المدارس السلطانية في عدن (قديماً)
محمد زكريا عدن مدينة غازلها الزمان ، وغازلته . كانت عبر العصور مطمع الغزاة ، ومطمح الدول التي تعاقبت على حكم اليمن . كانت تلك الدول منذ أن تبزغ في سماء اليمن السياسي تضع عدن نصب عينيها . فبسط نفوذها على المدينة يعني خضوع القبائل اليمنية تحت لوائها. والمدارس الإسلامية أو السلطانية التي أسستها تلك الدول التي تعاقبت على حكمها كانت من أحدى الوسائل السياسية للسيطرة عليها. كانت تلك المدارس السلطانية أو المدارس أشبه بمركز دعاية سياسية لها في عدن .[c1]الدعاية السياسية[/c]والحقيقة أن المدارس الإسلامية أو بمعنى آخر أن المدارس السلطانية . وقد يتساءل أحد المتسائلين لماذا سمينا المدارس الإسلامية بالمدارس السلطانية ؟ . وذلك بسبب أن غالبية المدارس التي أنشئت في عدن ومدن أخرى من اليمن بنيت بناء على أوامر من الملوك والسلاطين أي أنها مدارس رسمية . صحيح أنه كان يوجد مدارس إسلامية ولكنها بنيت على يد الأهالي ولكن لم تأخذ نصيبها من الشهرة مثل المدارس السلطانية أو بمعنى أوسع أن تلك المدارس كانت تظهر على استحياء بجانب المدارس الذي بناها الملوك والسلاطين بصفة رسمية الذين تعاقبوا على حكم اليمن ومن ناحية أخرى أن التاريخ لا يتلفت إلى أفعال العامة مثلما يلفت إلى أعمال السلاطين والملوك الذين يحركون خيوط الأحداث الجسام . ولقد قلنا: سابقا أن تلك المدارس كانت من أحدى وسائل السيطرة والنفوذ السياسي للدول المتعاقبة على عدن حيث أنه من خلالها كانت تبث الدعاية السياسية لها من خلال المذاهب الدينية التي تدرس فيها . وعلى سبيل المثال المطهر ابن الإمام شرف الدين يحيى المتوفى بثلا سنة 980 هـ / 1572 م ) عندما وقعت في قبضته الكثير من مناطق اليمن ومنها عدن . فقد أنشأ فيها مدرسة تدرس فيها المذهب الزيدي ، وسنتحدث عنها وعن غيرها من المدارس الإسلامية أو السلطانية التي أنشئت في عدن بالتفصيل بعد قليل .[c1]السلطة السياسية والدينية[/c]وفي واقع الأمر ، أن قصة بناء المدارس الإسلامية أو السلطانية في عدن وغيرها من مدن اليمن ، تجعلنا نطرح عددا من التساؤلات وهي من أول السلاطين الذي فكر في بنائها ؟. وما الأسباب التي دفعته لذلك العمل ؟ . وما الدول التي انتشرت فيها ظاهرة بناء المدارس الإسلامية أو المدارس السلطانية انتشارا واسعا ؟ , وصار الملوك والسلاطين ، والأمراء والحكام , وحاشيتهم في عهدها يتسابقون في تأسيس تلك المدارس الإسلامية ؟ . وفي الحقيقة أن المدارس الإسلامية أو السلطانية دراستها تفتح لنا جوانب أخرى تتعلق بأمور سياسية وهي أنه هناك يوجد خط دقيق وفاصل بين السلطة السياسية ، والسلطة الدينية ، فالدولة الصليحية و الزريعية على سبيل المثال تركت أمور السلطة الدينية بيد أهل عدن أو غيرها من مدن اليمن , ولكن السلطة السياسية كانت بيديها . ومن يظن أن تسليط الأضواء على المدارس الإسلامية أو المدارس السلطانية هو الكلام عن مواد العلوم الشرعية وفروعها التي كانت تدرس فيها أو العلماء ، والفقهاء النوابغ الذين درسوا فيها أم هناك أبعاد سياسية لإنشاء تلك المدارس الذي أسسها الملوك والسلاطين ـ كما قلنا سابقـا ـ . وسنحاول قدر قدرتنا ، وأمكانياتنا الإجابة على هذه الأسئلة وتلك من خلال قراءة أحداث التاريخ المرتبطة بنشوء المدارس الإسلامية في ثغر اليمن عدن .[c1]اليمن والدولة الأيوبية[/c]روت كتب التاريخ أنه في سنة 569هـ / 1714 أرسل السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي مؤسس الدولة الأيوبية ( 564 ـ 648 هـ / 969 ـ 1171 م ) ، صاحب مصر والشام جنوده إلى اليمن بقيادة أخيه الأكبر توران شاه وكانت من بين أهداف تلك الحملة الأيوبية هي القضاء على البقية الباقية النفوذ الفاطمي قضاءا مبرما الذي كان يجسده الصليحيين في اليمن والزر يعيين في عدن الذين نهجوا منهج المذهب الفاطمي الرسمي وهو المذهب الإسماعيلي الشيعي . وعلى أية حال تمكن توران شاه على إزالة النفوذ السياسي للصليحيين في مناطق من اليمن والزر يعيين في عدن والذين كانوا امتداد لنفوذ الفاطميين في اليمن ــ كما مر بنا سابقا ـ . وكان من البديهي أن يتم تصفية الجيوب الإسماعيلية أو بمعنى أوسع تصفية المذهب الإسماعيلي في اليمن ورفع لواء مذهب السنة , وكذلك تشجيع الطرق الصوفية بهدف طمس معالم المذهب الإسماعيلي الذي كان المذهب الرسمي للصلحيين والذريعيين . وربما كان مناسبا أن نقتبس فقرة من كلام الدكتور محمد السروري حول تأييد الأيوبيين لأهل السنة في اليمن لكون الأولين من أهل السنة أو بمعنى آخر أن مذهبهم كان شافعيا ، إذ يقول : " وعندما قدم الأيوبيون إلى اليمن سنة 569هـ / 1173م أزالوا كل الدويلات المذهبية في كل من عدن ، وذي جبلة ، وزبيد , وصنعاء . ومنذ ذلك الحين أصبحت السلطة السياسية لصالح أهل السنة في اليمن بالإضافة إلى السلطة الدينية ، ففي عهدهم دخل التعليم مرحلة جديدة وهي مرحلة الدراسة في المدارس فساهم ذلك في نشر مذهب أهل السنة في مناطق سلطة الأيوبيين السياسية في كل من تهامة والهضبة الجبلية ما بين صنعاء وعدن التي انتهى منها مذهب الإسماعيلية ، فلم يعد بعد ذلك لهم وجود في تلك المنطقة منها ذي جبلة التي كانت أحد مراكز الإسماعيلية الرئيسية حيث استقر بها في العهد الأيوبي الكثير من أهل السنة حتى أصبح السكان بها في عهدهم من أهل السنة ". [c1]الأيوبيون والأئمة الزيدية[/c]والحقيقة أن محاربة الأيوبيون للإسماعيلية أو البقية الباقية من النفوذ الفاطمي في اليمن امتد أيضا إلى محاربة الزيدية وأئمتها والتي دارت معارك ضارية بينهما وخصوصا في عهد الإمام الزيدي عبد الله حمزة وكل ذلك من أجل نصرة المذهب السني الذي كان المذهب الرسمي للدولة الأيوبية في مصر والشام . [c1]الصليحيون وحرية المذاهب[/c]وفي حقيقة الأمر ، أن كل من الصليحيين في اليمن والذريعيين في عدن على الرغم أن مذهبهم الرسمي هو المذهب الإسماعيلي مذهب الدولة الفاطمية في مصر . إلا أن سلاطينهم وحكامهم أتسموا بنظرة سياسية ثاقبة . فقد أدركوا برغم من أنهم يمسكون بدفة الحكم في اليمن وعدن أنهم يعيشون وسط محيط من أهل السنة وخصوصا المذهب الشافعي الذي دخل إلى اليمن في بداية القرن الثالث الهجري ، وانتشر بعدها انتشارا واسعا في مختلف مناطق اليمن وخصوصا في المناطق الجنوبية منه وذلك في القرنين الرابع والخامس الهجريين ( القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين ) . ولذلك لم يضغطوا على أهل السنة في اليمن وهم كثر ـ كما قلنا سابقا ـ أو بمعنى أوسع لم يجبروا أهل السنة على اعتناق مذهبهم الإسماعيلي بالقوة والترهيب أو حتى بالترغيب . والحقيقة أن الصليحيون والذريعيون تركوا السلطة الدينية بيد أهل السنة , وأما السلطة السياسية ، فقد كانت بيدهم . فإنهم أطلقوا العنان والحرية لأهل السنة في مزاولة مذهبهم السني على شرط إلا يتعدوا الحدود الحمراء ، وهي التدخل في شئون السياسة أو شق عصا الطاعة في وجه حكمهم . وفي هذا ، يقول الدكتور محمد السروري : " والجدير بالذكر أن حكام اليمن من الصليحيين والزر يعيين أتاحوا الحرية الكاملة لأهل المذهب السنية ، أن يمارسوا نشاطهم المذهبي كيفما يشاءون ، فلم يحاولوا العمل على محاربتهم من أجل تغيير مذهبهم ، باعتبار أن مذاهبهم مذاهب إسلامية ليسوا على خلاف كبير معهم من الناحية الدينية ، ولكن الخلاف بينهم كان حول مفهوم السلطة والحكم ، إذ أن لكل مذهب إسلامي مفهوما سياسيا حول السلطة " . ويمضي في حديثه قائلا : " كان هذا المفهوم أكثر شدة وارتباطا بالمذهب عند الشيعة منه عند أهل السنة . لذلك ترك الصليحيون لأهل السنة الحرية في نشر مذهبهم بل والاستعانة بهم في تولي مناصب القضاء في كافة المناطق التي دخلت تحت سيطرتهم في اليمن ، أي أن السلطة الدينية في عهد الصليحيين كانت في يد أهل السنة , في حين كانت السلطة السياسية إسماعيلية " . وهذا ما أكد كلامنا قبل قليل محمد الشمري ، بقوله : ... أن معظم السكان الذين حكمهم الصليحيون كانوا من أهل السنة . لذلك تركوا لهم الحرية الدينية يحلون مشاكلهم من واقع مذهبهم " . وعندما أخذ المذهب الشافعي ينتشر في عهد الصليحيين و الذريعيين خلال القرن الخامس انتشار واسعا ، انتشار النار في الحطب حتى في ذي جبلة مقر حكم الصليحيين فإنهم لم يتصدوا للمذهب الشافعي أو قل لم يحركوا ساكنا ومثلما انتشر المذهب الشافعي في ذي جبلة . فقد انتشر في صنعاء , وفي عدن بني زريع الذين لم يحركوا ساكنا . ويبدو أن الصليحيون والذريعيون ساروا على نهج سياسة الفاطميين في التعامل مع أهل السنة وخصوصا في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر( 427 ـ 487 هـ / 1035 ـ 1094 م ) الذي حكم مصر ستين عاما والتي اتسمت سياسته بالتسامح الديني ، وأيضا التسامح مع أهل المذاهب الدينية المختلفة في بداية حكمه وخصوصا أهل السنة من المصريين الذين كانوا غالبيتهم من أصحاب المذهب الشافعي .[c1]الصليحيون والأئمة الزيدية[/c] والحقيقة لقد اقتفى الصليحيين والذريعيين آثار الفاطميين في مصر في مختلف وجوه الحكم منها على سبيل المثال مراسيم الملك وتقاليده المتبع في مصر بحذافيرها . وفي هذا يقول مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع : " فلا جرم إذا صاروا تبعا لهم يدورون في فلكهم ، ويلتزمون بتعاليمهم ، ويأتمرون بأمرهم ، وينتهون بنهيهم ، ويقلدونهم في شؤونهم كلها ، وما ذاك إلا لأنهم امتدادا لنفوذهم في اليمن " . وربما كان هناك عاملا هاما أخر ساعد على ترك الصليحيين في اليمن , و الذريعيين في عدن حرية أهل السنة في ممارسة مذهبهم بحرية كاملة وهو أن الدولة الصليحية كانت بدأ يتسرب إليها الشيخوخة والضعف بسبب الحروب الكثيرة التي خاضتها مع خصومها السياسيين والمناوئين لها , وكانت ـ أيضا ـ تعيش في وسط مذاهب أخرى بخلاف المذهب السني وهو المذهب الزيدي والذي كان من أشد المذاهب عداوة للمذهب الإسماعيلي والذي ـ قلنا سابقا ـ كان المذهب الرسمي للدولة الصليحية في اليمن والذريعيون في عدن كل تلك العوامل الذي ذكرناها دفعت الصليحيين والذريعيين إلى إطلاق عنان الحرية لأهل السنة في ممارسة مذهبهم سواء كان المذهب الشافعي أو الحنفي ـ كما مر بنا سابقا ـ .[c1]الأيوبيون والمدارس السلطانية[/c]وكيفما كان الأمر ، أن اليمن تعاقب على حكمها عددا من السلاطين الأيوبيين وهم السلطان توران شاه المتوفى سنة ( 576 هـ / 1181 م ) , والسلطان طغتكين الأيوبي المتوفى بالمنصورية بالقرب من تعز سنة (593 هـ / 1196 م ) الذي استمر حكمه قرابة أكثر من 14 عاما وعلى الرغم من طول فترة حكمه لا تذكر المصادر التراثية شيئا عن بنائه للمدارس الإسلامية الرسمية في اليمن برغم أنها ذكرت بعض أعماله في عدن واليمن ، والملك المسعود الأيوبي المتوفى سنة ( 626 هـ / 1228 م ) كل هؤلاء الملوك والسلاطين الأيوبيين لم تذكرهم المراجع التاريخية من قريب أو بعيد بأنهم بنوا مدارس إسلامية رسمية (أي سلطانية )[c1]الملك العز إسماعيل الأيوبي[/c]ولكن أول من بنى من بني سلاطين أيوب في اليمن هو الملك المعز إسماعيل بن طغتكين الأيوبي المقتول بالقرب من زبيد سنة ( 598 هـ / 1202 م ) . وفي هذا يقول القاضي المؤرخ إسماعيل بن علي الأكوع : " أما اليمن ، فلم تظهر فيها المدارس إلا بعد أن امتد إليها نفوذ الدولة الأيوبية سنة 569 هـ ، حينما أخذ الملك المعز إسماعيل بن طغتكين بن أيوب بهذا التقليد الحسن ، فبنى له مدرستين أحدهما في تعز وسماها ( المدرسة السيفية ) نسبة إلى أبيه سيف الإسلام طغتكين بن أيوب المتوفى سنة 593 والأخرى في زبيد سماها ( المدرسة المعزية ) أو ( مدرسة المعز ) وهي التي عرفت فيما بعد بمدرسة الميلين . فكان المعز أول من بنى المدارس في اليمن كما حكى ذلك المؤرخ الخزرجى في ترجمته في كتابه ( طراز أعلام الزمن ) " [c1]أسباب بنائه للمدرستين[/c]. والحقيقة أن شخصية الملك المعز إسماعيل بن طغتكين الأيوبي كانت من النقيض إلى النقيض كان يعشق الشعر ، ويعشق والدم ،وتارة كان يخوض في المساخر واللهو وتارة أخرى كان يلبس رداء التقوى والصلاح ، وفي آخر أيامه لقب نفسه بأمير المؤمنين ، وأن نسبه يعود إلى قريش . ويرسم مؤرخنا بامخرمة ملامح صفاته ، فيقول : " وكان المعز ... فارسا شجاعا شهما جوادا على الشعراء ، وأهل اللهو ... وكان سفاكا للدماء سريع البطش ، شديد العقوبة ... ثم خولط في عقله فادعى أنه فرشي النسب ، وخوطب بأمير المؤمنين ثم ولع بذبح بين آدم ... وطال ظلمه للرعية ومنع الجند أرزاقهم ، وصرفها للمساخر " . ونستدل من تلك الصفات المتناقضة أو قل البشعة للملك المعز الأيوبي الذي حكم اليمن قرابة ست سنوات . أغلب الظن أنه بنى المدرستان ( السيفية ) و ( المعزية ) حتى يقال عنه أنه صاحب تقوى وصلاح ، وأنه يستحق أن يلقب بأمير المؤمنين , وحاول أن يشيع بين العامة والخاصة من الناس أن أصول جذوره العميق تعود إلى قريش . فالغاية من بنائه لتلك المدرستان اللذان ذكرناهما هي لغاية سياسية بعيدة كل البعد عن حبه للعلوم والمعارف ودليل ذلك انغماسه في اللهو والمساخر ـ على حسب تعبير مؤرخنا بامخرمة . وكيفما كان الأمر ، فقد كان الملك المعز إسماعيل أول من شيد من ملوك وسلاطين الأيوبيين المدارس الإسلامية الرسمية ( السلطانية) في اليمن ـ على حسب قول مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع . [c1]الملك المنصور والمدارس السلطانية[/c]وعندما أفل نجم الدولة الأيوبية ( 569 ـ 627 هـ / 1173 ـ 1229 م ) التي حكمت اليمن زهاء أكثر من خمسين عاما . وبزغ نجم الدولة الرسولية في سماء اليمن السياسي ( 626 ـ 858 هـ / 1228 ـ 1454 م ) والذي امتد حكمها قرابة أكثر من مائتي عام . كانت أهم صفاتها هي انتشار المدارس الإسلامية الرسمية ( السلطانية ) في الكثير من مدن اليمن ومنها مدينة عدن . والحقيقة أن مؤسسها الملك السلطان المنصور عمر بن علي بن رسول المتوفى قتلا بقصره بالجند سنة ( 647 هـ / 1250 م ) والذي خلع طاعة الأيوبيين و " أعلن نفسه ملكا على اليمن سنة 629 هـ ، وقيل سنة 630 هـ ، وتلقب بالسلطان الملك المنصور عمر بن علي بن رسول ، وأمر بوضع اسمه على السكة ، كما أمر الخطباء بذكره في خطب الجمعة والعيدين " . كان يتحلى بذكاء حاد ، ونظرة موضوعية للأمور ، فكانت أول أعماله في حكم اليمن هو أن يكسب ثقة أهلها بأنه منهم أي أن أصوله البعيدة تعود إلى الغساسنة وهم من اليمنيين من ناحية و تمذهب بالمذهب الشافعي المشهور والواسع انتشارا في اليمن , وفي هذا يقول مؤرخنا إسماعيل الأكوع : " ولم يكتف نور الدين بهذه الإرهاصات والتنبؤات لإقناع أهل اليمن بأنه منهم وإليهم ، بل أكد على ذلك بأن تحول من المذهب الحنفي مذهبه ومذهب أسلافه إلى المذهب الشافعي مذهب الأغلبية الساحقة من أهل اليمن ... ". ويمضي مؤرخنا إسماعيل الأكوع في حديثه قائلا : " ولكي يؤكد صدق انتمائه إلى المذهب الشافعي ، فقد بنى لأصحاب هذا المذهب ست مدارس : مدرستين في تعز ، هما المدرسة الغرابية ، والمدرسة الوزيرية ، ومدرسة في الجند ، ومدرسة حد المنسكية من وادي سهام ، ومدرسة في مدينة زبيد أطلق عليها اسم المدرسة المنصورية العليا ، ومدرسة في مكة المكرمة . بينما لم يبن لأصحاب مذهب أبي حنيفة مدرسة على الإطلاق حتى عاتبه الفقيه الحنفي أبو بكر بن عيسى بن عثمان اليقرمي ، ثم الأشعري المعروف بان حنكاس ، وذلك حينما لقيه في الطريق ، فقاله : يا عمر ما فعل بك أبو حنيفة إذ لم تبن لأصحابه مدرسة كما بنيت لغيرهم ؟ . فأمر ببناء مدرسة في زبيد ذات قسمين ، قسم لأصحاب أبي حنيفة ، وقسم لأصحاب الحديث , وقد أطلق عليها اسم المدرسة المنصورية السفلى ، كما بنى مدرسة في عدن لتدريس فقه المذهبين الحنفي والشافعي " . [c1]نتائج مثيرة[/c]والحقيقة أن البحث والتقصي في عدد من المدارس الإسلامية الرسمية ( المدارس السلطانية ) الذي بناها السلاطين الملوك من بني رسول في عدن قادتنا إلى عدد من المعلومات الجديدة والمثيرة وهي كالآتي : ـ الصراع الفكري أو الصراع المذهبي بين العلماء والفقهاء الأشاعرة والحنابلة , ووصل الأمر إلى سجن المعارضين من أصحاب الأشاعرة ، وتعرضهم للضرب حتى الموت . ومصادرة أموالهم مثلما حدث مع الفقيه الأشعري محمد بن عبد الله الجزري الذي صودرت أمواله ، وأملاكه في عهد الملك المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول المتوفى سنة ( 694 هـ / 1295 م ) وانتهى بهذا الفقيه الجزري إلى الفقر المدقع " وانتهى به الحال إلى أن صارت بناته يتكففن الناس . والمعروف عن الملك المظفر بالقسوة . وفي هذا يقول مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع : " ... كان عنيفا شانه في ذلك شأن بقية ملوك بني رسول على من يغضب عليه حتى لو كان الذنب حقيرا ؛ فسمل العيون ، والضرب العنيف الذي يؤدي أحيانا إلى الموت ، وعصر الأجسام ، ومصادرة أموال المغضوب عليه هي العقوبة التي كانت شائعة في عهد حكام بني رسول ...".ـ ظهرت لنا أسماء علماء ، وفقهاء نوابغ نبغوا في علومهم على سبيل المثال لا الحصر الفقيه محمد عبد العزيز بن أبي القاسم الأبيني . ويصفه مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع ، قائلا : " كان فقيها ، فاضلا ، عابدا ، ورعا ، زاهدا " كان معيدا في المدرسة المنصورية بعدن . وغيره من العلماء والفقهاء الكبار الذين درسوا في المدارس السلطانية ( الإسلامية ) في عدن .ـ نشؤ وتطور وازدهار المدارس الإسلامية في اليمن بوجه عام وعدن بوجه خاص كان مرتبطا أشد الارتباط بالأوضاع السياسية , فالحاكم القوي المحب للعلوم والمعارف والذي تسود فترة حكمه الهدوء والاستقرار ينعكس ذلك إيجابيا على الحياة الثقافية ومن بينها بناء المدارس الإسلامية الرسمية أو ( السلطانية ) , والعكس صحيح عندما تشهد اليمن اضطراب حبل الأمن , وظهور الفتن والقلاقل على مسرح السياسية ، فإن المدارس الإسلامية تطفأ جذوتها وتسعى إليه يد الخراب والدمار ، وتكون أثرا بعد عين . وإذا نظرنا إلى عصر الازدهار والقوة للدولة الرسولية أو بمعنى أوسع في عهد سلاطين ملوك الدولة الرسولية العظام كالسلطان الملك المنصور عمر بن علي بن رسول ، والسلطان الملك المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول ، والسلطان الملك الأشرف ممهد الدين عمر بن علي بن رسول المتوفى سنة ( 696 هـ / 1296 م ) ، فإن الحياة الثقافية فيها كان يسودها الحيوية والنشاط الكبيرين ومنها بناء المدارس الإسلامية حيث تنافس السلاطين والملوك من بني رسول ، والأمراء والحكام تنافسا كبيرا في تأسيس المدارس المختلفة المذاهب ، فانتشرت تلك المدارس الإسلامية انتشار واسعا , وفي هذا يقول مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع : " ولم يقتصر بناء المدارس على السلاطين والملوك من بني رسول فحسب بل سار على سننهم واقتفى آثارهم نساؤهم ووزراؤهم وأمراؤهم ومواليهم ... والناس على دين ملوكهم حتى صار تشييد المدارس سمة واضحة من سمات عصرهم ، ومعلما بارزا من مظاهر حضارتهم ، ذلك لأنهم ــ أي ملوك بني رسول ـ كانوا علماء لهم مشاركة قوية في كثير من العلوم ... " .[c1]المدرسة المنصورية [/c]يذكر لنا مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع ، بأن السلطان الملك المنصور عمر بن علي ابن رسول مؤسس الدولة الرسولية المقتول بالجند سنة (647 هـ / 1250 م ) بنى مدرسة في عدن سميت بالمدرسة المنصورية وكانت تدرس فيها المذهبان الشافعي ، والحنفي . ومن أجل أن تواصل المدرسة رسالتها في تدريس المذهب الشافعي ، والحنفي بصورة مستمرة . فقد وقف لها أوقافا كثيرة في لحج وعدن ـ على حسب قول مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع ـ . ومن أوائل من درس بها " الزكي بن الحسن ، أبو طاهر ، شمس الدين البيلقاني ، الفقيه البارع المناظر الأصولي المنطقي ". وآخر من درس بها هو الفقيه علي بن سفيان . ولكن لم يذكر لنا ، السنة التي بنيت فيها , وأين كان موقع المدرسة المنصورية في عدن ؟ . وكم استمرت من الزمن في أداء رسالتها؟. [c1]المدرسة الظاهرية [/c]بناها السلطان الملك الظاهر يحيى ابن الملك الأشرف إسماعيل المتوفى بزبيد سنة (842 هـ / 1439 م ) كانت فترة حكمه أحدى عشرة عاما اتسمت بالقلاقل والفتن . ونستدل من سياسة حكمه أنه كان جبارا غشوما ، بدأ حكمه بسجن وقتل معارضيه . ولقد ضاقت به الرعية من أفعاله الدموية " ... ولم يزل الظاهر يعاني من اختلال الأمن الذي تفاقم عليه ، وعجز عن كبح جماحة حتى فارق الحياة في زبيد في شهر رجب 842 هـ " . ـ كما قلنا سابقا ـ . ونستدل من ذلك أن تلك الحياة السياسية القلقة والمضطربة كان من الطبيعي أن تلقي بظلها الثقيل على الحياة العلمية بصورة عامة والمدارس الإسلامية ( أي السلطانية ) بصورة خاصة ومن المحتمل أن الأمور سارت سيرا سيئا في تلك المدرسة الظاهرية في عدن بسبب الفوضى والقلاقل التي عمت مدن اليمن ومن بينها عدن . ومؤرخنا القاضي لم يعطينا معلومات مستفيضة بل قال عنها بعبارة موجزة ، : " المدرسة الظاهرية كانت في عدن ، بناها السلطان الملك الظاهر يحيى ابن الملك الأشرف إسماعيل ". وأغلب الظن أن المصادر التاريخية لم تسعفه في إعطائه المعلومات عن تاريخ المدرسة الظاهرية في عدن بصورة واسعة وعميقة . [c1]مدرسة المطهر بن الإمام شرف الدين [/c]يقول مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع عن بناء تلك المدرسة ما يلي : " كانت في عدن . أمر ببنائها الإمام المطهر ابن الإمام شرف الدين سنة 975 هـ . وقد قام عامله في عدن قاسم بن الشويع ببنائها لتدريس المذهب الزيدي بها ولكنها هدمت كما قال قطب الدين الهنروالي ، في كتابه البرق اليماني ـ حينما دخل الجيش السلطاني عدن " . ويصف مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع المطهر ابن الإمام شرف الدين ، قائلا : " كان شجاعا مقداما ، له مواقف حاسمة في الحروب ، وفتكات سريعة أوجد ت له هيبة ، ورهبة في قلوب الناس بسبب إسرافه في سفك الدماء " . وهذا ما أكده أيضا الدكتور سيد مصطفى عن صفاته التي اتسمت بالعنف والقسوة في حروبه ، فقال : " فقد مال إلى القسوة البالغة في معاملة اليمنيين أثناء حروبه لفرض سيطرة أبيه الإمام شرف الدين في أقاليم اليمن المختلفة لأول مرة ، وذلك سواء الزيديين في الشمال ، أو ضد الطاهريين في الجنوب " . ومن أجل تحقيق مآربه السياسية الذاتية والخاصة المتمثلة بأن يكون وليا لعهد أو خلفا لأبيه الإمام شرف الدين يحيى الذي رفض تعينه وليا له وذلك بسبب شخصيته التي تجنح للعنف والعدوان . مما جعله يثور على والده ويتحالف مع العثمانيين . وكان من الطبيعي أن تلك الشخصية القاسية والعنيفة التي تسعى سعيا حثيثا وراء الحكم والسلطة أن تأثر تأثيرا سلبيا على مدرسته التي بناها في عدن , فهو ليس من الحكام الذين يؤمنون بنشر العلوم والمعارف أو قل لم يكن يعنيه من قريب أو بعيد نشر المذهب الزيدي وإنما كل الذي كان يملأ تفكيره هو الوصول إلى قمة السلطة والشهرة والنفوذ ,. وعلى أية حال مدرسته لم تخرج إلى حيز النور أو بمعنى آخر أن المدرسة ماتت في المهد . ويبدو أن ذلك يعود إلى انشغال المطهر ابن الإمام شرف الدين يحيى في حروبه ضد خصومه المستمرة من ناحية وكما ذكرنا سابقا أن صفات شخصيته لا تميل إلى العناية بقضايا العلوم والمعارف ونشرها في اليمن ومن بينها المدرسة أو المدارس الإسلامية فكل تصرفاته تقول أنه رجل حرب وليس رجل ثقافة. علما أن تلك المدرسة الزيدية كان لا بد أن يكتب لها الفشل الذريع باب السابقة التي ذكرناها إلى جانب أنها أنشئت في وسط محيط من أهل السنة.[c1]العثمانيون والمدارس الإسلامية [/c]ويوضح الأستاذ أحمد صالح رابضة مسألة هامة تتمحور في بناء العثمانيين للمدارس في عدن وعلى الرغم أن هناك عددا من المدارس الإسلامية بناها العثمانيين في مناطق عديدة من اليمن . وربما سبب ذلك يعود إلى انغماس وانشغال العثمانيين في الحروب الكثيرة والمتواصلة ، فلم يسعفهم الوقت أو الأوضاع السياسية في اليمن إلى بناء مدرسة أو مدارس في عدن أو أن كانت عدن بالنسبة لهم من الميادين الثانوية . وفي هذا ، يقول : " أما في مناطق وأصقاع اليمن الأخرى فقد أنشأ العثمانيون مدارس مختلفة أتت على ذكرها الموسوعة اليمنية . ولم تشر إلى المدارس العثمانية التي أنشئت في عدن , فلعل ظروف الحرب والصراع التي كادت تكون سمة هذه الفترة من حكمهم قد حالت دون الالتفات إلى البناء والتنمية وإنشاء المدارس والمساجد في مناطق نفوذهم الثانوية ... " . ومن الأسباب الأخرى التي جعلت العثمانيين يعرضون عن بناء المدارس الإسلامية أو بمعنى أوسع لم يشغلهم مسألة بناء المدارس اليمن وعدن يوضحها لنا الدكتور سيد مصطفى ، فيقول : " ونظرا لطبيعة نشأة دولتهم , فقد كانت الحكومة والجيش شيئا واحدا ، أو بالأحرى كانت الحكومة العثمانية جيشا قبل أي شيء آخر، أي كانت الحرب هي المهمة الأولى للدولة ثم يأتي الحكم في المرتبة الثانية " . ويضيف قائلا : " أن العثمانيين لا يهمهم من وراء وجودهم في اليمن غير بقائه خاضعا لسيطرتهم وغير تدعيم هذه السيطرة باستمرار ، مع ما يستتبع ذلك من جمع الأموال المقررة على الأهالي والعمل على القضاء على ثوراتهم ، وذلك لتحقيق هدفهم العسكري في اليمن وهو اتخاذه قاعدة دفاعية أمامية لصد الخطر البرتغالي الذي كان يطوق البلاد العربية من ناحية الجنوب ، ولحماية الحرمين الشريفين " .وفي واقع الأمر ، انه كانت توجد في عدن بعض المدارس الإسلامية أو المدارس السلطانية مثل المدرسة السفيانية والتي بنيت في عهد الدولة الطاهرية باليمن ( 858 ـ 933هـ / 1453 ـ 1527 م ) ويذكر مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع أن المدرسة بناها الشيخ علي بن سفيان ولذلك سميت باسمة ، ويبدو أن الملك المجاهد علي بن طاهر أمره ببناء تلك المدرسة في عدن . ولقد تعرضت المدرسة السفيانية مرتين للحريق الأولى سنة 908 هـ / 1503 م , والثانية في سنة 914هـ / 1508 م . ولقد نوه صاحب روح الروح في الحريق الثاني التي تعرضت له المدرسة بأن موقعها كان في حي اليهود , ولكننا لا ندري بالتحديد أين يقع ذلك الحي في عدن ؟ . وأما ما يخص المذهب الذي كان يدرس في المدرسة السفيانية فأغلب الظن كان المذهب الشافعي ، والحنفي . لكون الدولة الطاهرية من الدول السنية في اليمن . ويلقي الباحث أحمد رابضة مزيدا من الأضواء على باني المدرسة السفيانية ، فيقول عنه : " ... من تجار عدن , وكان هذا الشيخ الجليل يستقطب الفقهاء والعلماء والمدرسين الذين تلقوا تعليمهم في مصر ، والعراق ، ودمشق أمثال الفقيه العلامة غبراهيم بن عيسى الشرعبي " . وعن موقع المدرسة حاليا ، يقول : " وهي حالا ( حاليا ) ، في غالب الظن ، فيما يسمى بحي الشهيد السلفي ، شارع حسن علي ".[c1]المدرسة الياقوتية [/c]بنيت في عهد الدولة الرسولية ، بنتها جهة الطوشي اختيار الدين ياقوت في عدن وهي أحدى أميرات بني رسول. وفي هذا يقول القاضي إسماعيل الاكوع : " ورتبت فيها إماما ، ومدرسا في الفقه وأيتاما يتعلمون القرآن الكريم . وتعاقب على تدريسها فقهاء كبار مثل الشيخ الفقيه إسماعيل الجرداني . وكانت تدرس فيها العلوم الشرعية التقليدية مثل الفقه ، الحديث ، النحو ، و التصريف وغيرها . ولقد أوضح لنا الأستاذ الباحث أحمد صالح رابضة [c1]الهوامـــــــــش : [/c]القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ المدارس الإسلامية في اليمن ، الطبعة الأولى 1406 هـ / 1986 م ، مكتبة الجيل الجديد ـ صنعاء ـ مؤسسة الرسالة بيروت ـ شارع دمشق ـ . القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ الدولة الرسولية في اليمن ،الطبعة الأولى 2003 م ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر ن عدن الجمهورية اليمنية .القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ أعراف وتقاليد حكام اليمن في العصر الإسلامي، الطبعة الأولى 1994م ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت ـ لبنان ـ بامخرمة ؛ تاريخ ثغر عدن ، الطبعة الثانية 1407 هـ / 1986 م . منشورات المدينة ـ صنعاء ـ .الدكتور محمد عبده محمد السروري ؛ الحياة السياسية ومظاهر الحضارة في اليمن، 1425 ـ 2004 م ، الناشر :الجمهورية اليمنية وزارة الثقافة والسياحة . الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول ليمن 1538 ـ 1635م .الدكتور سيد مصطفى سالم ، المؤرخون اليمنيون في العصر العثماني الأول سنة الطباعة 1917 م ، الناشر : الجمعية المصرية للدراسات التاريخية . أحمد صالح رابضة ؛ من تاريخ الرباطات والمساجد والمدارس في عدن . بحث قدم في ندوة بجامعة عدن تحت عنوان : ( عدن أوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية منذ عام 856 وحتى عام 1254 هـ ).