مدخل مدينة عدن في الثلاثينات
[c1] محمد زكريا[/c]مؤرخ تفنن في رسم ملامح وجه عدن الجميل المضيء ، كتابته عنها أقرب إلى شعر الغزل الذي ينساب عذوبة ورقة منها إلى التاريخ المجرد الجامد . تغزل في مناقبها ومآثرها ، غاص في أعماق أسرارها ، فك ألغازها، نفض الغبار عنها ، فاستخرج منها الحقائق التاريخية الجادة . أعاد الحياة والحيوية والحركة والنشاط إلى الأماكن ، والمواقع التي دفنتها رمال النسيان ، قلب مئات الصفحات المختلفة والمتنوعة في تاريخ عدن منذ تاريخها القديم ومروراً بتاريخها الإسلامي ( الوسيط ) ، وانتهاءً بالعصر الحديث . وضع الروايات التاريخية المتباينة عن تاريخها تحت مجهر البحث التاريخي، فحلل وفسر ، وشرح كل مفصل من مفاصل تاريخها ، لم يترك قضية تاريخية (معينة) من تاريخها إلاّ وقلبها ذات اليمين وذات اليسار ، وهب حياته كلها وجلها في سبيل خدمة تاريخها وغربل الكثير من الشوائب التي علقت في ثوبها بفعل زحف رمال الأيام والشهور والسنين الطويلة التي تراكمت عليها. إنه المؤرخ اليمني النابهة عبد الله أحمد محيرز . وبمناسبة الذكرى الثامنة عشرة لرحيله عن دنيانا نستعرض كتابه القيم تحت عنوان (( العقبة )) ، فيما يلي :[c1]ثقافتها اليمنية [/c]أصدر المؤرخ الكبير الأستاذ عبد الله أحمد محيرز مؤلفات عديدة وقيمة في تاريخ عدن ، وهي العقبة ـــ والتي نحن بصدد الحديث عنها بالتفصيل ـــ ، صهاريج عدن ، صيرة ، ورحلات الصينيين الكبرى إلى البحر العربي ، وحقق مخطوطة بعنوان (( الآداب المحققة في معتبرات البندقة )) . وتعتبر كتبه تلك مراجع أساسية ورئيسة في تاريخ ثغر اليمن عدن للمؤرخين المحدثين وللباحثين الحاليين بصفة خاصة والقراء بصفة عامة . والحقيقة أنّ كتبه تلك التي ذكرناها تفتح آفاقاً واسعة للإطلاع والتعرف على جانب من جوانب تاريخ عدن ثغر اليمن سواء السياسي أو الاجتماعي والثقافي بصورة خاصة واليمن بصورة عامة , ويميز كتبه في تاريخ عدن بأنه لديه رؤية واسعة وعميقة في تاريخ اليمن بصورة عامة فهو دائمًا وأبداً يربط بين مدينة عدن المطلة على البحر العربي ( المحيط الهندي ) واليمن ( الأم ) عدن وثقافتها اليمنية لا يمكن أن تنفصم عراها عن نسيج تاريخ اليمن . ونقرأ في مؤلفه (( العقبة )) عن مدى الارتباط الوثيق الذي لا تنفصم عراه بين عدن وتاريخ اليمن ـــ كما قلنا سابقا ً ــــ . ويزيد مؤرخنا محيرز في توضيح الصورة حول ارتباط عدن بأمها اليمن وذلك من خلال ( العقبة ) أو باب عدن أو باب البر أو باب السقاءين . وفي هذا الصدد ، يقول : « عقبة شق في ثناياها طريق ، ربطها بأمها اليمن ، وجعل من فصلها وتغربها وانسلاخها ـــ رغم المحاولات عبر القرون ـــ أمرًا مستحيلا ً « والحقيقة عندما نسمع كلمة ( العقبة ) فإننا نظن من أول وهلة أنها كأداء تمنع العبور والتواصل ، ولكن الحقيقة غير ذلك فهي تصل المدينة عدن باليمن الأم عبر البر أو بعبارة أخرى هي الرئة التي تتنفس بها مدينة عدن هواء اليمن . أو عدن عين اليمن ـــ على حسب قول أحد الضباط السياسيين البريطانيين في عدن ــــ .[c1]رمز الأصالة[/c]ويقول محيرز إن ( العقبة ) أو باب اليمن رمز لأصالة مدينة عدن . وفي هذا الصدد ، يقول : « والعقبة أكثر من تلال وشعاب ، وحصون وقلاع. هي رمز لعزم هذه المدينة ، وتصميمها عبر العصور لتأكيد ارتباطها العرقي، والثقافي باليمن . . « . ويمنحنا محيرز صورة أوسع وأعمق عن ارتباط عدن بمحيطها العربي إلى جانب ارتباطها الوثيق بيمنها . فيقول : « وطن أكبر وأشمل : أهلها أهله ولغتها لغته ، وتاريخها تاريخه . . وطن هو جزء من عالم عربي أوسع ، أثرت فيه ، وتأثرت به ، ولعبت دورها كاملا ً في تاريخه وثقافته . وبقيت العقبة الضمان الوحيد للحفاظ على أصالة المدينة وعلاقتها بيمنها . . . » .[c1]صانع التاريخ[/c]والحقيقة إنّ كتب الأستاذ عبد الله محيرز المتنوعة التي ألفها في تاريخ عدن تعكس لنا صفات مؤرخ اجتهد اجتهاداً كبيرًا للوصول ـــ قدر المستطاع ـــ إلى أقرب نقطة من قلب الحقيقة , ومن أجل بلوغ تلك الغاية فإنه استعمل أدوات منهج البحث التاريخي المتمثل بالاستقصاء ، والاستقراء ، والتمحيص، والمقارنة ، والتحليل فضلاً عن تحليه بالصبر ، والمثابرة ، فتغلب على العراقيل المتمثلة في شحة وضآلة المصادر وندرتها . ومن يطلع ويقرأ بإمعان كتابه الرائع (( العقبة )) . يجد أن صفحاته انطوت على معلومات تاريخية مثيرة وجديدة وقيمة لتضاف إلى تاريخ عدن . والحقيقة أن مؤرخنا ـــ كما قلنا سابقا ً ــــ لم يلق الأضواء على (العقبة ) أو باب عدن في إطار العمارة الصماء الجامدة فحسب بل درس الحوادث التاريخية التي صنعها باب عدن أو التي دارت فيه أو حوله أو التي شاهدها . ومرة أخرى نؤكد أنّ مؤرخنا الكبير عبد الله محيرز لم ينظر إلى تاريخ العقبة نظرة ضيقة جافة أو بالأحرى لم ينظر إليها من رؤية معمارية بحتة بل نظر إليها من زاويتين تاريخية واجتماعية واسعتين وعميقتين ما يدل على قدرته العميقة في تحليل الأحداث التي مرت بها ( العقبة ) أو باب عدن عبر تاريخها البعيد . ولسنا نبالغ إذا قلنا أن مؤلفه ( العقبة) يجعلك تعيش قلب الأحداث أو كأنك معاصر بسبب أن محيرز صبغ على المواقع والأماكن الصماء ألواناً من الحياة والحيوية والحركة فنطقت بما حدث لها في تلك الفترة التاريخية كأننا نرى أحداثها رأي العين .[c1]وتعددت الأسماء [/c] ويعدد محيرز الأسماء التي خلعها الناس على العقبة ، فيقول : « فهو : باب عدن ، وباب العقبة ، وباب البر ، والباب البري ، وباب اليمن ، وباب السقائين ( السقاءين ) ، وباب المعلا « . ويضيف ، قائلاً : « وسماه الإنجليز بعد الاحتلال الممر الرئيسي تمييزاً له عن الممر الصغير : عقبة أخرى تبعد عنه قرابة كيلومترين ، وتسمى أحياناُ بعقبة حجيف « . وتذكر المصادر التراثية أنّ تسمية باب السقاءين يعود إلى أنّ القوافل المحملة بالمياه العذبة تفرغها في صهريج ضخم تحت باب عدن أو العقبة وذلك في الليل حيث لا يسمح بمرورها إلى داخل المدينة في ذلك الوقت , وأما في النهار فإن القوافل المحملة بالمياه تصبها في داخل صهاريج المدينة . وهذا ما أكده أحد البرتغاليين الذي كان مرافقا ً للحملة البرتغالية على عدن « . . . أنه كان بالمدينة في عام 1530م عدة صهاريج للماء ، وواحد خارجها ، وانه يجلب إلى المدينة ما بين ألف وخمسمائة ، وألفي جمل محملة بالماء يوميا ً “ . ويواصل كلامه ، قائلا ً : “ وتدخل هذه الجمال المدينة بالماء في النهار ، ولكن في الليل تصب في صهريج قريب من بيت الماء تحت بابها إذ لا تفتح أبواب المدينة في الليل على الإطلاق “ . والجدير بالذكر ، أن هذا الصهريج الضخم الواقع تحت (باب عدن ) شيده السلطان عامر بن عبد الوهاب ألطاهري المتوفى مقتولا ً في سنة ( 923هـ / 1517م ) . وفي هذا الشأن ، يقول المهندس علوي المحضار : “ وفي القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي يصف المؤرخ ابن الديبع الشيباني الزبيدي الذي أرخ للدولة الطاهرية بين سنتي 900 / 923هـ ( 1494 ـــ 1517م ) ما قام به الملك الظافر عامر بن عبد الوهاب بن داوود بن طاهر من أعمال جليلة ومآثر مخلدة . لذكراه منها : “ ومسجد بداخل مدينة عدن وآخر بالمباه بظاهر باب الببر منها وصهريج عظيم لم يسبق إلى مثله “ . ويضيف المحضار كما يقول ( أي ابن الديبع ) “ وهو ( السلطان عامر الطاهري ) الذي أجرى الثلاج ( مياه الوادي ) إلى مدينة عدن من أماكن بعيدة وأنفق في ذلك أموالا ً عديدة “ .[c1]الدرع الواقية[/c] ويشرح عبد الله محيرز أهمية باب عدن كهمزة وصل بين المدينة واليمن أو المناطق الداخلية من اليمن ,كما أنه كان أيضاً بمثابة الدرع الواقية التي تحمي المدينة من كل غزو محتمل ، وأنّ اختراقه أو حتى الاقتراب منه من المهاجمين يوقع خسائر فادحة في صفوفهم . ولا يتم اختراقه أو الاستيلاء عليه إلاّ بالخيانة والغدر من قبل الحراس المشرفين على حراسته ، وذلك مثلما حدث مع توران شاه المتوفى ( 576هـ / 1187م ) ، قائد الحملة الأيوبية على اليمن الذي دخل عدن في يوم الجمعة 20 ذي القعدة سنة 569 هـ / 1174م ـــ على حسب قول الدكتور محمد كريم الشمري ـــ . ويؤكد الأستاذ حسن صالح شهاب أن سقوط باب عدن كان جراء مؤامرة دبرت بالليل مع حراس البوابة من قبل توران شاه وكان يحكم مدينة عدن حينئذ آل زريع ، فيقول : “ ففتح عدن من جهة البر أمر صعب ، ولم يكن يتم إلاّ بتواطؤ حاميتها ، المرتبة على الجبال المحيطة بها من جهة البرزخ “ . ونستخلص من ذلك أنه من المحتمل أن الذي شق الجبل , كان يريد تحقيق هدفين , الأول هو هدف تجاري يكسب منه أرباحاً طائلة من جراء الضرائب التي تدفعها القوافل التجارية القادمة من اليمن أو الجزيرة العربية التي تدخل المدينة من خلاله. فقد “ روى عمارة أن المكرم الصليحي ( زوج السيدة بنت أحمد ) كافأ ولدي زريع : العباس ، والمسعود ـــ ليد سلفت من أبيهما في نصرة الدولة المسستنصرية ( الدولة الفاطمية ) أيام أبيه علي بن الصليحي ــــ فولاهما عدن : وجعل مقر العباس تعكر عدن ، وهو يحوز الباب ، وما يصل من البر ، وجعل لمسعود حصن الخضراء ( صيرة حالياً ) ، وهو يحوز الساحل والمراكب ، ويحكم على المدينة “ . وكان العباس يدفع خمسين ألف قطعة ذهب إلى السيدة الحرة الصليحية إلى جانب أخيه الذي كان يدفع هو أيضاً مثله . وهذا دليل واضح أن باب عدن ، كان يدر أموالا طائلة إزاء الضرائب التي كانت تفرض على القوافل التجارية المحملة بالبضائع والسلع القادمة من مناطق اليمن الداخلية لبيعها في أسواق عدن وتحديداً في سوق الزعفران الذي كان أشهر الأسواق في عدن على الإطلاق في تلك الفترة . حقيقة مازال سوق الزعفران ماثلاً للعيان حتى يوم الناس هذا ولكنه فقد أهميته التجارية التي كان عليها في عصر آل بني زريع الذين استقلوا بإمارة عدن من الصليحيين وذلك بعيد وفاة الملكة السيدة الحرة بنت أحمد سنة ( 532هـ / 1138م) . والهدف الآخر هو عسكري بحت حيث رأت الدول التي تعاقبت على حكم عدن أهميته الإستراتيجية في صد الغزاة أو الطامعين والطامحين بالمدينة عبر البر ــ كما أسلفنا سابقاً ـــ . [c1]المنفذ الوحيد [/c]ويؤكد أستاذنا محيرز أن باب عدن أو العقبة كان يمثل منذ نشأته المنفذ الوحيد من جهة البر الذي يربط عدن بأقاليم اليمن المختلفة , فيقول : “ وقد ظل ـــ باب عدن ـــ لزمن طويل المنفذ الوحيد للمدينة ، والصلة التي ربطت عدن ببقية أجزاء اليمن “ . ويذكر عبد الله محيرز أن أقدم المؤرخين الذين ذكروا باب عدن هو المؤرخ والجغرافي الهمداني المتوفى مابين ( 360هـ ) ( 1 / 972م ) ، حيث زار باب العقبة ووصفه ، قائلاً: “ شصر مقطوع في جبل كان محيطاً بموضع عدن من الساحل ، فلم يكن لها طريق إلا للرجل لمن ركب ظهر الجمل . . فقطع في الجبل باب مبلغ عرض الجبل ، حتى سلكه الدواب ، والجمال ، والمحافل ، والمحفات “ . وعن طريقة بناء باب العقبة ، يقول عبد الله محيرز نقلاًَ عن الهمداني : “ ويصف طريقة بنائه : “ وهي ساحل يحيط به جبل لم يكن فيه طريق ، فقطع في الجبل باب ، بزبر الحديد ، وصار لها طريقاً إلى البر ، ودرباً “ . ويعقب عبد الله محيرز على كلام الهمداني ، قائلاً : “ وهو وصف للباب لا يكاد يختلف كثيراً عنه اليوم ، سوى أنه لم يعد المنفذ الوحيد للمدينة “ .[c1]أعجوبة معمارية[/c]وأكبر الظن أنّ باب عدن ، كان مشهوراً منذ زمن بعيد ، وكان يعد أعجوبة معمارية أو بالأحرى كان من أشهر أبواب اليمن إن لم يكن أشهرها على الإطلاق في تلك الفترة . وفي هذا الصدد ، يقول محيرز : “ اشتهر الباب منذ زمن طويل . وعدّه بعضهم أعجوبة معمارية أكثر منه ممراً عادياً للدواب ، والناس. فقد قامت عليه حراسة ، وركبت عليه بوابات تنظم حركة المرور عبره “. ويمضي في حديثه : “ أكد ذلك المقدسي ــ جغرافي معاصر للهمداني ــ بقوله : “ وقد شق فيه طريق في الصخر عجيب ، وجعل عليه باب حديد . كما وصفه الهمداني نفسه ضمن الأبواب المشهورة في اليمن التي يطلب الأذن في دخولها ، بل وعده من عجائب اليمن التي لا مثيل لها في الدنيا “ . ويفهم من ذلك أنّ باب العقبة كان موجودًا قبل بناء البغدة أو ( النفق ) بزمن بعيد . وكيفما كان الأمر ، فقد اضطربت وتباينت الآراء حوله فبعضهم يقول أن البغدة هي باب عدن وآخرون ينفون ذلك نفيا قاطعا وهو ما سنتحدث عنه بالتفصيل بعد قليل . والجدير ذكره أن المصادر التراثية تصمت عن الحديث عمن بنى باب عدن وفي أي زمن ؟ ودليل ذلك أن مؤرخنا محيرز لم يذكر من قريب أو بعيد تاريخ بنائه ومن بناه ولكن نستطيع أن نفهم أنه من المحتمل أن باب عدن ظهر على سطح عدن في العصور الوسطى . وكل الذي لدينا من المراجع التاريخية تتحدث فحسب عن باب عدن أو العقبة وما شاهده من أحداث عبر التاريخ . بين الباب والبغدة[/c]قلنا سابقا أن الآراء اختلطت بين باب عدن والبغدة ( أي النفق ) فالبعض يرى أن البغدة هي باب عدن ، والبعض الآخر يقول أنّ هناك فرقاً واضحاً وبوناً شاسعاً بين باب عدن والبغدة ومن بينهم محيرز . وفي هذا الشأن ، يقول : “ اشتهر النفق ــ الذي يصل مدينة عدن بالتلاج ـــ بالوادي الذي يفصله جبل ـــ ، واختلف الناس في أمرها ، فمنهم من رأى أنها أقدم من باب عدن نفسه ، وأنها كانت لزمن طويل باب عدن الرئيسي الوحيد. ومنهم من رأى أنّ كافة ما ذكره المؤرخون عن شيء اسمه ( باب عدن ) ، سيان : طريقة شقه ، أو الاستحكامات الدفاعية المتعلقة به ، فإنما قصد به ( البغدة ) . وأنّ هذا الممر الواقع في ثنايا العقبة المعروف بباب عدن حالياً ، ما هو إلا تشكيل جيولوجي استفادت المدينة منه كممر للدواب والناس “ . ويواصل محيرز كلامه : “ وقد أكد أحد الباحثين الأجانب ــ في دراسة له أسماها ( عدن في التاريخ ) في 1965م ـــ مرجحاً هذا الرأي . ولا يبدو أنّ للممر الرئيسي ( باب عدن ) أي دور في الاستحكامات الدفاعية لعدن قديماً ، ولكنه اكتسب أهمية في القرون الوسطى المتأخرة . ويوحي هذا بأنه صدع طبيعي ، وسع، وعمق ، وليس بالقديم جداً “ .[c1]دلائل وبراهين [/c]ويسوق عبد الله محيرز الدلائل والبراهين التاريخية التي تؤكد أنّ باب عدن أو باب العقبة ليس البغدة ( أي النفق ) ـــ كما يتوهم البعض ـــ ، فيقول “ : ولا يشير الرحالات ( الرحالة ) الذين زاروا عدن ــ حتى منتصف القرن التاسع عشر القرن ( 13هـ ) ـــ إلى وجود نفق تحت الجبل الأخضر. وعندما زار (( ولستد )) عدنا ًــ بضع سنوات قبل احتلال الإنجليز لها ـــ وصف باب العقبة بأنه الطريق الوحيد إلى المدينة من البر ، ووصفه عند خروجه منه بأوصاف لا يمكن أن تنطبق على نفق طوله 350 ياردة ينتهي إلى وديان وشعاب شبيهة ( بالتلاج ) : ـــ وبعد ذلك يقابلنا منظر رائع لخليج عدن الخلفي ( بحر التواهي ، والمعلا ) ، والذي يشبه بحيرة واسعة تتناثر عليها جزر ، صخرية قاتمة “ ويعلق عبد الله محيرز على وصف ولستد باب العقبة ، قائلاً : “ فأي ممر ـــ عدا باب عدن الحالي ـــ يفضي من المدينة إلى بحر التواهي والمعلا ، وتقابله فجأة تلك الجزر المتناثرة على سطحه ؟ “ . ويضيف محيرز معلومات أخرى تؤكد ما ذهب إليه بأنّ من يظن أنّ باب عدن هو البغدة ، فهو يجانب الحقيقة ، فيقول : “ وفي 1848م ، يصف ضابط في الجيش البريطاني طريقه من التواهي قادماً إلى عدن “ وبعد قطع أربعة أميال ( من التواهي ) في طريق موحش ، يقابل المرء أول ما يقابله باب اليمن أو الممر الرئيسي الذي يمكن دخول المدينة عبره “ “ . ويزيد عبد الله محيرز في توضيح الصورة بأنه لا يوجد أي دليل أو برهان يقودنا أو يثبت أن البُغدْة هي باب عدن ، فيقول : “ ولا تبدو على أية خريطة لعدن ابتداء من خارطة هينز التي قدمها مع تقريره قبل احتلاله لها ، أية إشارة إلى نفق تحت الجبل الأخضر ، ولكن تظهر في الخرائط المتأخرة إشارة لمشروع نفق في هذا الموقع المخطط ـــ لإنجازه في وقت لاحق “. وهذا يؤكد ما ذهب إليه محيرز بأنه “ في مطلع القرن التاسع عشر هو وجود ممر واحد من المدينة إلى البر : باب العقبة ، أو الممر الرئيسي “ . ونستخلص مما قاله عبد الله محيرز ، بأن باب عدن ظهر في الوجود قبل البغدة ( النفق ) بزمن بعيد . ويؤكد علوي المحضار ما ذهب إليه مؤرخنا محيرز بأن ( باب عدن ) ، كان موجودًا قبل إنشاء ( البغدة ) أو النفق الذي يشق جبال المنصوري وهي المتاخمة لشارع ( أروى ) بكريتر أو عدن القديمة والبرزخ ( المنطقة الواقعة والمتاخمة لجبل حديد ) بزمن بعيد لمد المدينة بالمياه الصالحة للشرب. فقد نقل المحضار عن الوثائق الإنجليزية حدوث فيضانات ضخمة جراء هطول الأمطار الغزيرة على صهاريج المدينة من الليل وحتى ضوء الصباح في إبريل 1859م مما تسبب في خسائر بشرية وفي الممتلكات . ونورد نص ما جاء في الوثائق البريطانية على النحو التالي: “ . . . وخلال نصف ساعة كانت كل شبه جزيرة عدن مقطوعة بسيول جارفة ، جرفت في طريقها البشر والمنازل والجمال وجميع الممتلكات الخاصة ، ولم يتوقف المطر إلا ّمع ضوء الصباح ، حيث بدت المدينة في وضع بائس ، كل الطرق والشوارع فيها مكسرة وغير صالحة للاستخدام كما قطع الممر الرئيسي ( باب عدن ) بالصخور والأتربة النازلة من الجبال وبدت المدينة كأنها اطلال “ .[c1]أسباب بنائها [/c]أشرنا في السابق إلى أن السلطات الإنجليزية منذ أن وطئت قدماها مدينة عدن في سنة 1839م كان شغلها الشاغل وهمها الأول هو توفير المياه لقواتها المرابطة في المعسكرات والثكنات في المدينة . وفي هذا الصدد ، يقول محيرز : “ يبدو أن من أهم الأسباب التي دعت لبناء البغدة ( النفق ) الذي يصل البرزخ ( جبل حديد )بالمدينة هو توفير الماء من البرزخ إلى المدينة . وتذكر الروايات التاريخية أنه في السنين الأولى للاحتلال وتحت الضغط المستمر ، وهجمات المقاومة ، كان البرزخ في حالة استعداد حربي دائم ، وأصبح ضرورياً لسلطة الاحتلال أنّ تؤمن هذه المادة الضرورية “ . ومما فرض على السلطات البريطانية حفر النفق هو أنّ سلطان لحج هدد قواتها بقطع الماء عنها حتى تعود بريطانيا إلى رشدها . وفي هذا الصدد ، يقول محيرز : “ فقد لقي الإنجليز متاعب من السلطان علي العبدلي ، إذ بدأ يفرض إتاوة مفرطة على بئر الشيخ عثمان الذي يمون عدناً بالماء . وفي يناير 1858م ، كتب السلطان العبدلي إلى الإنجليز رسالة قرر فيها قطع العلاقات ، وإقفال الحدود إلى بلاده حتى : “ يعود للحكومة البريطانية ( عقلها ) “ . وفي السياق نفسه ، يقول علوي المحضار الأسباب الرئيسة التي دفعت السلطات الإنجليزية بشق النفق من جبل الحديد ( البرزخ ) وينتهي بجبال المنصوري وهي التي تطل على شارع ( أروى ) داخل مدينة كريتر أو عدن القديمة . : “ كان خوف السلطات ، أنه عند حدوث هجوم على المدينة من اتجاه البر أو البحر أو محاصرتها لفترة طويلة ، فإنها لن تتمكن من تموين الحامية بالمياه من داخل المدينة عبر الممر الرئيسي ,أو من خارج الحدود , وخزن كميات كبيرة من المياه في البرزخ ( المنطقة الواقعة في جبل حديد ) ، سيساعد الحامية ، على الصمود والقتال لمدة أطول “ . ويسترسل: “ ولسهولة تموين هذه الخزانات من داخل المدينة ، تم شق نفق في سلسلة جبال المنصوري ( الجبال الموازية لشارع الملكة أروى باتجاه باب عدن ) لربط المواقع الدفاعية في البرزخ بمصادر المياه ، حيث تم خلال عامي 58 و 1859م شق 635 قدمًا من اتجاه المدينة و 406 أقدام من اتجاه البرزخ . كما شق نفق آخر صغير بين قسمي البرزخ ( الصغير والكبير ) لتسهيل المرور إلى الخزانات في البرزخ الكبير ، وبذلك اختصرت المسافة بين المدينة والبرزخ عبر النفق إلى 350 ياردة فقط ، بدلا ً من الدوران عبر الممر الرئيسي ( أي باب عدن ) ، وانتهى العمل في النفق في ديسمبر 1856 م وبلغت تكاليف حفره 197. 729 روبية “ .[c1]وصفها [/c]ويلفت نظرنا أن مؤرخنا محيرز والأستاذ المهندس المحضار يتطابقان في وصف النفق أو البغدة ما عدا في تاريخ افتتاحها فالأول يقول إن افتتاحها تم في 1859م أما الأخير فيقول إنها افتتحت في 1856م أي هناك فارق ثلاث سنوات . وكيفما كان الأمر ، ينقل محيرز لأحد الأجانب وصفا ً للبغدة التي شاهدها في العقد الأخير من القرن ( 19م ) ( القرن 13هـ ) ، فيقول : . وفي العقد الأخير من القرن التاسع عشر ، يصف هاريس النفق، قائلاً : “ “ وبقي منظر واحد يستحق الرؤية في عدن ، نفق يربط المدينة بالبرزخ , ويمر تحت جبال المنصوري ( أي الجبال المتاخمة لشارع أروى في كريتر ) وطول هذا النفق 350 ياردة ، ويضاء بأنوار القناديل ، وهو ذو ارتفاع وسعة كافية لعبور القوافل والعربات . . . “ . ويصف مؤرخ يمني معاصراً للنفق وهو الواسعي والذي أدهشه نظام الحركة الدقيقة فيه، حيث يقول : “ . . . وفيه مصابيح ( يقصد مصابيح ممر النفق ) متقدة ليل نهار ، وعلى مدخليه من الطرفين جندي واقف لمراقبة العجلات التي تجرها الخيل أو لمرور الجمال ونحوها ، وكلها تمر شيئاً بعد شيء بنظام محكم لا عيب فيه . وقد وضع تحت يدي هذا الجندي ، جرس يقرعه تنبيهاً لصاحبه الجندي الآخر ، الواقف في الطرف الثاني من هذا النفق ، حتى تقف النقالات إلى أنّ تمر العجلات التي تتجه في الوجهة التي تمضي فيها حتى لا تصدم ، ويقع الضرر بين الذاهب والقادم . وهكذا دواليك “ . والجدير ذكره أنّ البغدة ( النفق ) أغلقت نهائياً في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية .[c1]قرية ( المباه )[/c]والكتاب ـــ كما قلنا سابقاً ـــ لا يتناول باب عدن أو الممر الرئيس فحسب بل تناول المناطق المحيط به كقرية ( المباه ) التي ارتبطت بالباب ارتباطاً وثيقاً. وتذكر المراجع التاريخية أن القرية ، كانت في يوم من الأيام ملء السمع والبصر، فكان يعرفها الداني القريب والقاصي البعيد في طول وعرض اليمن . وكانت محطة للمسافرين والقوافل التجارية الذين كانوا يأتون إليها في كل مكان فيتجمعون عندها قبل دخولهم المدينة من بوابة العقبة , والعكس صحيح عندما كانت القوافل تخرج من عدن ، كانت جميعها تتجمع فيها لتعود مرة أخرى إلى داخل أقاليم اليمن . وطفا اسم تلك القرية على سطح الأحداث في عهد الرسوليين والطاهريين. وفي هذا الصدد ، يقول عبد الله محيرز : “ قرية كانت لها أهمية خاصة متعلقة بباب عدن ، تردد اسمها ، وتكرر كثيراً مقترن به . وقد اختفت نهائياً فلا يعرف حالياً موقع بهذا الاسم “ . ويضيف عبد الله محيرز في وصف قرية ( المباه ) نقلاً عن بامخرمة المتوفى ( 947هـ / 1540م ) ، قائلاً : “ ويصفها أبو مخرمة بأنها قرية صغيرة تحت عدن بينها وبين عدن ربع فرسخ ، سميت بذلك لأن من خرج من عدن سائراً أقام بها إلى أنّ يتكامل بقية الرفقة ويسيرون جميعاً، وكذلك القوافل الواصلة إلى عدن ، كانوا يقيمون بها، ويتهيئون للدخول بالغسيل ولبس الثياب ، ونحو ذلك “ . [c1]لماذا سميت بـ ( المباه ) ؟[/c]وحول أسباب تسميتها بقرية ( المباه ) ، يفسر مؤرخنا عبد الله محيرز نقلاً عن بامخرمة : “ ويعلل أبو مخرمة تسميتها . فلعل ( المباه ) . المباءة بالهمزة والمد من التبوؤ , ولما كثر استعمال العامة لها خففوها بإزالة الهمزة والمد . هي المنزل” . ويصف محيرز قرية ( المباه ) حيث يقول : “ . . . وكان بها دكاكين ، ومحلاجة ، وبيوت، وغالب أهلها صيادون ، ويحرقون النورة ، والحطم . وبها مسجد قديم خرب ، فجدد عمارته السلطان صلاح الدين عامر عبد الوهاب رحمه الله ، ورتب فيه إماماً ، ومؤذناً ، وخطيباً يخطب بالناس يوم الجمعة ، ونصب به منبراً “ . ونستخلص من ذلك أنّ قرية ( المباه ) ظهرت على سطح عدن وازدهرت بفضل باب عدن الذي كانت تعبر منه القوافل المحملة بالسلع والبضائع المختلفة من داخل أقاليم اليمن . ويبدو أن القرية كانت عامرة بالناس ودليل ذلك تأسيس المسجد ، ووجود والمحلات العديدة بها . [c1]وغابت الغيبة الأبدية[/c]ويروي عبد الله محيرز القصة الحزينة والمفجعة لقرية ( المباه ) عما أصابها بعد الازدهار والرخاء اللذين كانا بها وكيف اندثرت وغابت غيبتها الأبدية وباتت أثراً بعد عين ، بعد أن كانت ملء السمع والبصر والقلب ـــ كما أشرنا في السابق ـــ ، فيقول : “ وأخيراً يصف ( أبومخرمة ) النهاية الأليمة التي لحقتها . ولما ثارت الفتنة باليمن بوصول الترك إليها ( والمحتمل أن تكون سنة 1538م بعد سيطرتهم على عدن مباشرة وذلك بعد مقتل آخر حكام دولة بني طاهر عامر بن داود على يد قائد الحملة العثمانية سليمان باشا الخادم ) ، وضعفت شوكة الدولة ( أي الدولة الطاهرية ) وقويت شوكة المفسدين ، وصلوا إلى المباه ، وأحرقوها ، ونهبوها ، وانتقل أهلها عنها فهي اليوم خراب “ . وفي رواية أخرى يقول محيرز عن قرية المباه أنها اختفت قبل وصول العثمانيين إلى عدن الذين قدموا إليها في القرن ( 16م / 10هـ ) . وأغلب الظن أن تلك القرية قد أصابها الخراب والدمار من قبل غارات القبائل في أواخر عهد الدولة الطاهرية التي أصابها الوهن والضعف الشديد ، وصارت مطمح الطامحين بها .[c1]دكة الكباش[/c] ويحدد عبد الله محيرز موقع قرية المباه بأنها تقع في ( دكة الكباش ) وهي بالقرب من مكتب وزارة الطاقة والمعادن . وفي هذا الصدد ، يقول : “ فيصفها ابن الديبع المتوفى ( 944هـ / 1537م ) بأنها (( قرية صغيرة )) خارج عدن . وفي موضع آخر عند الكلام عن مآثر ( الملك الظافر ) في مدينة عدن وقرية ( المباه ) فيقول ( بنى ) : مسجد بداخل عدن ، وآخر بالمباه بظاهر باب البر فيها . وهذا لا يدع أي مجال للشك بأن موقع القرية هو الموقع الذي بخارج عدن ، وعرف ( بدكة الكباش ) “ وقد جاءت تلك التسمية في عهد متأخر من المحتمل بعد الاحتلال الإنجليزي لعدن حيث كانت تأتي رؤوس القطعان من بلاد الصومال عبر البحر إلى ميناء صغير وترسو بجانبها السفن الشراعية الصغيرة ومع مرور الوقت اكتسب هذا الميناء الصغير اسم ( دكة الكباش ) أي الخراف .[c1]حي الخساف[/c]لكل حي في مدينة عدن القديمة قصة ، وكم من الأحياء المشهورة في المدينة نمر عليها مرور الكرام ، ولا نقف عندها ، لنبحث وننقب في تراثها ودورها في تاريخ المدينة . وكيفما كان الأمر ، بعد احتلال الإنجليز لعدن في سنة ( 1839م ) مباشرة طفا حي الخساف إلى سطح تاريخ عدن حيث صار مقراً للكابتن هينز ، وكان طبيعياً أن يلاقي هذا الحي اهتماماً وعناية من السلطات الإنجليزية حينئذ . وكان ذلك المقر في السابق قصراً لأحد سلاطين لحج الذين حكموا عدن قبل مجيء الإنجليز إليها وتذكر الروايات التاريخية أن حي الخساف ، كان قفراً مليئاً بمقابر وأضرحة أولياء الله الصالحين . . وفي هذا الشأن ، يقول عبد الله محيرز: “ وتنعدم أية إشارة إلى هذا الموضع ( الخساف ) في كتب التراث ، عدا إشارات متفرقة عن بعض الزوايا أو الأضرحة . ويمر الرحالات ( الرحالة ) في كتاباتهم عن عدن مرور الكرام عند ذكرالخساف ، دون التعرض له . ويبدو أنه ظل قفراً لبعده عن السكان ، وانعدمت أية معلومات عنه ذات بال . إلا أنه احتل مكانة هامة عندما صار مقراً للكابتن هينز ، قصر السلطان العبدلي هناك والذي مازال موجوداً ضمن مكتب وزارة العمل والخدمة المدنية حالياً “ . [c1]جبل التعكـــر[/c]ويتكئ حي الخساف على سفح جبل التعكر في عدن الذي تلاشى اسمه بين الناس منذ زمن بعيد وبات يعرف حالياً بجبل الخساف ، وفي هذا الصدد يقول محيرز : “ وقد اختفى اسم التعكر نهائياً من عدن رغم بقاء اسم نظيره في ( جبلة ) ـــ بالقرب من إب ـــ متداولاً إلى اليوم “ . ويضيف قائلاً: “ وتحت مادة التعكر يضيف القاموس ما يحدد موقعه بدقة بأنه : جبل من جبال عدن ، على يسار من يخرج من الباب إلى البر . وهذا ينطبق على ما يطلق عليه الآن جبل الخساف . ويطلق اسم التعكر على جانبي الجبل : ما كان منه داخل المدينة ( أي ما يطل على الخساف على وادي الخساف ) ، أو خارجها والذي يطل على البحر وميناء المعلا . توحي بذلك رواية عمارة اليمني عن الداعي سبأ الزريعي : وأما الداعي سبأ فدخل مدينة عدن ، ولم يقم بها إلاّ سبعة أشهر . . . ودفن في سفح التعكر من داخل البلد . تميزاً له عن جانبه الآخر المشرف على المعلا “ . وفي موضع آخر يقول عبد الله محيرز عن جبل التعكر ما يلي : “ واتخذ مؤرخ آخر نفس الاحتراز بعد خمسة قرون . فقد كتب البريهي مؤرخاً للشيخ عبد الله بن عبد اللطيف العراقي : أحد فقهاء ، وصلحاء عدن أنه : توفي سنة إحدى وستين وثمانمئة ( 1457م) ( أي في النصف الأول من القرن الثالث عشر / القرن السابع الهجري ) , ودفن تحت حصن التعكر مما يلي البر “ . ويضيف عبد الله محيرز قائلاً : “ ويوجد الآن ضريح في سفح جبل الخساف يحمل اسم الشيخ المذكور مؤكداً أن جبل الخساف هو الاسم الحالي لجبل التعكر “. [c1]أهميته[/c]ومثلما كان باب عدن الدرع الواقية لمدينة عدن وأهلها ضد الطامعين فيها، فقد كان لجبل التعكر أو جبل الخساف دور واضح ومهم في حماية المدينة والدفاع عنها ، وفي هذا الشأن يقول محيرز : “ ولهذا الجبل دور بارز في تاريخ المدينة والدفاع عنها يمكن تتبعه في دور العقبة العسكري. ويزيد في توضيح الصورة عن أهمية الجبل العسكري في الذود عن حياض عدن ، وكيف كان الصخرة الصماء العظيمة التي تحطمت عليها أطماع البرتغاليين ، قائلاً : “ ولعب (جبل التعكر) دوراً بارزاً ـــ بدروبه وقلاعه ــ في تاريخ المدينة العسكري . . وشهد جزؤه الجنوبي هجمات البرتغال ، والترك، والإنجليز للمدينة ، فازدحمت عليه وحوله الاستحكامات العسكرية من قلاع، وحصون ، وخنادق ، ودروب ، ومسالك لازال بعضها قائماً ، وأختفى أغلبها , وبقيت آثاره دالة عليه “ . [c1]عدن والأمير الزنجبيلي [/c]عثمان الزنجبيلي أو ألزنجبيلي المتوفى سنة ( 583هـ / 1187م ) هو أحد القادة العسكريين الذي صاحب توران شاه الأيوبي في حملته على اليمن في سنة 569هـ / 1173م الذي كان من القادة المقربين من توران شاه ، فكسب ثقته بسبب حسن إدارته ، ومهارته في الحروب التي خاضها في اليمن . وولاه توران شاه إمارة عدن ولحج وحضرموت والشحر والتي كانت من أعمال عدن . وعلى أية حال ، بعد رحيل الملك توران شاه من بلاد اليمن سنة ( 571هـ / 1175م ) وعلى وجه التحديد بعد وفاته سنة ( 576هـ / 1181م ) صار الأمير عثمان ألزنجبيلي الحاكم الفعلي والمطلق في إمارة عدن ، فثبت دعائم حكمه في إمارة عدن , وأهتم اهتماماً كبيراً بمينائها الذي ازدهر في عهده ازدهاراً كبيراً حيث نشطت الحركة التجارية فيه ، وركز اهتمامه بالجانب الحربي بهدف تأمين إمارته الجديدة من كل غزو أو كل من تسول له نفسه من الطامحين والطامعين الاستيلاء عليها. وكان طبيعياً أن يلاقي باب عدن عناية فائقة من قبل الأمير الزنجبيلي بسبب موقعه العسكري الخطير الذي يتحكم بأمن المدينة من الطامعين ـــ كما قلنا سابقا ً ــــ . فتذكر الروايات التاريخية أن الأمير الزنجبيلي حصن باب عدن تحصيناً قوياً ، وشحنه بالجند والسلاح ، وصار الباب منيعاً , وشعرت مدينة عدن وأهلها بالأمان والطمأنينة جراء ذلك التحصين القوي لباب عدن أو العقبة , وكانت القوافل القادمة من داخل أقاليم اليمن تعبر الباب بأمان وسلام وفي عهده كان الباب يدر أموالاً طائلة جراء الرسوم التي تدفعها القوافل المحملة بالبضائع والسلع المختلفة القادمة من داخل اليمن .[c1]قلاعها وحصونها [/c]لقد كان الأيوبيون معروفين بعنايتهم الفائقة بتشييد الحصون والقلاع التي نشروها في طول وعرض بلاد الشام وفلسطين ، وبلاد الموصل بالعراق وذلك بسبب الحروب الصليبية القاسية والطويلة التي خاضوها ضد الصليبيين ، فاكتسبوا بذلك خبرة عميقة في تلك العمارة الحربية التي كان هدفها حماية المدن من الغزو الخارجي . وعندما تولى الأمير ألزنجبيلي إمارة عدن . شيد الكثير من الحصون والقلاع على رؤوس جبال عدن . وهذا ما أكده مؤرخنا عبد الله محيرز ، قائلاً : “ ولاقى هذا الجبل ( جبل التعكر ) عناية خاصة من الدول المتغلبة على المدينة . فربط الزنجبيلي حصن التعكر ، وحصن الخضراء بدرب على رؤوس الجبال ، لنقل الإمدادات العسكرية ، والحركة عبر باب عدن بدون الهبوط إلى المدينة ، ثم أتمه بدرب آخر من حصن الخضراء ( على الجبل الأخضر ) منحدراً إلى سفحه على ساحل صيرة الشمالي ليكمل مع سور صيرة الاستحكام الدفاعي للمدينة “ . ويمضي في حديثه ، قائلاً : “ ويمكن للمدقق اليوم ( هذا الكلام تقريبا في مطلع سنة 1980م عند تأليف الكتاب ) ، أنّ يلاحظ هذه الدروب والمسالك , وقد تداعى بعضها ، وأعيد ترميم بعضها عندما نشط الاحتلال البريطاني لتقوية دفاعاته ضد هجوم المقاومة من البر “ . [c1]أستاذ الأجيال[/c]وكيفما كان الأمر ، فإن مؤرخنا الكبير عبد الله محيرز أستاذ الأجيال الذي تتلمذ على يديه الكثير والكثير جداً في مجال الآثار والتاريخ اليمني ، استطاع أنّ يرسم لوحة غاية في الرواء ،ظلالها الجمال وألوانها الإبداع والدقة عن باب عدن. وستظل كتبه في تاريخ عدن المرجع الرئيس والمهم للمختصين والمهتمين بتاريخها الأصيل الضارب جذوره في أعماق الحضارة الإنسانية. رحم الله مؤرخنا وأستاذنا القدير عبدالله أحمد محيرز رحمة واسعة .[c1]الهوامش :[/c]( * ) توفي الأستاذ عبد الله أحمد محيرز في 21 / 9 / 1992م . عبد الله أحمد محيرز ؛ الأعمال الكاملة العقبة ، صهاريج عدن ، صيرة . سنة الطبعة 1425هـ / 2004م . الناشر : الجمهورية اليمنية ـــ وزارة الثقافة والسياحة ـــ صنعاء ـــ .حسن صالح شهاب ؛ عدن فرضة اليمن ، الطبعة الأولى 1410هـ / 1990م ، مركز الدراسات والبحوث اليمني . الدكتور محمد كريم إبراهيم الشمري ؛ عدن دراسة في أحوالها السياسية والاقتصادية ( 476 ـــ 627هـ / 1083ـــ 1229م ) . الطبعة الثانية 2008م ، إصدارات جامعة عدن ـــ الجمهورية اليمنية ــــ عدن ـــ . الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن 1538 ــــ 1635م . الطبعة الخامسة ــ نوفمبر 1999م ، دار الأمين للطباعة والنشر ـــ والتوزيع القاهرة ـــ جمهورية مصر العربية ـــ .عبد الواسع بن يحيى الواسعي ؛ تاريخ اليمن ، سنة الطبعة 1366هـ / 1947م ، مطبعة حجازي بالقاهرة .مهندس / علوي عبد الله المحضار ؛ إمدادات مياه الشرب في عدن البدايات والتطور 1839 ـــ 1965 . الطبعة الأولى 2010م ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر ـــ الجمهورية اليمنية ــــ عدن ــــ .