سيرة جديدة لجبران واكتشاف أوراق مجهولة له
بيروت/ وكالات:يحتفل لبنان وبعض المدن العالمية بالذكرى الخامسة والسبعين لرحيل الكاتب اللبناني جبران خليل جبران (1883 - 1931). وقد صدرت في المناسبة كتب جديدة عنه وأقيمت ندوات حول أدبه. الكاتب اللبناني الفرنكوفوني اسكندر نجار كتب سيرة جديدة لجبران بالفرنسية وصدرت ترجمتها العربية عن دار النهار بقلم الشاعر بسّام حجّار وعنوانها «جبران خليل جبران». وارفق نجّار السيرة هذه بكتاب آخر هو «أوراق جبرانية» صدر عن الدار نفسها ويضم رسائل ووثائق تنشر للمرة الأولى.وأشرف نجّار على صدور الأعمال الكاملة لجبران بالفرنسية عن دار روبير لافون في باريس. هنا قراءة في الكتب الثلاثة.لو أردنا تلخيص ادب جبران خليل جبران، لاخذنا من كتاب اسكندر نجار «جبران خليل جبران» الآتي: «جبران وفكره يبدوان في المحصلة شديدي التماسك... فكل العناصر في أعماله تتزاوج في وحدة تامة».لا يسعنا اعتبار جبران «من أصحاب المؤلف اليتيم»، بحسب كاتب سيرته اسكندر نجار، لأن مجمل أدبه مشغول، وجميل، وان اختلف تصنيفه من مؤلف الى آخر. و إن رددنا بعضاً منه الى مؤلفات كانت معروفة، لمؤلفين غربيين، كنيتشه وكيتس وهرمان هِسِّه وغيرهم، فجبران أصيل في كتاباته، لأن تلك آراؤه وإن تركزت على موضوعات معينة كالمحبة والحقيقة والطبيعة والله سبحانه و تعال. وهي موضوعات اهتم بها غربيون سئموا ضجيج الآلات وأزعجهم الإغراق في المادية، فبحثوا في الديانات الشرقية والفلسفات الهندية، عن معين ضدها. جبران في النهاية استفاد من كل ما أحاط به كما من طفولته في حضن بشرِّي قريته «ليصنع جبران» حتى يصعب تأطيره في إطار صارم ومحدود، لأنه تأثر بالجميع. وكان يحب ان يظل حراً في فكره كما مع نسائه.قد يكون جبران اشتهر غرباً وفي العالم بكتابه «النبي»، ولكن كتاباته الأخرى، ظلت «دستور» المراهقين، طوال فترة طويلة، خصوصاً في الشرق. ولو أردنا تلخيص حياته لقلنا ان الألم كان عنوانها والإحساس بالظلم. جبران تألم من سوء معاملة أبيه ومن فقد أمه وأخيه في فترة لم تتعد السنتين. كان على العائلة ان تصارع الفقر ثم الغربة والفقر معاً وكان عليه ان يجد مكانه تحت الشمس. ولكنه في مرحلة متقدمة من عمره مجّد هذا الألم كما فعل بودلير وغيره من مشاهير العالم، وليس تقليداً، بل لأنه مسّ شغاف قلبه. ان الألم يطهر من النجاسات ويشفي أسقام النفوس المريضة. جبران اعتبر ان كل ما في الدنيا وجه لصورة سلبية (نيغاتيف). فالخير والشر يسيران معاً كما الجريمة والعقاب، ولهذا دأْب الإنسان ان يوازن بين الأشياء حتى النهاية.لا يزال الجدل قائماً بين محبي جبران وناقدين حياديين حول رسمه. فالأوائل يريدون جبران تام البراعة، في الكتابة كما في الرسم، والآخرون يحكمون بأن جبران لم يهتم بالرسم تقنية يبحث فيها وتهمه بذاتها، بل كرديف لكتاباته. ونحن نميل الى تأييد الرأي الثاني. فقد أتيح لجبران ان يذهب الى باريس ليتلقن أصول الرسم، ولكن عدا تحسن تقنياته، فإنه لم يحس الرسم، كعلاقة باللون والخط، بل وظفه لكتاباته. وكان مظهراً ثانياً من مظاهر حساسيته الشديدة، ووسيلة تعبيرية «أدبية» مغلفة بالخط والشكل. حُكْمُ المحللين على أعماله الفنية بأنه يصعب الحكم عليها خارج نطاق كتاباته، يؤيد هذا الرأي. ولو لاحظنا ان جبران اعتمد ما سمي الرمزية الانطباعية كالفنان الانكليزي وليم بليك والمرحفلة ما قبل الرافائيلية، وان «هواء» بات يتداخل بين شخوصه كلما تقدم في الرسم، فيما كان حكم النقاد على «نبيه» بأنه هوائي صاف مفرط في بساطته، لفهمنا العلاقة بين تطور أدبه ورسمه. جبران نفسه قال ان «الفن خطوة نخطوها من المعلوم المرئي نحو المجهول. من الطبيعة نحو اللامنتهى». ولهذا لم يرسم عن الطبيعة ولم يسر مسار الرسامين المحترفين. رسمه لم يخرج عن مفهومه للدنيا وكان رسماً «ادبياً» أكثر منه تشكيلاً.احيط جبران بمن تفانوا في تشجيعه وان قست عليه الدنيا، وكان معظمهم من النساء. فالغالبية بينهن اغرمت به وأغرم بهن، وكان يقع عموماً في حب الأسنّ منه. ماري هاسكل هي الابرز بينهن، اهتمت بكل ما يخصه حتى بعد موته والى آخر يوم في حياته. كانت راعيته بكل ما في الكلمة من معنى. وكانت حاضنته مادياً وروحياً. جبران لم يتنقل بين النساء، ان شئنا حكماً حيادياً، بل كان حيث لا تأخذ علاقته بالمرأة مساراً محدداً، ينكفئ بكبرياء، ليسير في اتجاه آخر، من دون ان ينزع عن الحبيب الأول الاحترام والتبجيل. قد تكون صلته بمي زيادة، من ابرز تلك الصلات، لأن شخصيتها ايضاً أدت دورها في تلك الصلة. فقد كانت تواقة الى المثالية بعكسه هو الذي اختار ان تكون بين المحبين مسافة، تتيح شيئاً من الحرية. مي خشيت الاّ يوفر لها حب جبران ما تتوقعه منه، وهي على حق، ومع هذا يصعب النفي، ان ذلك الانجذاب الأثيري اليه، الخيالي، لأنه لم يقم على لقاء، لم يكن سبباً في عزوفها عن الزواج. كانت خيالية في حبها اكثر من كتاباتها، وكان واقعياً في محاولته شرح العلاقة بين الرجل والمرأة، اكثر من جموح خياله في الكتابة. ألم يقل في كتاب «النبي» عن الزواج: «ولكن لا يقرب أحدكم من الآخر كثيراً لأن عمودَي الهيكل يقفان منفصلين»؟ وهو لم يقصد بالطبع العلاقة الجسدية، بل هامش الحرية الذي يجب ان يحتفظ به كل منهما، فلا يذوب في الآخر. وفي ذلك رفض لفكرة الانجيل المثالية، كما وردت على لسان السيد المسيح(ع)، ان يصير الرجل وزوجته جسداً واحداً، على رغم ان جبران تأثر اكثر ما تأثر بالمسيح(ع). «نساء» جبران كثيرات، عُرفن تباعاً. سلطانة تابت، شقيقة من غدا يوماً رئيس جمهورية لبنان، أيوب تابت، وإليها يرد المحللون شخصية سلمى في «الأجنحة المتكسرة». ومنهن ميشلين أو اميلي ميشال الفرنسية التي قيل انها حملت منه وأجهضت. وينفي المؤلف عن جبران عقدة أوديب، لاختياره نساء اكبر منه سناً، لأن علاقة جبران بالمرأة كانت اكثر تعقيداً من هذا. اما عدم توصله الى علاقة جسدية بماري، فيمكن الاستنتاج من رسائلهما كما مما ورد في الكتاب، ان ماري نفسها كانت شخصية قائمة على التناقض ولم يكن السبب جبران وحده. بل حكمت العلاقة اعتبارات يوضحها اسكندر نجار في كتابه هذا.«جبران خليل جبران» كتاب شائق، تعدى ما كتب حتى الآن عن جبران، الى قراءة رسائل تبادلها حتى مع ناشره وليس مع نسائه فقط. حاول اسكندر نجار، وهو كاتب لبناني، صدرت له روايات ان يحيط بمجمل أعمال جبران، أدبياً وفنياً، وبتفاصيل حياته وفكره، وقد نجح الى حد بعيد. نقول هذا وقد أمدنا الكتاب بالتنبه الى عوامل عدة، شكلت شخصية جبران، جمعها المؤلف كلها، في كتاب حجمه صغير نسبياً، تشدك قراءتُه. هذا الكتاب الذي ترجم الى لغات عدة، يقدم جبران الإنسان لا «الهالة الجبرانية»، ولا يتجاوز الى الآراء الشخصية فيه. اسكندر نجار عرَّفنا بذاك القادم من جبال لبنان ليحط ببوسطن، وكنا نظن أننا نعرفه.في أواخر أيامه لازمته الناقدة في الـ «نيويورك تايمز» باربرة يونغ، وكرست أوقاتها له، وإن اتهمت لاحقاً بأنها تدخلت في كتاباته، خصوصاً الكتب الأخيرة، لضعف في لغته الانكليزية، وسببت ردود فعل ساخطة من أصدقائه. جبران التقى طاغور وأبرز من نالوا جوائز نوبل في أيامه، ولكن بقي ذلك الشرقي الذي يدعو أبناء أمته الى الافتخار بأصولهم كما الى الاستمداد من أفكار الغرب و«نوره»، من دون التنكر الى روحهم الشرقية. جبران كان حداثوياً شئنا ام أبينا.[c1]اوراق جبرانية[/c]هل يفترض ان يكون الناشر محسِناً؟ لا. وهذا ما لاحظه جبران عندما كتب عن ناشره ألفرد كنوبف: «كلما التقيت ألفرد كنوبف زاد حبي له... ليس رجلاً محسناً... لكنه رجل مستقيم، ولا يدع شيئاً للصدفة!».جبران اختصر شخصية ناشره بكلمات قليلة، تصف هذا الإنسان، الذي نشر كتابه «المجنون» بالإنكليزية بعدما رفضه ناشران قبله. ثم تابع إصدار بقية الكتب حتى كتاب «النبي» الذي لاقى نجاحاً عالمياً.ومما رفضت دار كنوبف نشره من كتابات جبران، مسرحيات قيل انها كتبت تأثراً بالكاتبة الاميركية جوزفين بيبودي، حب جبران الأول. كانت ركيكة الصوغ. جوزفين لم تهتم بمشاعر جبران ولم تبدِ له مثلها، ولكن الكتاب أورد قصيدة لها بعنوان «الأرز» لا يمكن ان تكون الا استيحاء من بلاد جبران، فهي لم تعرف تلك البلاد. قد نتساءل لماذا لم تقبل برجوازيات أميركيات كجوزفين وماري هاسكل الارتباط بجبران، وقد نجده في تفسير بسيط. هو إحجام فتاة من طبقة معينة، عن الارتباط بـ «غريب» ذي أصول متواضعة، نظراً لثقل التقاليد، ومحيطها الذي تعلم انه لن يقبل أمراً كهذا. وقد يعزلها عزلاً غير مقصود. في الكتاب ايضاً رسالة الى اميل زيدان، صاحب «دار الهلال» في مصر، يتدخل فيها جبران، كما مع دار كنوبف بأدق تفاصيل كتابه «دمعة وابتسامة»، حتى شكل الحرف. ويعتذر فجبران فيها، خلافاً لرسائله الاميركية، عن هذا «التطفل»، الذي قد يبدو كذلك، في عرف «إميل افندي»، وما ذلك الا لتمييز جبران نوع العلاقة التي تقوم بين غربي أو شرقي. وفي هذه اللفتة ذكاء وحس فريدان من جبران. بربارة يونغ أو هنرييتا بوتوز حاضرة «سلباً» في الكتاب، عبر رسالة وجهتها الى دار كنوبف تعترض فيها على نشر «الأجنحة المتكسرة» مترجماً، وتعتبر أفكارَه من بدايات جبران التي يجدر عدم استعادتها! بربارة تبدو شخصية متسلطة، تؤكد ما قيل عنها من تدخلها في كتابي «حديقة النبي» و «التائه» واعادة صوغ بعض منهما، وهو دور بالغت في أدائه، بعدما عملت على مساعدة جبران في السنوات الست الأخيرة من حياته. فتخطت دور المساعِدة التي تنظم الحفلات الأدبية، الى حصر جبران بكتاب «النبي»!ويتر باينر، تعرف اليه جبران في نيويورك وراسله، ولا بد من ان صداقة كان يحسها تجاهه. هذا الآخر كان شاعراً ودرس الأدب الصيني وزار اليابان، أي ينتمي باهتماماته الى نطاق اهتمامات جبران. تعبير «حبيبي ويتر» جعل البعض يتكهن بأمور غير مألوفة، لأن ويتر كان مثلياً جنسياً، ولم يخطر للمتقولين ان الروح الشرقية، عند جبران كانت تعبر عن مودتها. فلو قرأوا ان جبران قال في بداية كتاباته الإنكليزية لماري هاسكل، انه لا يزال يفكر بالعربية، لفهموا السبب. وهم على اي حال لا يعرفون اننا قد نكتب للصديق «الحبيب فلان»!كتاب «أوراق جبرانية» هو استكمال لسيرة جبران، ويمكن وضعه خلف الأول، لقراءة مباشرة، فيها الكيفية التي يخاطب بها جبران أصدقاءه ومن عمل معهم.