حيث منح الجوائز والعطايا الثمينة إلى العلماء في مختلف فروع تخصصهم وفنونهم ،وصارت تعز حاضرة اليمن وعاصمة الدولة الرسولية إشعاع ثقافي و قبلة العلماء والمفكرين وكانوا يتوافدون إليها من كل مكان للإفادة والاستفادة في نفس الوقت . ولم يقتصر أعماله على ذلك بل تعدت إلى تشييد المدارس الإسلامية ،وترميم وإصلاح المدارس الإسلامية الأخرى التي امتدت إليها يد غوائل الزمن والإهمال علاوة على بناء المساجد أو ترميمها وإصلاحها وتوسيعها أو بعبارة أخرى لقد أهتم اهتماما بالغاً بالمنشآت الدينية الإسلامية . كل تلك الصور والمشاهد عن السلطان الملك الناصر سنراها رأي العين في كتاب (( الدولة الرسولية في اليمن )) لصاحبه الباحث السعودي الأستاذ محمد بن يحيى الفيفي الذي أخرج لنا مصنفا رائعاً تميز بالشرح ، والتفسير ، والتحليل العميق ، فسد فراغاً كبيراً في رفوف المكتبة التاريخية اليمنية في صفحة من صفحات تاريخ الدولة الرسولية . [c1]مولده و نشأته[/c] يصف محمد بن يحيى الفيفي شجرة أسرة الملك الناصر ،فيقول : " هو السلطان الناصر أحمد بن إسماعيل بن عباس بن علي بن داود بن عمر بن يوسف بن عمر بن علي بن رسول ". والغريب في الأمر ، أن السلطان الناصر لم يعثر له على سنة ولادته ، وكم كان عمره عندما تولى الحكم بعد وفاة والده الأشرف ،والحقيقة أن المصادر اليمنية والمصادر الرسولية لم تسعفنا في الإجابة على تلك المسألتين . ولكن هناك صورة يشوبها عدم الدقة والوضوح . فالمؤرخ الأهدل يقول أن السلطان الناصر جلس على عرش الحكم و هو شاب أو مقتبل العمر وهذه صورة عامة يصعب على الباحثين تحديد عمره بدقة عندما تسلم مقاليد الحكم بعد وفاة والده السلطان الملك الأشرف إسماعيل بن الأفضل العباس المتوفى بتعز سنة ( 803هـ / 1400م ) ـ كما قلنا سابقا ـ . و يعثر محمد الفيفي سنة تاريخ مولده عند المؤرخ المقريزي ، فيقول : " ... ذكر المقريزي أن مولده كان في ليلة السبت الحادي والعشرين من شهر شعبان سنة 778هـ ( 1376م ) ، أي في مساء اليوم الذي تمت فيه البيعة لوالده بالحكم" . [c1]مع والدته[/c]ومن أجل الاقتراب من المؤثرات المباشرة وغير المباشرة التي أثرت في تكوين وتشكيل شخصية السلطان الملك الناصر أحمد . نجد أن والدته تحتل مساحة كبيرة في تكوين شخصيته وخاصة في حياته الثقافية وكذلك العناية بالرعية وخدمتهم . فقد غرست في نفسه منذ كان شابا يانعا بذور حب العلوم والمعرفة والاهتمام بكل ما يرتبط بها من ناحية والعمل على توفير سبل الراحة للناس من ناحية أخرى . فقد وصفتها المصادر ـ أن اسمها كان الجهة المعتبية ـ . فقد " ... كانت امرأة عفيفة كريمة تفعل الخير كثيرا . ولها العديد من المآثر الحسنة ، أبرزها المدرسة المعتبية في مدينة تعز ، رتبت فيها مؤذنا وقيما ومدرسا وفيها طلبة ومعلم أيتام يتعلمون القرآن ، وأوقفت عليها أوقافا عدة تكفيها . ولها عدة سبل في مقاطع الطرق يردها السارح والرائح ، كما كانت تأمر بإصلاح الطرق والمدرجات والعقبات وما يتضرر به المارون من الشجر وغيرها . وكانت وفاتها في مدينة زبيد في الثامن عشر من شهر صفر سنة 796هـ ( 1393م ) " . ومن البديهي أن والدته المحبة للثقافة الإسلامية أثرت في تكوين ثقافة والدها الناصر تأثيرا عميقا وهذا ما لمسناه في تشييده العديد من المدارس الإسلامية أو المنشآت الدينية الإسلامية ، والعناية الكبيرة بالعلم والعلماء والفقهاء والمفكرين . وكيف صارت تعز في عهده قبلة العلماء والفقهاء والمفكرين النوابغ في داخل اليمن وخارجها ـ كما مر بنا سابقا ـ وبالرغم أن الباحث محمد الفيفي لم يقل ذلك ولكن الصورة الذي عرضها عن والدة السلطان الناصر تعطي ذلك الانطباع الواضح بأنه كان لوالدته دوراً كبيراً في تكوين شخصيته الثقافية من جهة والرأفة بالرعية من جهة أخرى . وبعبارة أخرى عملته بصورة مباشرة أن منهج الحكم الذي يجب ويتوجب أن يسلكه مع العامة من الناس . [c1]مع والده[/c]وعن المؤثرات الأخرى التي أثرت في تكوين السلطان الناصر الفكري أو الثقافي بل والسياسي والعسكري بصفة خاصة . فقد رسم محمد الفيفي صورة تقريبية عن الحياة الذي كان يعيشها في البلاط الملكي وهي بأنه كان يعيش في وسط أجواء ثقافية رفيعة المستوى وبالرغم من عدم وجود المصادر التي تمده بمعلومات واضحة وجلية عن الحياة الثقافية الذي عاشها السلطان الناصر في ظلال والده السلطان الملك الأشرف إسماعيل بن الأفضل العباس الذي كان أحب أبنائه إلى قلبه. فيذكر ، قائلا : " ولكن من المرجح أنه نشأ نشأة خاصة امتزجت فيها الحياة العلمية والأدبية بالحياتين السياسية والعسكرية ، كما جرت به العادة لمن هم في وضعه من أبناء الملوك والسلاطين ، فضلا عن كونه أحب أبناء أبيه إليه وأيمنهم عليه " . ونستشف من ما قاله الباحث محمد الفيفي أن الناصر أحمد ظهرت عليه النجابة والفطنة وهو في سن مبكر . وهذا ما لفت إليه والدته ، فقربه إليه ليتولى مقاليد السلطنة من بعده ، فعمل على صقله بالعلوم والمعرفة وتلقينه فنون الرئاسة والحكم . [c1]اللبنة الأولى[/c]ونستشف من ذلك أن اللبنة أو اللبنات الأولى في تكوين شخصية السلطان الناصر هي والدته ووالده ـ كما قلنا سابقاً ـ والتي تشربت روحه بشخصيتهما المتمثلة باحترامهما للعلوم والمعارف من ناحية أخرى . وكان من البديهي أن تلك القيم والمبادئ القيمة اللذين غرستهما والديه في نفسه الصغيرة أن تنمو روحه شيئا فشيئا على حب الحياة الثقافية وتقديرها لها . وعندما آلت إليه أمور السلطنة ، كانت من أبرز أوجه نشاطه هو تشجيعه للعلوم والمعارف ،وإغداقه الأموال الطائلة والعطايا الثمينة للعلماء والمفكرين ، وأرباب الأدب بفروعه المتباينة . والجدير بالذكر أن والده كان دائما بجانبه ،وكان في كثير من الأحيان يصحبه إلى ميادين القتال ليتمرس على فنون القتال من ناحية ويتعلم أيضا أمور تدبير الحكم و السياسة من ناحية أخرى . [c1]من أسباب نجاح الحاكم[/c]والحقيقة أن والده إسماعيل الأشرف اهتم اهتماما كبيرا بابنه الناصر ـ كما أشرنا سابقاـ ، فالمصادر التاريخية تصف العناية الفائقة الذي بذلها والده الملك إسماعيل الأشرف لأبنه الناصر أحمد ومن أجل ذلك فقد عين له عدد من الفقهاء الكبار لتدريس ابنه العلوم والمعارف التي تدفع ابنه إلى التقدم والرقي في سلم الثقافة . وربما كانت الثقافة تعني شيئا أساسيا لدى الحكام الرسوليين وهي أنها جزءا لا يتجزأ من نسيج الحكم أو بعبارة أخرى أنها أحدى مظاهر أسباب نجاح الحاكم في إدارة شؤون السلطنة أن يكون مثقفا ثقافة عميقة وواسعة .[c1]الصعود إلى القمة[/c] صحيح أن السلطان الملك الأشرف إسماعيل أختار ابنه الناصر ليتولى ولاية العهد لكونه أكبر أبنائه ولكن الناصر كان يتحلى بالكفاءة الإدارية ، السياسية ، العسكرية ، والتنظيمية الذي علمها إياه والده فضلا عن شغفه الكبير بالعلوم والمعارف ـ كما مر بنا سابقا ـ كل تلك العوامل كانت تؤكد أنه يصلح أن يرتقي سدة حكم السلطنة وأن يقودها إلى بر الأمان . وهذا ما أكده الباحث الأستاذ محمد يحيى الفيفي في سياق حديثه عن العوامل التي جعلت الناصر يمخر بسلطنته عباب أمواج السياسة المتلاطمة باقتدار إلى شاطئ القوة ، والرخاء، والأمن ، والأمان ، فيقول : " يستفاد مما ذكره الخزرجى أن والده السلطان الأشرف قد عمل منذ وقت مبكر على تهيئته لتولي الحكم من بعده ، وإكسابه الخبرات اللازمة في شتى النواحي السياسية والعسكرية والإدارية والتنظيمية ، لا سيما وأنه كان أكبر أبنائه الموجودين وأحبهم إليه وأيمنهم عليه". ويمضي في حديثه ، فيقول : " فكان يصطحبه معه في بعض حروبه التي كان يخوضها ضد العصاة والمتمردين ، ويبعثه لاستقبال بعض ضيوفه من كبار رجال الدولة وسفراء الدول الذين كانوا يفدون عليه ، كما كان يعتمد عليه في النيابة عنه في بعض المناسبات العامة التي تتطلب الظهور أمام العامة واستعراض الجند وأرباب الوظائف ، كالأعياد وما أشبهها ، وكذلك في إخماد بعض الفتن والثورات التي كانت تظهر في بعض جهات الدولة ". وكيفما كان الأمر ، فإن الملك الأشرف إسماعيل كان يصنع ابنه على عينيه ليتولى مقاليد الحكم من بعده .[c1]آراء المؤرخين المتباينة[/c]اختلفت وتنوعت آراء المؤرخون حول السلطان الناصر أحمد بعد توليه حكم السلطنة زهاء أكثر من 24 عاما وبمعنى أوسع اضطربت الروايات التاريخية في وصفه فالبعض يقول عنه أنه كان سلطانا عادلاً ، وكان حليماً و صدره واسعاً لكل الانتقادات التي توجه إليه من الرعية . والبعض الأخر ، يصفه بأنه كان فاجرا ، ظالما ، شديد الجور ـ على حد قول ابن حجر ـ ويسرد لنا محمد الفيفي مختلف وتباين أقوال وآراء المؤرخين عن السلطان الناصر أحمد ، فيقول : " ... فقال عنه الأهدل : إنه أحدث في آخر حياته بعض المظالم كاحتكاره للحرير وحشيشة الدواب وطرحه لهما بأكثر من سعرهما المعتاد ، وتقريبه للمبتدعة والمتصوفة ، وإنه أولع في آخر حياته بشرب الخمر ولم يكن يعرف ذلك في أكثر ولايته ". ويدافع عنه المؤرخ ابن الديبع المتوفى سنة ( 944هـ / 1537م ) ،ويلقي اللوم على المؤرخين الذين رسموا صورة مشوهة عن الملك الناصر ، فيقول : " وهو غير خال عن تحامل لا يليق بمثله ، ولكن هذه عادة جرت من المؤرخين سامحهم الله تعالى " . " وعلى نفس السياق يقول العفيف الناشري ، فيقول عنه : " إنه كان موصوفاً عند العام والخاص بوفور ـ بكثرة ـ الحلم التام بحيث إنه ترفع إليه الأمور العظام التي لا تحتمل فلا يغضب لها " وينقل الباحث محمد الفيفي عن المؤرخ ابن الديبع ، فيقول : " وقال ابن الديبع قريبا من ذلك حيث يقول : " إنه كان موصوفا بالكرم الجم والحلم التام ، يرفع إليه ما لا تحتمله الملوك فلا يستفزه غضبه " . ويحلل محمد الفيفي الأسباب وراء تلك الأقوال والآراء المتناقضة المتباينة الحادة في وصف السلطان الملك الناصر في إبان حكمه ، بقوله : " ولعل السبب في هذا التباين بين المصادر وتحامل بعضها عليه ، يرجع إلى تقريبه للصوفية ، وميله إليهم في بعض الأحيان ، وأخذه الخارجين عليه بالشدة والعنف ، في سبيل توفير الأمن والاستقرار في البلاد ". [c1]الدولة الرسولية والصوفية[/c]وهناك ملاحظة أوردها الأستاذ محمد الفيفي أنه من الأسباب الرئيسة التي دفعت خصوم والقوى السياسية المحلية إلى نقد السلطان الناصر هو ميله إلى الصوفية ورعايته وحمايته لهم تعود في الحقيقة إلى أن السلاطين والملوك الرسوليين منذ أن بزغ نجم دولتهم في سماء اليمن السياسي كان يتبعون سياسة كسب مشايخ الصوفية إلى صفوفهم . وفي الواقع أن السلاطين والملوك الرسوليين كانوا يقتفون أثر أسيادهم من سلاطين وملوك الدولة الأيوبية وكان على رأسهم السلطان صلاح الدين الأيوبي مؤسس الدولة الأيوبية في مصر والشام والمتوفى بدمشق سنة 589هـ / 1193م الذي اهتم بالصوفية ومشايخها اهتماما كبيرا في أثناء حروبه ضد الفرنج الصليبيين من ناحية والعمل على أحياء المذهب السني لمحو آثار الفاطميين الشيعة في مصر من ناحية أخرى . وهذا مؤسس الدولة الرسولية السلطان الملك المنصور عمر بن علي بن رسول المقتول بالجند بتعز سنة ( 647هـ / 1250م ) كان دائماً يعمل على خطب ود كبار مشايخ الطرق الصوفية في سلطنته . ولقد وثق علاقته بهم توثيقا قويا لكونهم لعبوا دورا كبيرا في أذاعت إرهاصات بين الناس بظهور نجمه في سماء اليمن السياسي ، وأنه سيشيد دولة مهيبة الأركان عظيمة البنيان ينشر فيها العدل والرخاء. وفي هذا يقول المؤرخ محمد عبد الله الحبشي : " ولعل بداية تاريخ الصوفية مع الرسوليين يبتدئ ببداية هذه الدول بل قبل البداية بسنوات عدة ، فالمؤرخون يذكرون تلك الصداقة الوطيدة بين مؤسس الدولة الرسولية الملك المنصور عمر بن علي بن رسول( حكمه من 629 ـ 647هـ ) وبين الفقيه الصوفي محمد بن أبي بكر الحكمي المتوفى سنة 617هـ ،وصاحبه الصوفي محمد بن حسين البجلي المتوفى سنة 621 هـ ، وهما من كبار الصوفية في اليمن " . ويضيف محمد الحبشي ، فيقول : " ويقال أنهما اللذان قويا عزمه في الاستيلاء على الحكم بعد مشاهدتهما تضعضع الدولة الأيوبية ، وتنافس أمرائها فيما بينهم على الحكم ". [c1]تثبيت هيبة الدولة[/c] وكيفما كان الأمر ، فقد اختفى والده السلطان الملك الأشرف عن مسرح اليمن السياسي ، وتولى بعد ابنه السلطان الناصر الذي كان قد أعده لتولية حكم اليمن من بعده ـ كما مر بنا سابقا ـ . ولم يكد السلطان الشاب الناصر يجلس على سرير السلطنة حتى أطلت برأسها حركات التمرد ، والثورة على السلطنة . والحقيقة أن السلطان الناصر أثبت جدارة عسكرية فائقة في مواجهة شق عصا الطاعة في وجه السلطنة . فعمل بسرعة فائقة على إخمادها وبطريقة عنيفة حتى تكون عبرة للقبائل الأخرى أو بمعنى آخر قبل أن يستفحل أمرها ، ويصعب وأدها ،فقتل وشرد وزج الكثير من المتمردين في غياهب السجون ،وأباح لجنده نهب وسلب قراهم ومناطقهم بل وصل الأمر أن اسمل عين أخيه الحسن الأشرف . وربما كان ذلك من أهم الأسباب التي جعلت بعض المؤرخين اليمنيين أمثال الأهدل يصفه بالجور والفجور .[c1]مرحلة الاستقرار والازدهار[/c]الحقيقة أن حكم السلطان الناصر أحمد مر بمرحلتين المرحلة الأولى استمرت تقريبا عشرة سنوات قام في خلالها بالقضاء على حركات التمرد ، والثورات التي اندلعت في كثير من مناطق اليمن . ومن أجل أن نتعرف عن كثب على الجهود الجبارة الذي بذلها السلطان الناصر في وأدها . فقد ثارت عليه قبائل شديد البأس وصعبة المراس في المناطق المحيطة بتعز أو القريبة منها مثل الجند ، وفي تهامة ثارت عدد من القبائل ،وكان كلما يطفئ نارها ، تشتعل بقوة مرة أخرى . وأما من أهم الأخطار الذي واجها السلطان الناصر هي القوى الزيدية التي كانت تتربص وتترصد بالسلطنة لإشعال نار الفتنة فيها والعمل على زعزعة أركانها ولكنه استطاع بحنكته السياسية ودرايته الواسعة في القتال أن يقوض قوتها . ومن مظاهر درايته العميقة في فنون القتال هي أنه ارتأى أن حركات التمرد ، والثورة تتخذ من الحصون والقلاع التي تطفو على رؤوس الجبال مراكز انطلاق لإشعال القلاقل ، والاضطراب في كثير من مناطق سلطنته ، فصمم على الاستيلاء عليها . وفي هذا يقول محمد الفيفي : " ويبدو أن الناصر قد لاحظ أن المخالفين يعتصمون بالحصون والجبال المنيعة ، كلما هاجمتهم جيوش الدولة ، مما يجعل عملية إخضاعهم والحد من خطورتهم عملية عسيرة ،ولهذا فقد وجه اهتمامه للاستيلاء على الحصون والجبال ... " . وبالفعل استطاع السلطان الملك الناصر أحمد أن ينجح في القضاء على تلك الثورات التي كانت تنطلق من قمم رؤوس الجبال بالاستيلاء عليها .[c1]لحج ودثينة في وجه السلطان[/c]وتذكر المصادر التاريخية أنه اندلعت في لحج ودثينة حركات تمرد وثورات كادت تطيح بهيبة السلطنة . وكانت قاب قوسين أوأدني أن تستولي على عدن الشريان الاقتصادي الذي كان يمد السلطنة بالأموال الطائلة ، ونظرا لخطورة الموقف . فقد سار السلطان الناصر بنفسه للقضاء على القلاقل والفتن التي انفجرت في لحج ، ودثينة . بعد أن تولى سدة الحكم بخمس سنوات . وفي هذا يقول الباحث محمد الفيفي : " فلما كانت سنة 808هـ (1405م ) ، ثارت قبيلة الجحافل ، وقطعت الطرق ، ونهبت القوافل ، تسبب في انقطاع الواردات عنها ، وأخيرا تمكنت من قتل عاملي السلطان عندما خرجا للتصدي لها ... فلم علم السلطان بما حدث ، سار بنفسه إلى المنطقة ،وقضى على الثورة ، واستولى على مدينة دثينة ونهب ما فيها ... فسكنت الأمور فيها بعد ذلك ". ويعقب محمد الفيفي على المرحلة الأولى من حكم السلطان الناصر والتي استغرقت عشر سنوات ، فيقول : " وهكذا تمكن السلطان الناصر ، بعد نضال استمر حوالي عشر سنوات ، من بسط نفوذه على أقاليم الدولة المختلفة " ويعلل الأستاذ محمد الفيفي السبب الرئيس الذي مكن السلطان الناصر في سرعة وأد حركات التمرد ، والثورة ، والقلاقل التي استشرت في أقاليم ومناطق سلطنته في بداية عهد حكمه،فيقول : " وكان لتنقلاته المستمرة في أنحاء البلاد ، لتفقد الأوضاع ، والتصدي لأي خلاف يسمع به ، دور مهم في استقرار الأمن ـ بشكل عام ـ في السنوات اللاحقة " . وعلى أية حال ، تمكن السلطان الشاب الناصر بعد عشر سنوات من الحروب الدامية ، أن يخضع رقاب القبائل الصعبة المراس إلى مشيئة حكمه ،وتلك المرحلة ـ كما قلنا سابقا ـ تعد المرحلة الأولى في تدعيم نفوذ سلطنته ،وبعدها انطلقت سلطنته إلى آفاق الأمن والأمان والاستقرار السياسي الواسع ، والازدهار الاقتصادي العريض . [c1]مرحلة الاستقرار والازدهار[/c]وبعد أن استطاع السلطان الناصر تقويض حركات التمرد والثورة والاضطراب في سلطنته والتي استمرت تقريبا عشر سنوات ـ كما مر بنا سابقا ـ . بعدها بدأت مرحلة الاستقرار والأمن والرخاء تنشر رداءها في كل مكان من سلطنته ـ على حد قول المؤرخين ـ . وربما كان هنا مناسبا أن نقتبس فقرة من كلام الباحث محمد يحيى الفيفي حول المرحلة الثانية أو الأخير وهي مرحلة الاستقرار السياسي من حكم السلطان الناصر ، إذ يقول : " يتضح مما سبق أن السلطان الناصر قد عمل على استعادة نفوذ الدولة وهيبتها اللذين كانتا قد افتقدتهما في معظم البلاد ، عند استقراره في الحكم . فاستطاع خلال السنوات العشر الأولى من حكمه أن يبسط نفوذه على معظم المناطق الرئيسة في البلاد ، وأن يقضي على كثير من بؤر التوتر التي طالما استعصت على أغلب من سبقه ثم تلا ذلك فترة هدوء نسبية ، تمكن من خلالها من تثبيت نفوذه في المناطق التي كان قد سيطر عليها ، بالإضافة إلى متابعته الاستيلاء على بعض الجبال ،والحصون المهمة التي لم يكن قد وصل إليها من قبل ". ويمضي في حديثه ، قائلا : " ثم أعقب ذلك فترة هدوء واستقرار ـ بشكل عام ـ أصبح السلطان خلالها هو صاحب الكلمة النافذة في البلاد ، وأذعن فيها كثير من المخالفين ، وبعثوا ما كانت تطلبه الدولة منهم : كتعبير عن الولاء وحسن النوايا إلى العاصمة لا سيما الجنود والأموال السنوية . وامتدت هذه الفترة حتى وفاته سنة 827 هـ ( 1424 م ) " . [c1]علاقات خارجية مزدهرة[/c]ومثلما شهدت السلطنة الاستقرار السياسي شهدت كذلك علاقات خارجية مزدهرة مع القوى الإفريقية والآسيوية وبمعنى أوسع لقد كان للسلطنة حضوراً واضحاً ومتميزاً حينئذ على خريطة السياسة الخارجية . والحقيقة ما كانت علاقات السلطنة توطدت مع البلدان الإفريقية ، والآسيوية لولا الاستقرار السياسي الذي رسخه السلطان الناصر في داخل سلطنته ـ كما قلنا سابقا ـ . وكيفما كان الأمر ، فقد ارتبطت السلطنة ارتباطا واسعا وعميقا مع المماليك في مصر ، والحبشة ، والممالك الإسلامية التي طفت على طول الشريط الساحلي المحاذي للبحر الأحمر والتي عرفت في المصادر التاريخية بـ (( ممالك الطراز الإسلامي )) . ومع الهند ومع الصين أيضا حيث كان العلاقة بين اليمن والصين في عهد السلطان الناصر علاقة تجارية قوية حيث شهد ميناء عدن أسطول تجاري صيني ضخم .وذلك بعد أن أتبع الإمبراطور الصيني زينغ زو ( Zheng zhou ) سياسة خارجية منفتحة على بلدان العالم وقتئذ ومنها اليمن في عهد السلطان الناصر. وفي هذا ، يقول محمد يحيى الفيفي : " مما نتج عنه استئناف المراكب الصينية إبحارها إلى الموانئ اليمنية بعد أن كانت قد توقفت عن ذلك منذ أوائل القرن الثامن الهجري ( الرابع عشر الميلادي ) ، فتوثقت العلاقات بين الدولتين أكثر من أي وقت مضى ، وتبادلتا السفارات والهدايا عدة مرات " . [c1]مع الهند[/c]تميزت العلاقة اليمنية الهندية في عهد الدولة الرسولية بعلاقة وثيقة وقوية وخصوصا في عهد مؤسس الدولة الرسولية السلطان الملك المنصور عمر بن علي ابن الرسول وابنه السلطان الملك المظفر يوسف بن عمر بن علي رسول وكذلك في عهد حكم السلطان الأفضل المتوفى بزبيد سنة ( 778هـ / 1386م ) ، والسلطان الملك الأشرف . ولقد أرسل ملوك الهند الرسل إلى بلاط سلاطين وملوك الدولة الرسولية بالهداية الفاخرة دليل على حسن العلاقة بينهما . وفي هذا يقول ، محمد الفيفي : " ولهذا ، فقد توافدت رسلها بالهدايا الجليلة على البلاط الرسولي منذ عهد السلطان المنصور عمر بن رسول . حيث وصل إليه رسول من صاحب الهند قبل وفاته بأيام قليلة ثم تكررت العملية نفسها في عهد السلطان المظفر ، والسلطان الأفضل ، والسلطان الأشرف إسماعيل ". وعلى أية حال ، فقد أشارت المصادر التراثية إلى سفارة هندية قدمت من أحدى الولايات الهندية وهي كنباية المطلة على ساحل الهند الشرقي . وقيل أنها كانت في سنة ( 827هـ / 1424م ). " وقد جاء بها رسول يدعى الناخوذة ((ناصة)) ، وهي عبارة عن بعض التحف ، والأطياب ، والملابس ، والفرش وإلى ما ذلك ". [c1]في أواخر حكمه[/c]والملفت للنظر ، أن تلك السفارة الهندية وصلت إلى البلاط الملكي في أواخر حكم السلطان الناصر الرسولي أي في نفس السنة الذي توفى فيها . ومن المحتمل أن الأوضاع السياسية كانت في أواخر حكم السلطان الناصر قلقة أو بعبارة أوسع أن حركات التمرد بدأت تطل برأسها من جديد على السلطنة فلم يتمكن المؤرخين المعاصرين فرصة تدوين تاريخ العلاقة اليمنية الهندية في أواخر عهد السلطان الناصر بصورة مستفيضة ودقيقة . [c1]هل ظلمه التاريخ ؟[/c]والحقيقة أن السلطان الناصر على مدى أكثر من 24 عاما ـ كما مر بنا سابقاـ استطاع أن يوطد الأمن ، وينشر الاستقرار السياسي ، ويحقق الازدهار الاقتصادي ، ويمد جسور العلاقات الخارجية مع كثير من الدول المجاورة له والبعيدة منه ويعيد هيبة الدولة في كل مكان من اليمن ، بعد أن قوض أركان حركات التمرد ، والثورة ، ونزع فتيل نار الفتنة والقلاقل ، فانساقت له القبائل في طول وعرض وارتفاع اليمن ـ كما سبق وأن اشرنا ـ . وفي هذا يقول المؤرخ الباحث الأستاذ محمد بن يحيى الفيفي : " ظل السلطان الناصر قائما بأمور المملكة ـ كما يقول ابن الديبع ـ حافظا لها في التهائم والجبال حتى انتهت مدته ، ووافته منيته في حصن الفص ( بالقرب من زبيد ) ، وذلك في يوم الاثنين السادس عشر من شهر جمادي الآخرة أحد شهور سنة 827 هـ ( 1424م ) بعد فترة حكم امتدت ربع قرن إلا ثمانية أشهر ، وتم دفنه بجوار والده بالمدرسة الأشرفية في مدينة تعز " . وبغيابه عن المسرح السياسي ، يسدل الستار عن أعظم سلاطين وملوك الدولة الرسولية إن لم يكن أعظمهم إطلاقا الذين حكموا اليمن .والسؤال المطروح على المؤرخين المحدثين ، والباحثين الحاليين بتاريخ اليمن ، والمختصين بتاريخ الدولة الرسولية . هل أنصف التاريخ السلطان الملك الناصر أم ظلمه ؟ . [c1]الهوامـش:[/c]محمد بن يحيى الفيفي ؛ الدولة الرسولية في اليمن ، دراسة في أوضاعها السياسية والحضارية 803 ـ 827 هـ / 1400 ـ 1424م ، الطبعة الأولى 2005م ـ 1425هـ ، الدار العربية للموسوعات ـ بيروت ـ لبنان . عبد الله محم الحبشي ؛ الصوفية والفقهاء في اليمن ، سنة الطبعة 1396هـ / 1976م ، مكتبة الجيل الجديد ـ صنعاء القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ الدولة الرسولية في اليمن 626 ـ 858هـ /1228 ـ 1454م ، الطبعة الأولى 2003 م ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر ـ عدن ـ الجمهورية اليمنية