نعمان الحكيمالإعاقة امتحان من الله سبحانه وتعالى لعباده بقدر ما هي عامل إحباط وتذمر لدى البعض، تكون بمثابة الاختصاص الذي يختص به الله وحده من يجعل منهم استثناء، وهم في إطار أو نطاق التفرد والعبقرية، وهذا دليل على أن الإعاقة باختلاف أنواعها، ومن تلحق بهم، تكون للمستثنين من عباد الله، أي أنهم غير عاديين، وتظهر فيهم العبقرية، سواء كانوا فاوقدي البصر أم من الصم والبكم، أو مصابين بإعاقات أخرى غير تلك التي تصيب العقل والتي يكون فيها امتحان الخالق - جل وعلا - لا قياس له لدى البشر لأنه فوق مستوى تفكيرهم وعقولهم وسلوكهم.لنأخذ الإعاقة البصرية ونرى كيف أن معظم من أصيبوا بها كانوا من فلتات الزمن وخلق الملك الديان .. ولنا أمثلة في شامخين أثروا وأثروا في الحياة عامة .. منهم ليس على سبيل الحصر، بل على سبيل المثال: طه حسين (عميد الأدب العربي)، وعبدالله البردوني (حكيم اليمن)، وأبو العلاء المعري (الشاعر الحكيم وصاحب اللزوميات التي ما أبدع أي مبصر أفضل منها أبداً )!إن إعاقة البصر تقوي البصيرة والعاطفة والخيال والسمع وتخلق لدى صاحبها مجالاً خصباً للتخيل وتصور الأشياء، مثلما لو أن أحدنا - نحن المبصرين - أطبق عينيه ليتفكر فيما قد يحصل له، وهنا تبدأ المخيلة بنسج مواقف لا حصر لها، ويترجمها عبر النطق . والدليل (الكاتب) يتولى صياغة الكلام، لكن ليس لكل كفيف كاتب يناسبه تماماً، إلا أنه من الضروري ذلك،، وربما يتصادف وجود من يترجم لكفيف بإحساس وعمق ودراية كاملة .. وسبحان الله على كل حال!وبالعودة إلى المثال المشار إليه ـ سوف نرى أن طه حسين كان كفيفاً أي لديه إعاقة بصرية، لكن هل اكتفى بما هو فيه واستسلم لقدره ؟ ، كلا .. إنه لم ييأس واستطاع أن يصل إلى أعلى منصب في مصر، فقد كان وزيراً للمعارف باقتدار وحنكة، وكانت أيامه في الوزارة أيام سعد وتقدم ونهوض بأمور الجيل، وقد فشل ( المبصرون ) في تحقيق بعض ما حققه طه حسين لأنهم لم يصلوا إلى علمه وثقافته، وهو الكفيف الذي ملأ الدنيا ( ابصاراً ) من خلال مؤلفاته المستندة إلى قراءات وإلمامات لم يصل إليها أصحاب العيون الكبيرة والعقول النيرة، كما يقولون ! . ومثله عبدالله البردوني، اليماني الكبير إنتماءً وعلماً وأدباً وخلقاً الذي يدهشك أنه لقب بمبصر اليمن وحكيمها، وهي صفات كان ينبغي أن يضاف إليها (وعقلها) لأنه كان ذا عقل راجح واستطاع أن يصل إلى مواقع عربية وعالمية بمكانته العلمية والأدبية والعقلية، ومثلما كان المعري الذي كان يقول عن نفسه (أنا تلميذ المتنبي) عملاً بقول البيت الشهير:[c1]أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم ![/c]فكان كلما سمع هذا البيت يبادر إلى القول: (إنه يقصدني أنا) أي أن المتنبي كان يشير في البيت الشعري إلى تلميذه (المعري) واعتبرها المعري صفة يعتز بها.ذات مرة سئل الأديب العبقري عبدالله البردوني في حديقة نقابة الصحافيين بالتواهي مطلع الوحدة المباركة: كيف اخترت زوجتك الجميلة يا أستاذ، في حين أنت ... هنا يقاطع السائل- وكان المرحوم الصحافي العالمي علي فارع سالم (جبلويز) هو صاحب السؤال- قائلاً له:أنت قصدك إنني أعمى .. لكن عندما اخترت زوجتي كنت (أعسعس) أي أتحسس الجمال بيدي . وهي فكرة طريفة وظريفة لكنها حقيقة، فاللمس يكون بدل الإبصار وسبحان الله على إرادته وخلقه في مخلوقاته فله الحمد وله الشكر دائماً وأبداً.
أخبار متعلقة