الشورى في الإسلام مبدأ واضح لاغبار عليه قامت عليه أمور الدنيا والدين في حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وقد أمره الله بها في قوله (وشاورهم في الأمر)، ووصف اصحابه بقوله (وأمرهم شورى بينهم) ولم يترك النبي (صلى الله عليه وسلم) شيئاً من مدلهمات الأمور إلا وكان للشورى فيه نهج واضح لكل ذي لب وبصيرة .. فهو يشاورهم يوم بدر حول الحوض أو المكان الذي سينزلون فيه. ويشاورهم في الإفك الذي رميت به زوجته ام المؤمنين (عائشة) رضي الله عنها وعن ابيها ويشاور امرأته أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها يوم الحديبية عندما قعد الصحابة عن الحلق ولم يحلقوا ولم ينحروا الهدي فاشارت عليه أم سلمة بأن يبدأ بنفسه فيحلق وينحر فإذا رأوه فعل ذلك فعلوا .. لكون الحل من العمرة بسبب الحصر لم يكن معروفاً في مناسك العمرة عند العرب !.. وهكذا تستمر الشورى معه - صلى الله عليه وسلم - حتى مرضه الذي مات فيه وأرادوا أن يكتب كتاباً يعتصم به المسلمون من بعده عن الضلالة .. وطلب من بعض الصحابة إحضار دواة ليكتبوا له كتابه العاصم من الضلال .. وأبى بعضهم بحجة أنه بلغ به الوجع أشده ولا يصح أن يرهقوه بالكتابة الآن .. وافق صلى الله عليه وسلم - هذا الفريق وقال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر !!واستخدم الصحابة - رضي الله عنهم - الشورى كذلك في شتى مسائل الفقه وهو ما عرف بالاجتهاد الجماعي .. حتى كاد إجماع أكثر الصحابة أو أهل العلم في مسألة ما أن يكون حجة!خلاصة الأمر أن الشورى زينت الإسلام ، ولم تعبه .. بل عاب كل من تركها وإن كان مسلماً !وكم أعجبني ما ذكره صاحب كتاب العقد الفريد للمسلك السعيد عن أحد الحكماء قوله ، وهو يعظ ملكه « من فضل الشورى أنها تكشف لك طباع الرجال فمتى أردت اختبار رجل ما فشاوره في أمر من الأمور فإنه يظهر لك من رأيه وفكره وعدله وجوره وخيره وشره !!»وهي لعمر الله أصدق ما قيل عن الشورى فإنه متى ما غرتك ضحالة الرجال واشتبهت البقر عليك .. واختلط الخيط الأبيض بالأسود فاعمد إلى شورى رجالك تدرك بنور البراءة الأصلية معادن المستشارين ..و نفائس أخلاقهم.. وأسرار خلالهم!هذه بلقيس .. أو قل إحدى ملكات اليمن في التاريخ القديم .. أرادت امتحان شعبها .. وفحص صبره وجلادته، قالت لهم لما جاءها كتاب سليمان - عليه السلام _ « أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمر حتى تشهدون ، قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد ، والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين».وإذا كانت الشورى لؤلؤة شهباء .,. أينما وقعت حفت الأنظار إليها بالإعجاب ! لم يعد مفهوماً بعد سلوك بعض فقهاء التشدد والإمساك - إن جاز التعبير - وهم يتصدون بكل جهدهم لكل أشكال الشورى ومعانيها من انتخابات حرة - ومجالس نيابية - وسلطة متداولة سلمياً - وحرية تعبير - ومبادلة الآخرين علاقة السلم والإنسانية والإخاء!ولم يرتضوا من الشورى غير اسمها ولا من تطبيقها غير ما سلف من التاريخ رافضين الاعتراف بدوران العصر .. وتقلب الأيام !.. تماماً كما أنكروا علناً دوران الأرض حول نفسها وقالوا بصريح العبارة «سبحانك هذا بهتان عظيم »!!هذا هو فقه القاعدين على النصوص لا أقول الراكنين إليها ! .. وفقه الإرث الظلامي من التاريخ ومحطاته البائسة على وجه الخصوص !وكم يسعدني في الحديث عن الشورى تلك الحكاية عن بطولة المرأة الحديدية أسماء بنت أبي بكر ولم يستطع ولدها وهو عبدالله بن الزبير رضي الله عنه خليفة نجد والحجاز أن يخفي حاجته إلى مشورتها .. وقد بلغت حينها من العمر مائة سنة وعمي بصرها !! عندما حاصرته جنود الحجاج بن يوسف في الحرم المكي الشريف .. وأبى الحجاج وهو يومئذ قائد جيش عبد الملك بن مروان - إلا رأس ابن الزبير. دخل عبدالله على أمه أسماء فقبل رأسها وقال: يا أماه ! لقد خذلني الناس حتى أهلي وولدي ..! ولم يبق معي إلا اليسير ومن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة ! .. فما رأيك؟!يطلب ابن الزبير من أمه رأيها ! وقد بلغت مائة سنة من عمرها !! وقد ذهب بصرها !.. ولكن لم يذهب عقلها وسداد رأيها ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء !فضمته إليها .وقالت يا بني .. إن كنت إنما أردت الدنيا ، فلبئس العبد أنت .. أهلكت نفسك وأهلكت من قاتل معك ! وإن قلت : كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت .. فهذا ليس من فعل الأحرار ! ولا أهل الدين ! .. القتل أحسن.. لضربة بالسيف في عز . . خير من ضربة بالسوط في ذل !.. قال يا أماه.. أخشى إن قتلوني مثلوا بي .. فضحكت منه وقالت يا بني إن الشاة المذبوحة لا يضرها السلخ ! .. فقبل رأسها وودعها وخرج فقتل - رضي الله عنه - في باحة الحرم الشريف.ولما قتله الحجاج .. نادى في الناس بأعلى صوته هاتوا لي أسماء تنظر كيف فعل الحجاج بولدها !! فأبت المجئ وهو حاضر .. فتظاهر بالخروج فلما علمت بذهابه جاءت إلى الحرم يقودها قائد تتحسس ولدها ! فتسلل إليها الحجاج وصاح متشفياً : كيف وجدتني فعلت بابنك يا أم عبدالله ؟! وكان سؤالاً موجعاً للغاية ! يحمل من التشفي ما يجعل الحياة أمر على الخصم من الموت ! ولكن أسماء ردت عليه رداً أحسن منه .. لم تزل كلماتها ترن في الآذان .وتقع من الإعجاب بمكان وقالت: يا حجاج وجدتك أفسدت عليه دنياه ! وأصلحت له آخرته!!وأنا أتابع هذه الوقائع الأليمة لم أستطع أن أخفي حجم إعجابي بما أفرزته من بسالة وشجاعة وسداد رأي وحكمة جرت على ألسنة الأمثال من أهل بيت عظيم هو بيت الصحابي العظيم الزبير بن العوام - رضي الله عنه- وزوجته أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - وولدهما عبدالله بن الزبير - رضي الله عنهم أجمعين وهذا مجمع رائع من توالي الروائع الإسلامية في مفردات الشورى .. والمرأة .. والبطولة والتضحية .. والصمود والصحابة وغير ذلك مما أطلق عليه فقهاء الظلام ومجتهدوها بين السرة والركبة حتى عميت عليهم الأنباء فهم لا يفقهون !!
الشورى .. زهرها وثمرها!!
أخبار متعلقة