الأبعاد التاريخية في الصراع بين الفرس والعرب وكيفية المواجهة في الراهن


14 أكتوبر/ خاص:
نجمي عبدالمجيد:
يظل العقل الغربي في ميدان الدراسات والبحوث الصانعة للقرار السياسي في الشرق الأوسط مركز القوة في تحديد مسار الاتجاهات الفكرية والتي لا ينطلق هدف إلا من خلالها.
بما طرح هذا الباحث من دراسات ميدانية، وهو من الشخصيات التي عاشت في الشرق لعدة عقود وخبرت المجريات وما لها من دوافع وتراكمات وكيف تتغير نوعية اساليب الصراع بين الشرق والغرب، وما تنتج كل حالة من أبعاد ومواقف، هي من ركائز تصاعد الأزمات في المنطقة عبر حقب طويلة وتعد قضية العلاقة بين فارس ـ ايران والعرب من المحاور التي نالت من الرؤية الاستراتيجية عند مختلف مراكز صناعة القرار في أكثر من دولة شرقاً وغرباً.
وهذه الأطروحات التي يقدمها لنا الفرد هوليداي تعد أحد التصورات التي تستعاد عند الوقوف امام هذه الأزمة التاريخية بين إيران والغرب. وبالرغم من محاولات التقارب في أوضاع معينة بين إيران ومحيطها العربي تظل نزعة السيطرة والهيمنة عند العنصر الفارسي هي ما يرسم سياسة المسافات بين الحدود ولن تسقط إيران الشراكة المذهبية ـ الشيعية من حسابات اختراق الحواجز والانتماء الطائفي عند نقاط الصدام مع العرب.
هي عوامل ظلت قوى فاعلة في صياغة هذا المشهد وتعززت مقدرتها بعد تحول السلطة السياسية في إيران إلى قيادة دينية تكتسب الحق الروحي في إدارة المصالح وتحديد اسلحة الاختراق لان الحدود لم تعد جغرافية على الأرض بل نقلت إلى عمق كيان الفرد الشيعي في كل موقع تسقط عليه شروط الانتماء الطائفي في العالم.
هنا لنا وقفات عند بعض المحاور التي تعد فاعلة حتى اليوم في هذا الصراع، وان بلغ قمة التحدي، والذي ربما يذهب بالمنطقة إلى حافة الدمار بعد وصول المواجهات بين إسرائيل وإيران ومن يدور في مسارها إلى حد الفناء وليس هذا مجرد أزمة مرحلية بل هو صراع وجود ورغبة في جعل المنطقة تحت سيطرة واحدة لا مجال فيها لوجود طرف آخر.
مما يطرح الفرد هوليداي يقول: (1958 ـ 1979م القومية العربية تواجه ايران الامبريالية.
إذا كان هناك حدث واحد عمل على تحطيم قالب السياسات السابقة في الخليج ووضع أسساً للعقود المتأخرة من عدم الاستقرار والتنافس في الخليج فان ذلك الحدث هو الثورة العراقية عام 1958م صدعت هذه الثورة لأول مرة التقسيم الذي باعد السياسات المحلية للعالم العربي عن السياسات في ايران واثارت قلقاً كبيراً داخل النظام الايراني نفسه. أولاً ان سقوط الملكية الهاشمية في العراق كان بداية النهاية للنفوذ البريطاني في الخليج، وقد حدث بعد سنة ونصف السنة من الاخفاق الانجلو فرنسي في السويس. كان زوال الاستعمار يلوح في الأفق وجاء سقوط الملكية في بغداد، وان يكن البلد مستقلاً منذ عام 1932م، ضربة اضافية خطيرة لنفوذ بريطانيا ومكانتها.
وأعقبت ذلك انسحابات اقل أهمية نسبياً من الكويت عام 1961م واليمن الجنوبي عام 1967م ومن البحرين وقطر والامارات عام 1971م وعمان عام 1977م فنهضت الولايات المتحدة إلى حد ما بالدور العسكري والسياسي والاقتصادي الذي كانت تنهض به بريطانيا وكانت قد بدأت منذ الاربعينات بتعزيز موقفها في شبه الجزيرة العربية وانتهزت فرصة الأزمة في ايران لتحل محل بريطانيا كحليف رئيس للشاة).
في هذه النقطة التي يقف فيها محور الصراع بين التاريخ والسياسة يذهب بنا الاستطلاع ليس عند ما كان بل في ما انعكس على حقائق الراهن .
لم يكن غياب الحكم السلالي في العراق والذي أسس عام 1921م على يد خبراء من شؤون الشرق من بريطانيا بعد وضع خرائط ما بعد الحرب العالمية الأولى 1914 ـ 1918م وبما عرف باتفاقية سايكس ـ بيكو، الأول من مدرسة السياسة البريطانية ، والثاني من مدرسة فرنسا ولم تكن ايران في قلب خرائط هذا التقسيم ولكن ظلت نظرة المصالح الغربية نحوها في دائرة تجارب الأحداث وكذلك هي لم تخرج منطقة الخليج العربي من أغراضها وفي كل هذا تظل اشكالية العلاقة بين الفرس والعرب لا تنسلخ عن ذلك العمق التاريخي الذي يعود إلى عام 651م حين فتح العرب بلاد فارس وتم اسقاط حكم المجوس.
هذه هي مركزية عدم القبول في الوعي الفارسي للعرب، لأن الهيمنة ليست وليدة حدود الماضي بل هي من يعزز الهوية كلما ظلت صورة السابق هي من يغذي عناصر القوة في هذا التحدي.
لم تغفل الذاكرة الايرانية صاحبة الانتماء الفارسي ما أخذ منها العرب مهما تقادمت مراحل الأزمنة بل هو ثأر تاريخي يدور في الراهن في عمق هذا الشرخ الذي لن يجمع بين العرب وفارس إلا على مشروع فرض الحضور الايراني ـ الشيعي عبر خلايا وجماعات في الشرق جعلت من المذهب هو الوطن.
هذه الخرائط المرسومة بمشرط العقيدة هي قوة ايران في الحضور حيث حولت المسافة الجغرافية الفاصلة بين السيادة عند كل دولة إلى نفق تمر عبره وسائل زراعة حقول الغام العنف الطائفي والارهاب السياسي.

- هذه الرؤية تطرح إشكالية عناصر الصراع عبر الامتداد فوق جغرافية لم تخرج مجرياتها في الحاضر عما جرى في السابق
- إيران تمارس عدة أساليب في سياسة الاحتواء ما بين القوة العسكرية وتوسيع المد المذهبي
- السياسة الغربية عملت على استمرارية تصاعد الأزمات في المنطقة كي تظل نظرية النفوذ هي المهمين وآلية التحكم
- إسقاط العراق خلق حالة من تغييب دور القوى المحلية في خط الصدام مع إيران
في محور آخر يقدم لنا الباحث هذه الرؤية في قضايا مازالت عند موقع الصدام بين العرب والفرس قائلاً فيها: (ولكن النزاعات على النفوذ والتسمية والسيطرة العسكرية في معارضة ايران للدول العربية لم تكن الجانب الوحيد للصورة. وفي الجانب الآخر للصورة وهو ميدان النفط البالغ الأهمية ظهر نموذج مختلف، نموذج لم يتطابق فيه خط التقسيم مع الاختلاف العربي ـ الايراني، بل مع الديموغرافيا والمنطق الاقتصادي. فايران والدول العربية كانت أعضاء في منظمة أوبك منذ تأسيسها في الستينيات ولكن منذ مطلع السبعينيات بدأ الاختلاف بالظهور مع تشكيل الايرانيين لتحالف مع الدول العربية، بما فيها الدول المتطرفة، لزيادة أسعار النفط. هنا كان للعراق وايران قضية مشتركة وهي قضية وضعتهما وجهاً لوجه مع السعودية والدول العربية الاخرى في الخليج مع ان هذه الدول تستفيد من رفع الاسعار وعلى مدى العقدين ونصف العقد تشاطرت العراق وايران، على الرغم من اختلافاتهما الاخرى، موقفاً مشتركاً حول الاسعار والحصص. اياً كانت الاختلافات بينهما فإنها لم تأت نتيجة لتعارض المصلحة الاقتصادية).
في عقدة هذه الحسابات ما بين النفط والغاز والاقتصاد وفرض استراتيجية احتواء منطقة الخليج العربي عبر التمدد الايراني المذهبي حتى تصل إلى سياسة احكام الطوق الجغرافي، وكذلك وضع هذه الابعاد في حالة التشقق وعدم إعادة سياسة التقارب وهي في اطار نظرية فتح الثغرات الممهدة لدورات العنف، حيث أدركت ايران ان المناطق الرخوة في دول الخليج والعراق لا يتم كسرها إلا من خلال تصعيد الولاء المذهبي الشيعي الذي يرى فيه الاتباع بأنه هو الوطن الروحي لهم وليس رقعة من الأرض عليها ان تعود إلى حماية الحق الإلهي، ولم تكن أحداث البحرين والتدخل السعودي منذ عدة سنوات ماضية إلا واحدا من تحركات الأحداث والتي رسمت فيها سياسة إيران في السيطرة على منابع النفط والغاز عبر إعادة الحق الديني في صناعة القرار.
لقد حولت ثورة إيران هذا المكان لوضعية لا مستقرة ، بل فرضت عليها لغة التخاطب عبر القوة العسكرية ، وكل عرض عسكري للقوات الإيرانية هو رسالة لدول الخليج العربي تحتوي في اهدافها بأن الغرب لن يصنع لكم الأمان ، بل نحن من يملك اليد الطولى على كل خيرات الأرض والشعوب .
ولعل سنوات الحرب بين إيران والعراق قد كشفت لهذه الدول مقدرة إيران على تحمل الضربات والصدمات، وكل أنواع الحروب النفسية ، بل هذه المصاعب هي من رفع حدة التحدي ووسائل رد الضربة ، وإعادة بناء التحالفات في الداخل مهما عصفت التقلبات في عمق المجتمع الإيراني .
بل كلما صمدت إيران ترسل رسائل إلى شيعة الخليج بأن التمسك بهذا الوحي الإلهي والوعد الحق هو من يزيدها حضوراً وتجاوزاً لهذا الزحف الكاسر عليها.
وهو في إطار اطروحات الرهان على قوة المذهبية في صنع هزات في كيان المجتمع الخليجي لن تجدي معه قوة المال السياسي أو الارهاب الأمني، مهما توسع هذا العمل لان البرهان المذهبي، هو من يخلق الطاعة في قوة الجماعة. وحتى اليوم ترى إيران في العقيدة صانعة العنصر عبر ضرب هذه المجتمعات من الداخل .
من هذا المنطق نرى في جغرافية مغايرة فرضتها إيران على التخوم، حيث هدمت سياسة الحدود صاحبة الحقوق الوطنية لتفتح معابر الالتقاء المذهبي عند كل الأطراف، لا تغفل مراقبة دول أخرى في المحيط الإقليمي أو الدولي لهذا التصادم والذي يتجسد في أكثر من صورة وشكل .
ومن الأوراق التي صدرتها إيران لدول المحيط ، (إسلام بلا حدود، أو الإسلام لا يعرف الحدود) .
بمعنى قيام ثورة عالمية مذهبية، دعوة إلى قلب العالم عبر الشعوب المضطهدة. وكأننا في هذا نجد خلف الصور شبح نظرية تروتسكي في الفلسفة الماركسية ، وإن هي هنا في مسوح الرهبنة الطائفية ، بينما الأولى مادية ـ تاريخية سعت لقلب العالم عبر توحد الطبقة العاملة. وهنا توحد المذهب مع المشروع السياسي .
عند هذا المحور يقول الفرد هوليداي : (ولكن هذه الأسباب بحد ذاتها قلما سببت حرباً. والعوامل الحاسمة في كل حالة كانت داخلية. فعلى الجانب الإيراني أطلقت الثورة، ككل هذه العمليات، نظاماً سياسياً كانت فيه الدعوة إلى الثورة خارج الحدود والتأكيدات على الأهمية التي يحظى بها النظام الجديد في البلدان الأخرى جزءاً من الشرعية المحلية للدولة نفسها. إضافة إلى ذلك فإن إيديولوجية الثورة في إيران كغيرها من الثورات قادت شارحيها إلى رفض شرعية أو أهمية الحدود بين الدول: عندما أعلن خميني أنه لا حدود في الإسلام فإنه كان يكرر، في صيغة معدلة، ما أعلنه الثوريون قبل قرنين. وسبب هذا بالدرجة الأولى هو منطق الإيديولوجية نفسها: لا يمكن إضفاء الشرعية على المثاليات التي تم باسمها قلب النظام القديم وتأسيس نظام جديد بمجرد الاستشهاد بما يحدث داخل إيران. وإذا كان لهذه المثاليات أي صلة بموضوعنا فإنه يجب ان تكون عالمية. أما على الجانب العراقي فكان هناك عاملان مهمان جداً: فمن جهة هناك الخوف من التحدي المحلي، الذي تشجعه بدرجة ما إيران الرسمية، وهناك من جهة أخرى الإغراء بتعزيز الشرعية المحلية عن طريق عمل خارجي لتعبئة الشعور الوطني في الداخل. وليس هناك أي تعليل لاندلاع الحرب يمكن أن يلغي الدور الذي لعبته هذه العوامل المحلية، التي نشأت من تناقض أولويات الدولتين المتورطتين).
إنها في طرح مشروعها لن ترى في المسافات القائمة على الأرض إلا جسوراً تمر من فوقها قوة الاندفاع نحو ذلك الغرض.
من منطلق الدين كلغة خطاب له القدرة على كسر كل أساليب الحصار السياسي، والمذهبية تلك السلطة المالكة لروحانية النفس ومنزلة الطاعة في شحن المجتمع إلى مسارات الغاية الكبرى.
أدركت الثورة الإيرانية أن في الشرق من مخزون القوى الإيمانية ما يدفع بعودة الإسلام السياسي بردة العنف إلى صناعة المشهد.
في هذا قيل إن الثورة الإيرانية أعادت للتاريخ والواقع دور الإسلام في إعادة هيكلة الواقع، بل هدم أكبر قوة مسيطرة على الساحة السياسية، بل جعلت كل الأحزاب والأفكار العلمانية تعيد حساباتها في مسألة العلاقة بين الدين والمذهب، والقوى الاجتماعية الفاعلة .
إن رفع شعار «الإسلام لا يعرف الحدود» ما هو إلا استرجاع لشعارات قومية وفلسفية غربية وعربية كانت تنادي قبل عقود بوحدة الشعوب والمصائر المشتركة.
لكن هنا يأتي الطابع الديني ليكون هو المرشد الروحي والغذاء الكامل لحركة الدفع نحو هدم مجتمعات الكفر والشرك وإقامة المجتمع الإسلامي الكبير، وفي هذا بعض من اطروحات سيد قطب وبالذات في كتابه (معالم في الطريق).
غير أن إستراتيجية المذهبية هي من تصدر الأمر بعد ذلك. لم يعد الدين الإسلامي هو منطق الحوار وإن ظل في مسوح الحاضر ـ الغايب في هذه المعادلة.
فقد كشفت صدامات الثورة الإيرانية للجانب الإقليمي والجانب الدولي أن نقطة الارتكاز في هذا الأمر هو المذهب الشيعي، وما جوهر الإسلام إلا ما انطلق عن هذا الاتجاه. وكل ما يقع خارج محيطه لا يقترب إلا من دائرة العدو والعدوان والاعتداء.
إن فرضية الالتقاء مع أهل السنة في الإسلام أو احزاب سياسية أو أفكار لها من المنطلقات ما يغاير الاتجاه المذهبي في إيران، يدخل إما في إطار المهادنة لما تفرضه سياسة الحوار في إدارة الأزمات، أو بما يصبح في خط المواجهة ومشروع الجهاد المقدس ضد القوى الشيطانية الكبرى، والتي لن تقف عند حدود أمريكا وإسرائيل والغرب بشكل عام.
بل وصلت رغبة هذا الهدم إلى دول عربية وإسلامية، وصناعة أذرع قتالية ـ طائفية في لبنان واليمن والعراق وسوريا، بل نشر المذهب الشيعي في العديد من الدول، هذا يدل على أن معركة إيران ليست لها حدود وجغرافية بل حدودها الجوانب الروحية في كل مكان تصل إليه أصوات العقيدة .
هذه الدراسة التي تعود إلى عام 2004م أسهمت مع غيرها في توضيح المواقف الصدامية بين العرب وإيران، وإن هي اليوم في قوة المواجهة العسكرية مع إسرائيل والغرب. لكن ساحتها المنطقة العربية، وهذا ما يجعل إيران تسترجع بقوة مقاتلة نزعتها الفارسية من عمق مشهد التاريخ، وهنا لا تكتسب التحديات موقف الرؤية احادية الجانب، بل تتجمع في افقها كل عناصر الرغبة في سحق الخصم.