اضواء
الأيديولوجيا منظومة فكرية تطبق على أرض الواقع كسلوك، وأخلاقيات تتخذ شرعيتها وقدسيتها من الدين أو العادات أو العرق أو التاريخ أو من هذه كلها. وعندما تنبع الأيديولجيا من داخل ثقافة معتنقيها، تكون أكثر صلابة وحدة وقابلية للانتشار في محيطها .فكل ثقافة إنسانية تحمل داخلها، بقعاً مضيئة وأخرى داكنة. والأيديولجيا بحد ذاتها، ليست شراً مطلقاً أو خيراً مطلقاً. وإنما الشر منها ما أرتكز في بنيته العقدية على البقع الداكنة من ثقافته وانطلق منها. وكما أوضحت في مقارنتي بين منظمة القاعدة ومنظمات التمرد العسكري الأوروبية، فإن المنظمات الأوربية انتهت بالقضاء على مؤسسيها الأوائل. وذلك لكونها ظهرت كنبتة غريبة في مجتمعات مبنية على أيديولوجية منفتحة، تسودها حرية التعبير وروح التسامح، وتحميها مؤسسات وقوانين إنسانية عادلة (نسبياً). إذاً فالأيديولوجيا المرتكزة على البقع المضيئة من ثقافتها وإرثها التاريخي والإنساني؛ تحصن ذاتها من عمليات التحريف أو الاختطاف.والقاعديون تفوقوا على تنظيمات التمرد الأوروبية بصرامة الأيديولوجيا وصلابة أرضيتها. وقد اكتسبت القاعدة قدرتها في تجذير وبث أيديولوجيتها وحربها النفسية خلال تولي جماعة، أصبحوا لاحقا قيادييها، الدعاية والتجنيد وجمع التبرعات للجهاد الأفغاني وبعدها حرب البوسنة والهرسك وحرب الشيشان، بمباركة شعبية. وهكذا ولمدة عقد ونصف، مارس القاعديون حربهم الإعلامية والنفسية وتزوير الحقائق والوقائع واللعب على الشعور الديني الشعبي وبدون رادع أو حسيب أو رقيب. حتى طبعوا لهم في المخيلة الشعبية، صورة الأبطال الأوفياء المدافعين عن الإسلام والمسلمين والحامين لثغورهم، الذين باعوا الحياة الفانية ليشتروا ما عند الله من نعيم الآخرة الباقية. فكانوا عباداً في الليل وفرساناً في النهار، الذين لا يشق لهم في الإيمان ولا الشجاعة في الحق غبار.فكانوا الذين يشع الإيمان من وجوههم من أثر الصلاة والزهد والصلاح، ويشع من قبورهم النور وتفوح من جثثهم روائح المسك والعطور. ولم تكن تسندهم في حربهم ملائكة السماء وحدها، بل وحتى الأفاعي والهوام. وكان من يشكك في هذه الحقائق “ المثبتة من قبل ثقاة ؟! “ يشكك في القدرة الإلهية ذاتها. وبتركيز وتكثيف هذه الخرافات والمغالطات، التي كانت تحقن للمتلقي العادي وبشكل مستمر، غرستهم في الذهنية الشعبية والوجدان العام، أخير الأطهار وسيف الله البتار؛ ولذلك فهم الوحيدون وبلا منازع من يؤمنون على حماية الدين والبلاد والعباد.وقد استهدفوا الحفر والنقر وبتركيز مستمر على غريزة الخوف (من المجهول الدنيوي والأخروي) والتي تعتبر من المحركات الرئيسة في ثقافتنا الشعبية. وذلك بتوظيف عقدة المؤامرة، حيث نجحوا في قلب غريزة الخوف لذعر، ثم دفعوها لتصبح بعد ذلك هيستيريا دينية شعبية.وقد آتت أيديولوجيتهم أكلها، لوجود أرضية صالحة لها من المفاهيم الدينية المتداولة في المجتمع مثل: حصانة المتدين من المسألة والنقد. ومع كوننا نؤمن، بأنه لا كهنوت في الإسلام، إلا أن ما نطبقه في الواقع عكس ذلك. مثل لحوم العلماء مسمومة. فتم سحب هذا المفهوم، على المؤسسات الدينية، مثل القضاء وحتى رئاسة تعليم البنات، قبل حلها (من كثرة وتراكم أخطائها). كما انسحب كذلك على رجال الحسبة، تحت قناعة بأن رجال الحسبة لا يحاسبون. وبعدها سحبت هذه الحصانة حتى على الأفراد العاديين الذين يتزيون بزي المتدينين. وتم تصعيد المسألة حتى أصبح لدى العامة قناعة بأن من ينتقد تصرفات المتدين وحتى لو كان محتالاً، هو اعتداء على الدين وأهله.ومن الطبيعي أن تنسحب هذه الحصانة لعلماء الدين ثم المؤسسات الدينية ومن ثم للمتدين ومدعي التدين، لاحقاً على إرهابيي القاعدة في عقلية العامة. وهذا ما حصل. حتى إنهم يشككون في صحة ما يعرض في الإعلام من مخازن أسلحة للإرهابيين، وفي هوية من يظهر تائباً منهم على وسائل الإعلام. أما آخرون فيقرون بأن الإرهابيين هم من يقوم بهذه العمليات، ولكن عملياتهم تصيب عملاء استخبارات أمريكيين وغربيين في مقتل، ولكن الحكومة تتكتم على ذلك. كما أن هنالك من يبرر لهم جرائمهم، بحجة أنهم فتية مؤمنين متحمسين لدينهم وعقيدتهم، استفزهم كتابنا وإعلاميونا الليبراليون في تعرضهم لثوابت الأمة وعاداتها وتقاليدها وصفوة مجتمعها من الملتزمين وحماة الدين.وحتى يوجد من يروج لفكرة، الفئات المخالفة م ذهبياً وفكرياً هم أكثر خطورة على الوطن من هؤلاء الفتية القلة المغرر بهم. حتى وكأن الوطن لم يحسم حتى الآن مدى وحجم خطورتهم؟! وبدل أن يقال إنهم قتلة ومجرمون نطلق عليهم أسماء وصفات، كالمغرر بهم، أو الفئة الباغية، أو الخوارج. وهكذا أصبح المساس بهم لفظياً، كأنه مساس بالدين ذاته. ومع عجزهم عن حماية صدورهم من رصاص رجال أمننا البواسل، إلا أنهم نجحوا في تحصين سمعتهم وأيديولوجيتهم من المساس بها.ومع الحصانة ساعدهم، انتشار ظاهرة الإفتاء وتغيير المنكر (كما يراه الفرد منكراً وليس بالضرورة بمنكرٍ) بين العامة؛ حيث جعلت البعض منهم يتجرأ ويتهاون بأمر هاتين الشعيرتين. ولم يكن بالمستغرب أن يشاهد طفل ذو خمس سنوات يتجرأ على شيخ مسن ويقول له إن ما تفعله حرام وسيؤدي بك للنار. وأن المشايخ الرسميين هم مشايخ سلطة لا غير. حتى كادت أن تصبح بلادنا بلاد العشرة ملايين مفتي. وهكذا تم استسهال قذف فتاوى التحريم والتكفير؛ حتى وصل بعضها لإهدار الدماء. وأخذ بعض الشباب بمضايقة أهاليهم بمن فيهم الوالدان، من ناحية إنكار ما يظنونه منكراً ويطالبون بتغييره، وفي حالات يغيرونه بأيديهم. وضيق الجار على جاره، والزميل في العمل على زميله، والقريب في المناسبات على قريبه، وحتى في حالات الزوجة على زوجها أو العكس. حتى وصل الأمر ببعض الشباب بوصم حياة أهاليهم قبل ثلاثة عقود بالجاهلية. وهكذا تم ضم صفات الجرأة على الله ودينه والبجاحة والصفاقة وعدم مراعاة شعور الآخر، المحرمة دينياً والمذمومة عقلياً واجتماعياً، لتصبح خصالاً إسلامية، مطلوب من الداعية والمحتسب المسلم التحلي بها، بغض النظر عن خلفيته العلمية والدينية. وما عسى أن يرد الضحية المستهدف إلا بكلمات جزاك الله خيراً، طلباً للسلامة، كيف لا و” للمجتهد إذا أصاب أجران وإذا أخطأ أجر واحد.» [c1]* عن / صحيفة ( الوطن) السعودية .[/c]