أضواء
مما هو معلوم من الشرع ومن العقل، بل ومن الفطرة، أن الله تعالى لم يرسل الرسل مؤيدين بالشرائع الا لمقاصد مطلوبة له تعالى هي: سعادة المكلفين بها في الدنيا والآخرة. واذا كانت الدار الآخرة، كما أوضح الله تعالى في القرآن، ليست دار عمل بقدر ما هي دار تقييم للعمل الدنيوي نفسه، فإن المقاصد المنبثقة من الشرائع الإلهية تظل مرتبطة بتنظيم الحياة الانسانية في الحياة الدنيا باعتبارها مناط ارتباط الشرائع بمقاصدها. ويقسم الأصوليون الأحكام الشرعية، وفقاً لدرجة وضوح المقصد/العلة/ الحكمة من تشريعها، الى قسمين: قسم غير معلل، يطلقون عليه أحيانا اسم: التعبدي، وهو ما خفي الغرض من تشريعه تماماً، كما هو الشأن في العبادات أو بعضها على الأقل. وقسم معلل. وهو ما ظهرت علة أو حكمة تشريعه بشكل لا مراء فيها، كتحريم شرب الخمر ب«علة» الاسكار المؤدي الى(مخامرة) العقل، ومن ثم تغطيته بما يؤدي الى تعطيل أهم شروط تكليف الانسان.لكن ثمة اعتراضاً على ذلك التقسيم (الثنائي) للنصوص، من حيث درجة وضوح مقاصدها. هذا الاعتراض نجده لدى الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، الذي يشير في كتابه: (مقاصد الشريعة الاسلامية) الى أن العلماء الذين خاضوا في مسائل التعليل والقياس قد أوشكوا أن يضيفوا قسما ثالثا هو: ما كانت علته خفية، لكن الفقهاء استنبطوها من خلال الاجتهاد في البحث عنها، ك«علة» تحريم ربا الفضل والنسيئة في الأصناف الربوية الستة المعروفة. واذا كان اختفاء المقصد أو ضمور الاهتمام باستنباطه فيما يتعلق ببعض الشعائر التعبدية مفهوما، فإن اختفاءه، أو عدم اهتمام الفقه المعاصر باستنباطه فيما يتعلق بباب المعاملات أمر من الخطورة بمكان، بحيث انه قد يوقع في المحظور نفسه الذي أرادت الشريعة حماية الانسان منه، لأن التشريعات الخاصة بالمعاملات كأحكام البيع والشراء والزواج وشؤون الأسرة وحكم المجتمعات وغيرها، انما هي تشريعات تنظم حياة الفرد والمجتمع في الحياة الدنيا بما يؤدي الى اشاعة العدل والاستقرار والألفة وضمان الحقوق، الفردية منها والجمعية، ولا تمتد أحكامها الى الحياة الآخرة التي هي دار جزاء وليست دار عمل. وهي من ثم - أعني التشريعات المعاملاتية - مجرد وسائل لتحقيق تلك الغايات، بحيث تدور مع امكانية تحققها وجوداً وعدما.واذا كان الأمر كذلك، أعني تعلق أحكام المعاملات بالحياة الحاضرة، فلا مناص من استصحاب مقاصدها التي نزلت مراعية لها. والمقاصد أو العلل ليست، بطبيعتها، متعالية على الزمان والمكان، بل هي بِنتُ زمانها ومكانها وبيئتها، وباختصار، هي بنت مجتمعها، وبالتالي فما يوصل الى تلك المقاصد في زمن معين، قد لا يوصل اليها في زمن يليه. وهذا يعني أن الأحكام التشريعية - في باب المعاملات خصوصا - ليست غرضاً أو غاية في حد ذاتها. بل ان الغاية منها كامنة فيما تريد أن تحصله من جلب منافع تؤثر ايجابياً على الحياة الحاضرة، أو ما تبتغي دفعه من مضار تؤثر سلباً على تلك الحياة. والقدرة على تفعيل نظرية المقاصد بجعلها غاية في حد ذاتها، والأحكام التي تبتغيها بمثابة وسائل لتحقيقها هي ما جعل الشريعة الاسلامية صالحة لكل زمان ومكان. ولعلنا نجد أوضح التطبيقات المقاصدية للأحكام الشرعية في زمن الصحابة رضي الله عنهم فيما عمله الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أوقف سهم المؤلفة قلوبهم بحجة أن الاسلام وقتها غدا عزيز المنال، ولم يعد ، من ثم، بحاجة الى تأليف قلب أحد. وعندما أوقف اقامة حد السرقة عام الرمادة بسبب المجاعة، وكذلك عندما أوقف توزيع أراضي سواد العراق على المجاهدين بحجة أن توزيعها سيخل بالتوازن الاقتصادي للأجيال اللاحقة. رغم أن تلك الأحكام- سهم المؤلفة قلوبهم وحد السرقة وتوزيع الأراضي المفتوحة - مقننة بنصوص قطعية الدلالة من القرآن الكريم. ولعل المغزى الرئيس في هذه التطبيقات العمرية نابع من أن المقاصد هي التي يجب مراعاتها عند تطبيق النصوص، (تأليف القلوب على الاسلام في زمن الضعف مطلوب لتقويته - أي الاسلام- كمقصد، أما في حالة كونه قوياً بذاته فالمقصد قد تحقق، وبالتالي فلا حاجة لوسيلة:تأليف قلوب الناس عليه). في هذا المجال، أعني ربط أحكام المعاملات بمقاصدها، يعود الشيخ ابن عاشور لينعى على بعض الفقهاء ربط أحكام المعاملات بالجانب التعبدي المحض فيقول: «وكان حقاً على الفقهاء أن لا يساعدوا على وجود الأحكام التعبدية في تشريع المعاملات، وأن يوقنوا بأن ما أُدعي فيه انما هي أحكام قد خفيت عللها أو دقت. فإن كثيراً من أحكام المعاملات التي تلقاها بعض الأئمة تلقي الأحكام التعبدية قد عانى المسلمون من جرائها متاعب جمة في معاملاتهم، وكانت الأمة منها في كبد، في حين قال الله تعالى في محكم التنزيل: «وما جعل عليكم في الدين من حرج». ثم يضيف: «وعلى الفقيه أن يجيد النظر في الآثار التي يتراءى منها أحكام خفيت عللها ومقاصدها ويمحص أمرها، فإن لم يجد لها محملا من المقصد الشرعي، نظر في مختلف الروايات لعله أن يظفر بمسلك الوهم الذي دخل على بعض الرواة فأبرز مرويه في صورة تؤذن بأن حكمه مسلوب الحكمة والمقصد. وعليه أن ينظر الى الأحوال العامة في الأمة (الظروف) التي وردت فيها تلك الآثار عند وجودها». النظر في الأحوال والظروف (التاريخية) التي وردت فيها النصوص مورد مهم من موارد استنباط المقاصد الشرعية لها. وهذا الربط (التاريخي) بين النص وبين الظروف أو الأحوال التي نزل أو قيل فيها نجد لها تطبيقات عند السلف توضح الى أي حد كان لديهم وعي تاريخي بتلازم المقاصد/العلل مع النصوص. فعندما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن «المحاقلة» وهو، وفقاً لتفسير بعض السلف، كراء «تأجير» المزارع على نصيب منها معلوم كالثلث أو الربع، عمد الصحابة الى استصحاب الواقعة(التاريخية) التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة فيها، طلباً لمقصد النص. فوجدوها في حديث رافع بن خديج الذي قال فيه: كنا أكثر أهل المدينة مزدرعا، فكنا نكري الأرض بالناحية منها مسمى لسيد الأرض(أي أن الزرع الذي سينبت في تلك الناحية لمالك الأرض). قال: فمما يصاب من ذلك وتسلم الأرض(أي بقيتها). ومما تصاب الأرض ويسلم ذلك(أي ما في المنطقة المخصصة لرب الأرض). فنهينا عن ذلك. وأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ(أي لم يكونوا يتعاملون في النقدين آنذاك). ومن ثم فقد استخلصوا من النهي عن اكراء الأرض أنه نهي عن(المخاطرة)، والتي تتمثل بأن أياً من المتعاقدين، مالك الأرض أو المستأجر، ربما يفقد حظه مما ستخرج الأرض من ثمر أو زرع. أما عندما حدد النبي صلى الله عليه وسلم أن «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا». فقد حمله جمع من أبرز علماء السلف على أن معنى «التفرق» هنا هو اتمام العقد بالصيغة المتعارف عليها زمن البيع، لا التفرق بمعناه الظاهر. ولذلك أنكر الامام أبو حنيفة على من اعتبر التفرق بمعناه الظاهر بقوله:«أرأيت ان كانا(يعني البائع والمشتري) في سفينة؟، أرأيت ان كانا في سجن؟، كيف يفترقان؟». وعندما يحدد النبي صلى الله عليه وسلم المدة التي لا يجوز للمرأة أن تسافر خلالها بدون محرم، وهي - أي المدة - مسيرة ثلاثة أيام، أو يوم وليلة، أو ليلة، على اختلاف في الروايات، فإن المقصد منها، كما ذكر الفقيه المعاصر الشيخ عبدالمحسن العبيكان، في أحدث آرائه الفقهية التي يربط فيها الحكم/العلة بالنص، يدل على «أن في الحكم علة، والا لما ذكر المدة ، فالمدة اليسيرة لا تحصل فيها العلة.ولا بد أن تكون العلة هي الخوف على المرأة من الاعتداء على شرفها وخاصة في السفر قديماً بوسائله التي يحصل فيها الخوف، فالسير في الصحراء على الابل أو البغال أو الحمير ونحوها يكتنفه الخوف من تأخر الدابة ونوم راكبها وسقوطه ونحو ذلك وربما استغل البعض حال الغفلة فاعتدوا على المرأة التي لا يوجد معها محرم يدافع عنها ويحفظها. وأما الوسائل الحديثة مثل الطائرة، فالمدة في الغالب يسيرة، وأيضاً لا يستطيع أحد الاعتداء على المرأة لوجود الطاقم والناس حولها وأما التحرش بالكلام ونحوه فهو يحصل في السوق وعبر الهاتف وفي كل مكان فليس هذا هو المقصود». ثم ساق، تأييداً لكلامه، ما أشار اليه ابن حجر الهيثمي في كتابه: (الزواجر). من قوله:(الكبيرةُ المائة : سفر المرأة وحدها بطريق تخاف فيه على بضعها). والقاعدة الأصولية المتبعة أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فمتى وجدت العلة/ المقصد، وجد المعلول/ الحكم، ومتى أنتفت العلة/المقصد انتفى المعلول/ الحكم. لكن الكثير من فقهائنا المعاصرين لا يزالون يصرون على أن ينفوا عن الأحكام الشرعية مقاصدها التي جاءت من أجل تحقيقها فجعلوها - أي النصوص - معلقة في الهواء، ونفوا، بدون أن يعوا، صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان. لقد سلكوا مسلك بعض متشددي الظاهرية عندما أخذوا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «كل شيء خطأ الا السيف»، فاعتبروا أن كل قتل فيما دون السيف هو قتل خطأ لا يقاد به صاحبه!، وقس على ذلك كثيراً من أحكام المعاملات التي عادة ما يكتفون، عند تحكيمها، بأخذ ظواهر ألفاظها، دون اعمال النظر فيما قصده الشارع منها.[c1]*عن/ جريدة “الرياض” السعودية[/c]