مهمة أي دولة على كوكبنا الأرضي هي الحماية والمجابهة، وهذان العنصران لا يكونان فعالين ما لم تكن هناك قوة، فالقوة عصب الدولة، والقوة توقف - بلا شك - اغتصاب الحق وتوقف اختزال العدل. كيف لا وهي (القوة) جوهر السياسة تعبر عن إرادة الدول وتؤكد استقلالها وتحمي سيادتها وهي سلطان السلام؟ أو بالأحرى لايمكن الحديث عن السلام إلا بالحديث عن القوة، فالحفاظ على السلام لا يتأتّى بأي حال من الأحوال إلا بماكنة القوة، وهذه حقيقة استوعبتْها الدول منذ القدم ولا تزال تعتنقها حيث أثبتتْها الوقائع، وأيدتْها حركة التاريخ.لا شك أن وسائل إنفاذ القوة في وقتنا الحاضر قد تغيرت، فلم تعد وسيلتها المثلى هي تحريك الجيوش الجرّارة، فالتطور العلمي جعل من الممكن توجيه ضربات مدمرة من دولة إلى أخرى، من دون أن تُحَرّك جندياً واحداً، وذلك بواسطة القذائف والصواريخ الموجهة بدقة، والتي تصيب هدفها على بُعْد آلاف الأميال.فعامل القوة حساباته دقيقة في عالم جديد، يسيطر عليه قطب واحد يملك أكبر قوة اقتصادية مسيطرة وأضخم قوة عسكرية مدمرة عرفها التاريخ، جعل الاقتصاد أساساً للقوة، وقد تستمر قوة الاقتصاد، لتكون سبباً في انهيار اقتصادات دول أخرى، أو حتى قوتها العسكرية، كما حدث في الاتحاد السوفياتي السابق، وكما حصل في شرق آسيا، أو النمور السبعة التي نهضت من جديد.الحديث عن القوة يبرز لنا أمثلة رائعة، هي الهند وباكستان وكوريا الشمالية بعد تفجيراتها النووية ودخولها النادي النووي، وانهيار كل محاولات فرض العقوبات ضد باكستان والهند، وستلقى تلك العقوبات المصير نفسه أمام قوة المارد الكوري الشمالي، وها هي إيران أيضاً تقارع الغرب، من أجل امتلاك (القوة) بعد استيعابها كل الدروس والعبر.وعلى ضوء ما ذُكِر من حقائق نقول للعرب ودول المجلس التي يغرّد بعضها خارج السرب لغرضٍ ما: ألم تروا المخطط الاستراتيجي الأميركي الذي احتل أفغانستان (بالقوة) بسبب موقعها الاستراتيجي وإطلالها على بحر قزوين ونفطه والدول المجاورة، ثم كانت العراق المحطة الثانية للقطار الأميركي، ولم يكن اختيار أفغانستان والعراق اعتباطياً، وإنما دُرِسَ بدقة وعناية منذ انهيار جدار برلين على إثر انهيار الاتحاد السوفياتي (السابق).ودول مجلس التعاون الخليجي الست يُسَجَّل لها أنها استثمرت عائدات النفط في مشاريع تنموية وتعليمية وصحية وبنية أساسية، وجسّدت تقارباً وتعاوناً اقتصادياً في ما بينها، وتسعى لإصدار العملة الخليجية الموحدة. صحيح أن المجلس لم يحقق كل طموحات شعوبه، لكن يُثَمَّن له أنه صمد، بينما انهارت اتحادات قامت بعده، وانشغل بثلاث حروب، شهدتْها المنطقة وكافح ويكافح الإرهاب، وكلها قضايا في غاية التعقيد.إذاً، في ميدان الأمن في الخليج العربي تمكّن المجلس من تجنيب دوله وشعوبه زلازل أمنية استراتيجية منذ إنشائه عام 1981، وحافظ على أمنه الوطني، متجاوزاً آثار الثورة الإيرانية والحرب الإيرانية - العراقية، ونجح المجلس في طرد صدام حسين من الكويت التي غزاها (بالقوة) فأصاب أمن منطقة الخليج والأمن العربي في مقتل.واليوم، ومع احتلال أميركا وبريطانيا للعراق، وطموحات إيران النووية ووجودها الواقعي في العراق، والذي هيأته لها الإدارة الأميركية، أصبح مطروحاً بشكل مُلِحٍّ التفكير الجاد والعمل، من أجل إعادة بناء هيكل الأمن القومي الخليجي، على ضوء المتغيرات التي تشهدها هذه المنطقة الحساسة (رئة العالم النفطية والاستراتيجية).فالمنطقة في مقدمة أهم المناطق على الكرة الأرضية لجغرافيتها المميزة والنواحي الاقتصادية والسياسية والبشرية والسكانية والعسكرية، والتي زاد النفط من سخونة أهميتها، فدول المجلس وحدها يبلغ احتياطيها حوالى 483 بليون برميل، وبإضافة إيران والعراق فإن الاحتياطي النفطي يقفز إلى حوالى 730 بليون برميل.ومن هنا، فإن التهديدات التي تواجه هذه المنطقة الحساسة تأخذ طابع الخطورة، لأنها لا تقتصر على التهديدات الخارجية من الدول الكبرى التي لها مصالح حيوية في المنطقة وعلى رأسها أميركا، وإنما تنبع من المنطقة نفسها، وهذا يضفي طابع الحساسية ويؤثر تأثيراً مباشراً في الاستقرار السياسي والأمني للمنطقة.وقد أثير موضوع أمن الخليج في السبعينات من القرن المنصرم عندما جرت مناقشة إيجاد صيغة لأمن المنطقة، فعقد مؤتمر جدة في تموز (يوليو) 1975، ثم تلاه مؤتمر مسقط عام 1976، إلا أن دول المنطقة لم تتوصل إلى قرار يحدّد موضوعاً أو حتى مفهوم الأمن في المنطقة.وقبل قيام المجلس قدّمت السعودية عام 1980 تَصَوُّرَها للأمن الجماعي الذي يهدف إلى قيام تعاون فعال بين القوات في جميع دول الخليج، كما أنه يؤيد توافر استقلال عسكري كامل للدول الخليجية، عن طريق تقرير الطاقات القتالية لجيوشها، ومن أهم نقاط المشروع السعودي أن أي اعتداء على أمن إحدى الدول الخليجية يعد اعتداء على كل دول المنطقة. واتضحت أهمية المشروع السعودي عندما احتل العراقُ الكويت فأصبح الاعتداء اعتداءً على جميع أعضاء المجلس.ومع ميلاد مجلس التعاون لدول الخليج العربية عام 1981، بدأت فكرة أمن الدول الست تأخذ ملامحها، وتمخضت في نهاية الأمر في قوات »درع الجزيرة« التي تتمركز في مدينة حفر الباطن السعودية وتشكل السعودية المشاركة الأكبر فيها، باعتبارها الدولة الوحيدة من الدول الست القادرة على القيام بالدور الرئيسي في تحقيق جميع عناصر القوات المسلحة، بالمقارنة مع بقية أعضاء المجلس.وإذا كان لكل نظام أمني غاياتٌ وأهداف ووسائل وخطط يرتكز عليها، وحتى يصبح مفهوم الأمن في الخليج واضحاً ويمكن تحقيقه فلا بد من أن يشتمل على عناصر أساسية ضمن برنامج قابل للتطبيق يسعى لتحقيقه، فمشوار الألف ميل - كما يقولون - يبدأ بخطوة، فالأهداف لا بد من أن تُحَدَّد، فالسياسة والاقتصاد والدفاع والأمن أمور مترابطة ومتشابكة لا تنفصل عن بعضها، وكما أنه من المهم تحديد الأهداف فإن تلك الأهداف يجب أن تساير الإمكانات المتاحة، لتقرير الأمن المشترك لدول المجلس، ولا تتجاوزها، لأن الإفراط في الطموح قد ينقلب إلى ضده.ويأتي انعقاد القمة الخليجية السابعة والعشرين التي وجّه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز بتسميتها »قمة جابر« تكريماً وتقديراً لذكرى الراحل -رحمه الله- في العاصمة السعودية الرياض اليوم السبت، بعد أشهر من الاحتفال بـ »اليوبيل الفضي« لقيام المجلس، وبعد أن بحث وزراء الدفاع في دول المجلس في أبو ظبي أوائل شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، تطوير قوات »درع الجزيرة« ورفع التوصيات للدورة المقبلة للمجلس، في ضوء اقتراح خادم الحرمين الشريفين الذي اعتمدته القمة الخليجية السادسة والعشرون (قمة الملك فهد)، التي عقدت في أبو ظبي في كانون الأول (ديسمبر) 2005.م.وإذا انتهينا إلى أن الخليج يملك النفط، وهو أغلى سلعة في التاريخ، وبسبب هذه الثروة ترتبط مصالح الدول الصناعية الكبرى الحيوية، وأن نظرية الدفاع العربي وقوة »الردع« العربية قد ثبت بالفعل فشلهما، وأن دول المجلس نفسها لم تحقق سوى الحد الأدنى من التعاون الأمني والدفاعي والسياسي والاقتصادي، بل والتجاري، نرى أنه أضحى على الدول الخليجية الست التي يصل التشابه بينها في كل الميادين إلى حد التطابق أن تضع في اعتبارها جميع الاحتمالات، خصوصاً الأسوأ منها، واستيعاب الدروس والعمل على التصدي لأي عدوان.وهذا لا يكون إلا من خلال بناء (القوة) من منطلق أن العالم المتغير الذي نعيشه لا يصغي إلا للمعادلات الصحيحة القائمة على قاعدة استراتيجية دقيقة لبناء مظلة (الأمن)، لتضمن لها ولمواطنيها معاني البقاء والتكامل الإقليمي والتماسك الاجتماعي وحماية المصالح والقيم ضد التهديدات الخارجية، فكما أن الماضي والحاضر كانا مليئين بالمغامرات طمعاً في الثروة، فإن المستقبل قد يخبئ في جعبته الكثير، فالثروة دافع قوي للعدوان.--------------------[c1]نقلاً عن صحيفة ( الحياة ) الإماراتية[/c]
( قمة جابر) ومعادلة القوة في الأمن القومي الخليجي
أخبار متعلقة