أضواء
من قديم قرر أعلام الفقه وشيوخ العلم من أمثال الأئمة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأقرانهم، بأن مجمل آرائهم الفقهية إنما هي اجتهاد بشري، للتوصل إلى معرفة مراد الله عز وجل من نصوص الشرع ( القرآن والسنة ) وأن هذا الاجتهاد يخضع من ثمّ لظروف المكان وأحوال الزمان، ويتأثر بما أوتي الفقيه من علم وفهم، وأنه من قبل ومن بعد عرضة للخطأ والصواب، وقد اشتهرت في ذلك مقولة الإمام مالك -رحمه الله- في مجلسه بالمسجد النبوي الشريف: « كل امرئ يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم». وإذا كان الوحي قد تنزل منهج حياة شاملا للإنسانية، ينظم كل مناشطها الدنيوية وشؤونها وأحوالها البشرية في كل زمان ومكان حتى يوم الدين، فقد اقتضت حكمة المولى عز وجل، أن تكون الشريعة الغراء في معظمها قواعد عامة وتوجيهات دقيقة، وأن يترك الاجتهاد لأهل العلم كل في زمانه، بحيث ينزل التطبيق العملي لمبادئ الدين وأحكام الشرع على الواقع المعاش للناس، الذي يتشكل وفق تبدل الأحوال وتغيّر الأزمان وتطور الحياة، وذلك تكريما للعقل ووجوب إعماله، وثقة بالجوهر الإنساني وعمق إيمانه، وابتلاء لحرص الناس على اصطحاب الوحي والالتزام بطاعة الله واتباع أوامره سبحانه. ومن هنا وضع العلماء قواعد للاجتهاد، وشروطا لابد من توفرها للمجتهد، مما أفاضت فيه كتب الفقه ومؤلفات الأصول، حتى لا يكون الدين حمى مستباحا يجترئ عليه الجهلة وأهل الأهواء». نشرت هذه السطور في جريدة (المدينة المنورة) قبل عشر سنوات (6 /4 /1421هـ) بعنوان (نحو اجتهاد جماعي للأمة) وقد وجدتُ من المناسب أن أعيد نشر هذه السطور، في غمرة هذه الفوضى التي تعيشها الفتيا والمفتون، ما أشاع البلبلة وفتح الباب على مصراعيه للشبهات والفساد والاجتراء على الدين. إن من المستحيل في كل حين، خاصة في ظل هذا التبدل الهائل الذي شمل أحوال الدنيا وغيّر وجه الحياة، والتطور الأضخم الذي ينتظرها في المستقبل، أن يكون كل حاكم أو وزير أو قاضٍ أو اقتصادي في بلدان المسلمين، مجتهدا استكمل شروط الاجتهاد وأدواته، ومن الخطورة بمكان والحال كذلك، أن نترك لهؤلاء الأفراد كل في مجاله تطبيق شرع الله حسب فهمه، وتحديد مراده سبحانه من نصوص الشرع والحكم بذلك طبقا لاجتهاده الفردي في الدماء والأموال ومصالح العباد، فقد تعقّدت شؤون الحياة وتطورت أحوال الدنيا، وتبدلت ظروف المعيشة وعلاقات الأفراد والشعوب، بحيث لا يستطيع حتى أعظم عالم أن ينفرد وحده بالاجتهاد في كل شيء، بل لابد أن يجتمع على هذا الأمر الجليل الذي تتوقف عليه السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة، كل ما توافر للأمة من مجامع الفقه وهيئات الفتوى، تعاونهم في ذلك نخبة من أهل الاختصاص في كل علم، ما يوفر للأمة في مختلف مجالات حياتها اجتهادا جماعيا تتلقاه بالرضا، وتلتزم به وتذعن له بالقبول. وغني عن القول إن توافر هذه الأنظمة الشرعية نتيجة اجتهاد جماعي لعلماء الأمة وفقهائها، ومشاركة فعالة لأهل الاختصاص من شخصياتها، وقبول واطمئنان من جماهيرها، سيفتح أبواب الخير أمام كثير من المجتمعات والبلدان الإسلامية المترددة في تطبيق الشريعة، والبعيدة عن نهجها، كي تلتزم بشرع الله وتستمسك بهداه، ويقدم لجماعات المسلمين وأقلياتهم في مختلف أنحاء الأرض، منارا ينظمون به حياتهم وتجتمع عليه قلوبهم.[c1]* عن/ صحيفة (المدينة) السعودية [/c]