أحمد راشد في منعرجات الكتابة والكلام
كتب/ أحمد الشويخات وصلني من الشاعرة ظبية خميس قراءة لمقاطع شعرية من أحمد راشد آل ثاني بمناسبة صدور عمله (مقعد الرمل) الصادر عن هيئة الثقافة في أبو ظبي (2010). تقرأ ظبية في الديوان، وتعرض مقاطع شعرية من تجربة أحمد راشد، وتستحضر عناوين دواوينه الثمانية، و تقول في مفتتح قراءتها:(المؤكد، ومنذ البداية، أن أحمد يحب الكتابة، بل ويحيا عبرها فهي ملاذه الروحي المادي الحقيقي وبيته الذي يعيش فيه مهما تعددت بيوت الواقع. عبر مجموعاته الثمانية الشعرية، وكتاب مختاراته الشعرية (مقعد الرمل). رحت أفتش عن أحمد راشد ثاني في شعره. تتبعت ما خطته يداه في مساره واقتفيت أثره). وتستشهد بخمسة مقاطع في التحليل، لتصل إلى: (إن تجربة أحمد راشد ثاني الشعرية عبر ثلاثة عقود تترجم مساره في البحث عن لحظته الخاصة، وتسجل لبعثرة الحال ومحاولة جمع شتات النفس التي تحمل الحكمة الشائخة والطفولة المقيمة وعذابات التجوال بين دروب ووجوه وتداخل ماضي مع حاضر وملامسات لمعنى الوجود في المكان، ومعنى المكان نفسه. تتقارب مناخات القصائد شكلاً وتعبيراً ومفردات تقيم في النص منذ بداية التجربة وحتى منتهاها فالبحر، والتجوال، والانكسارات، وعذابات الضجر اللحظي كل ذلك تحمله حقيبة أسفار القصيدة لدى أحمد راشد ثاني).إذاً، هنا بحث عن اللحظة الخاصة، تبعثر، حكمة النضج الذي لا يأتي والطفولة المقيمة، تجوال، بحر، انكسارات، ضجر، وحقيبة سفر مرة أخرى.قرأت مقاطع أحمد راشد التي استشهدت بها ظبية غير مرة، وبالإمكان موضعة المقاطع أو إعادة موضعتها بنفس القراءة و قراءات أخرى بالطبع. تلك روعة الشعر أنه يقبل أكثر من قراءة. لكن مقطعين صغيرين وواسعين جداً لفتا نظري بشكل استثنائي، أحدهما نص عن الكتابة:[c1](قطار من الأبجدية يقطع الصفحةكما لو أنه يقطع حقلا من الصدفمتدرج الأغراض إلى قعر دمى).[/c]أن تكون الأبجدية قطاراً يقطع حقلاً من الصدف على الصفحة ومتدرج الأغراض، متجهاً إلى قعر دم الشاعر، فهذا مدهش حقاً. الكتابة هنا تشبه رمية نرد تذكرنا مشاكل برمية نرد مالارميه في القرن التاسع عشر، قبل أن يركز شاعرنا محمود درويش على لاعب النرد بدل الرمية، وعلى المؤلف بدل النص. ما يهم هنا أن الكتابة (نص الأبجدية) عند أحمد راشد متروك لقدره على هذا السطح الإقليدي المستوي، سطح الصفحة، وهذه الكتابة تجتاز حقلاً من المصادفات كي تكون ما ستكون عليه. هذا الحقل من المصادفات متدرج إلى قعر الدم، إلى نسغ الحياة عند الشاعر. ومعنى ذلك في تأويل أولي مباشر أن الكتابة قد تنسرب بحكم المصادفة إلى حياة الشاعر، وقد لا تنسرب، قد تتحقق وقد لا تتحقق، قد تكون وقد لا تكون بالمعنى الأنطولوجي. هذا الحقل من الصدف الذي ستجتازه الكتابة ليس إقليدياً مستوياً كما يبدو لأول وهلة، لأن على أي كتابة منجزة أن تجتاز أيضاً درجات أو عتبات لتصل إلى قعر الدم. الدم هنا في العمق، وهكذا يكون حقل الصدف ذاك، وجه الصفحة التي تتبعثر أو تصطف عليه حروف الأبجدية كقطار، أن يكون متعدد العتبات، منطوياً على أكثر من سطح وبعد. كنت أتمنى أن ألا تكون هناك كلمة (أغراض) لأن كلمة (متدرج)كافية جداً وتحمل وحدها في السياق معاني أكثر إشعاعاً ومفاجأة وإيحاءً. على أية حال، فالصورة بأكملها منحوتة رشيقة وثرية على نسب بمسألة الكتابة والصدفة في علاقاتها بالذات، وبالحياة. مقابل هذه المنحوتة عن الكتابة، هناك نشيد حسي وتقريري وشاعري في نفس اللحظة عن الكلام:[c1](حملت كل شيء بالألفاظ ...أمشي كالكلاموأجلس كالكلاموأشرب كالكلام).[/c]حيث تقوم الكتابة بتشييد نفسها في حقل من الصدف، فإن الكلام - بالمقابل إرادي، فالشاعر قد حمل كل شيء بالكلام، يمشي كالكلام، ويجلس كالكلام، ويشرب كالكلام. هيئة الكلام وهيئة المشي، وهيئة الجلوس وهيئة الشرب متشابهة، إنها كل على حدة، أو مجتمعة، تشبه الكلام. روعة سيميولوجية، تشيد نسباً بين العلامات، أو - لنقل - تذكرنا بالنسب الذي تدركه الروح الشاعرة بين العلامات وعبر العلامات، علامات الكلام والمشي والجلوس والشرب والكلام كعلامات لغوية وعلامات حسية. ومن قال إن الحواس والأفعال لا نسب بينها وبين الكلام بل بينها أكثر من نسب وعلى أكثر من صعيد، ربما. هذا في مستوى المشكلة بين العلامات، أما في مستوى تعريف الشاعر بأدائه أنه يشبه الكلام، فيحتمل معاني أن الكلام راحل غير مدون، ومنها أن الكلام عفوي، ومنها أن الكلام لا يجتاز حقل الصدف - كما في الكتابة - وإنما يحدث فقط، ومنها أن الكلام أقرب إلى الذات من الكتابة التي عليها أن تنزل إلى قعر الدم، ومنها أن الكلام صوت مسافر، ومنها أن الكلام شهوة الحياة في العمق، فالإنسان محتاج إلى الكلام ولو بالإشارة، وهذا كله يشبه أحمد راشد.في مستوى آخر: الشاعر يقيم حوارية في أعماله بين رؤيته للكتابة والصدفة وترسية الكتابة لتنجز كما في المقطع السابق، وبين رؤيته لنفسه أنه حمل كل شيء بالألفاظ، بالكلام.هذان المقطعان عن الكتابة والكلام من الطراز الشعري الرفيع، حيث يكون الشعر بوحاً أو كشفاً وابتكارا بالذهاب إلى المناطق الشفافة التي يرتادها الفن الجيد ليجلب لنا معرفة ما أو تفكيراً مشاكساً أو أسئلة جديدة عن ذواتنا أو ليعيد علاقتنا بالحواس والروح. لنقل، مثلاً، إن مسألة الكلام والكتابة، هي مما يدرسه العلماء بمناهج وأدوات أخرى. في السياق نفسه، سيفتح هذا، علمياً، على مسألة الكتابة الأولى، وأولوية الكتابة أو الكلام في الطبيعة وعند الإنسان، والعلاقة بين الكلام والكتابة من ناحية مدرسية. وحين نفتح هذه النافذة، ستغدو القراءة بحثاً في اللسانيات والأنثربولوجيا وتاريخ الأفكار والفلسفة وتمثيل المعنى، أي بحثاً تقف فيه السيميولوجيا، بما هي علم العلامات وإنتاج المعنى وتمثيله، وقوفاً بهياً واستئثارياً. وهذا ما سيفسد المنحوتتين الشعريتين الجميلتين اللتين قدمهما أحمد راشد عن الكتابة والكلام. في مداخلتي أعلاه، طاوعتني السيميولوجيا لنلوح معاً لأحمد راشد تلويحة ودية وجمالية. شكراً لأحمد راشد، وشكراً لظبية خميس التي لفتت انتباهي إلى عمله.[c1]* جامعة مانشستر (بريطانيا)[/c]