[c1]تمهيد : العلاقات اليمنية _ السودانية عبر العصور:[/c]كانت الهجرة العربية، قبل الإسلام وبعده، مصدراً للتدفق البشري إلى بقاع العالم. وفيما يخص السودان، كان للهجرات العربية منافذ من الشرق والشمال الغربي "1". هجرات العرب عبر البحر الأحمر إلى أفريقيا، خاصة القبائل اليمنية كانت معروفة ما بين القرنين العاشر والسابع قبل الميلاد. (وكانت هجرات القبائل من اليمن أكثر منها من الحجاز نتيجة لوفرة السكان، وصغر حجم الفاصل البحري، وبراعة اليمنيين في الملاحة وسهولتها). "2" وكان البحر الأحمر هو المعبر إلى شرق أفريقيا ومنها إلى السودان.وازدادت الهجرة العربية إلى أفريقيا والسودان بعد الإسلام، وقد شهد القرن العاشر الميلادي وفود القبائل العربية تتقاطر على سهول السودان الفسيحة "3".وقد استقر اليمنيون في أنحاء كثيرة من السودان، وتصاهروا مع السودانيين، خاصة في شرق السودان "4".والدكتور نزار غانم يفصل القول في الهجرات الحديثة التي حدثت في القرن التاسع عشر الميلادي، ويتحدث عن هجرة العمال اليمنيين كي يعملوا في ميناء سواكن أولاً وميناء بور تسودان فيما بعد، وفي حقول زراعة القطن لشحنة وتصديره وفي تشييد بعض الجسور والخزانات على النيل وفي تشييد بعض خطوط السكك الحديدية.واستمرت الهجرات وتحول كثير من يمنيين إلى العمل في التجارة وفتح بقالات صغيرة في كثير من الأحياء في المدن، وإلى العمل في حرف أخرى مثل العمل في المخابز أو جلب الماء من النيل إلى المواطنين في بيوتهم. ولهذا اندمج اليمنيون في المجتمع السوداني خلافاً لكل الجاليات العربية التي كان يسكن أفرادها في أحياء الخرطوم أو المدن الكبرى _ الأحياء "الراقية" البعيدة عن الأحياء "الشعبية" التي سكنها اليمنيون. وازدادت المصاهرة والزواج بالسودانيات وطاب المقام لليمنيين في السودان معززين مكرمين.ويحدثنا الدكتور نزار أيضاً عن الهجرات السودانية إلى اليمن. تلك الهجرات التي بدأت بهجرة أفراد ثم أزدادت بعد هجرات المعلمين منذ أواخر الثلاثينات من القرن العشرين إلى حضرموت وبعدها إلى عدن ولحج وأبين وأزدادت الهجرة إلى شمال اليمن بعد ثورة سبتمبر 1963م وإلى جنوب اليمن بعد الاستقلال في نوقمبر 1967.وإلى جانب المعلمين كان هنالك السودانيون المهنيون والعاملون في المنظمات الدولية والإقليمية والدبلوماسية في صنعاء وعدن.[c1]انتشار اللغة العربية والثقافة الإسلامية في السودان:[/c]حين نزحت القبائل العربية، منذ عصر الإسلام إلى السودان، كانت تحمل معها "لهجات"، واللهجات العربية في مجموعها صور مختلفة من اللغة العربية الفصحى "لغة قريش".وقد دار صراع بين اللغات السودانية واللهجات العربية الوافدة، وكانت الغلبة للهجات العربية مع بقاء مفردات من اللغات الإصابة، ومن هنا ظهرت اللهجات السودانية المحلية التي تتكون معظم مفرداتها من اللغة العربية، وبعضها بقي دون تغيير وبعضها مسه شيء من التغيير"5". هذا وقد نشطت الدعوة الإسلامية في عهد دولة الفونج التي تأسست عام 1505 واشتدت الرغبة في النهوض بالدين ونشر العقيدة بين الناس.وفي عهد الفونج ظهر التجمع الصوفي الذي كان نواته شيخ الطريقة، يفد إليه الناس فيمتلئ بهم محل عبادته أو مكان إقامته، ويصبح هذا المحل، أو ذلك المكان مأواهم جميعا، ويصبحون تحت لواء الشيخ أسرة واحدة أو طريقة واحدة، تجمع الدعوة شملهم وتوحد بين مشاربهم على اختلاف قبائلهم وأجناسهم. "6".وقد اضطلع هؤلاء المتصوفة بنشر اللغة العربية والعقيدة والثقافة الإسلامية. وفي إطار العلاقات اليمنية السودانية بعد الإسلام يحدثنا الدكتور نزار غانم عن انتقال الفقهاء والمتصوفة بين المنطقتين، ويقف عند علم كبير من اليمنيين الذين نشروا الإسلام وعلومه في السودان هو الشيخ غلام الله بن عائد اليمني الذي قدم إلى السودان مع والده في النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي. وبعد وفاة والده في سواكن توجه إلى دنقلا في شمال السودان، واستقر فيها وأسس أول "خلوة".. "معلامة لتدريس القرآن الكريم"."7".ومن الحضارمة الذين نشروا الإسلام في السودان الشيخ نور الدين اليمني. "8" وتذكر بعض المصادر أن أهل سواكن كانوا يحضرون بانتظام إلى اليمن للدراسة في زبيد وبيت الفقيه والمخاء، وكلها من أرض تهامة اليمن، فطائفة المجاذيب السودانية، وهم من الجعليين، الذين نشروا علوم الدين في السودان، درس بعضهم في معاهد العلم الديني في زبيد، حيث عرف لهم رواق باسم "رواق السنارية"، نسبة لمدينة سنار بوسط السودان."8".ويشير الباحث السوداني بابكر علي عبدالكريم إلى لقاءات العلماء في اليمن والسودان حينما يقصدون الأزهر الشريف بمصر والحرمين الشريفين بالحجاز."9"هذه العلاقات التاريخية شكلت وجدان السودانيين واليمنيين، بحيث لا يشعر السودانيون الذين يعيشون في اليمن بأنهم غرباء، ولا يشعر اليمنيون الذين يعيشون في السودان بأنهم غرباء, وإنما يشعر كل أنه في وطنه وبين أهله. والذي ساعد على ذلك تقارب الشعبين في الطباع والعادات والتقاليد، وفي صفات أهمها البساطة في الحياة والتواضع والطيبة التي تحدث عنها الأستاذ محمد مجذوب في إحدى قصائده.وهذا هو الذي يفسر لنا طول إقامة اليمنيين في السودان والسودانيين في اليمن، والذي يفسر لنا سبب إقامة الأستاذ محمد مجذوب لأكثر من أربعين سنة في اليمن، معلماً ومربياً وصديقاً للكثيرين الذين أحبهم وأحبوه ويذكرونه دوماً بالخير.[c1]اليمن في شعر محمد مجذوب عليسيرة ذاتية :[/c]تلقى الأستاذ محمد مجذوب علي تعليمه الابتدائي والمتوسط والثانوي في السودان، ثم ارتحل إلى مصر والتحق بالأزهر الشريف، وأكمل دراسته فيه عام 1960م، وشد الرحال إلى اليمن، حيث ظل يعمل لأكثر من أربعين سنة معلماً للغة العربية.نال الأستاذ محمد مجذوب الميدالية الذهبية والشهادة التقديرية، ولقب المعلم النموذجي في عيد العلم عام 1984م. وفي عام 1985 كرمته وزارة الثقافة بنيله الميدالية والشهادة التقديرية لمساهمته الأدبية في الحملة الشاملة لتصفية الأمية في اليمن الديمقراطية.كذلك كرمه اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين عام 2000م بأن أعطاه العضوية الفخرية في الاتحاد.عمل محمد مجذوب في مرافق تعليمية عديدة ولكن أسمه ارتبط بمدرسة الجلاء الثانوية (محمد عبده غانم) بسبب المدة الطويلة التي قضاها معلماً ورئيساً لشعبه اللغة العربية فيها. متزوج وله ابنان وبنتان."12"بالإضافة إلى هذا عرفت الصحف اليمنية محمد مجذوب كاتباً وشاعراً، وكان قد ارتبط ارتباطاً وثيقاًَ بصحيفة (الأيام) وبعميدها ومؤسسها المرحوم محمد علي باشراحيل، وتعلم على يديه الكثير، كما ذكر مجذوب نفسه.هذه سيرة ذاتية موجزة لمعلم قدير وهب نفسه لمهنة التدريس، وأفنى شبابه في اليمن، وتخرج على يديه أجيال وأجيال ممن يحتلون مراكز مرموقة في الدولة، وفي الحياة العامة.[c1]اليمن في شعره:[/c]للشاعر محمد مجذوب ديوان شعر أسمه : (قمري والمد والجزر) حظيت اليمن فيه بحضور مميز فلا غرو، فاليمن هي مجذوب ومجذوب هو اليمن، وموقفه من اليمن شبيه بموقف الشاعر الدكتور عبدالعزيز المقالح الذي يقول مخاطباً اليمن (أنت أنا)، وذلك في قصيدته "إلى عيون إلزا اليمانية". "13"وفي الإهداء الذي تصدر الديوان جاء قوله : (إلى السودان ومصر واليمن، ففي السودان ومصر نشأت وتعلمت، وفي اليمن عشت وعملت وعلمت.. وإليها.. وإلى الإنسان في كل مكان، اعترافاً بالجميل ورمز حب ووفاء) الاهداء ص"5" يقول ذلك لانه وفي معترف بالجميل، ولأنه عاش بين الأوفياء المعترفين بالجميل.الأستاذ محمد مجذوب عاصر أهم المراحل والاحداث في اليمن منذ عهد الاستعمار في الجنوب والحكم الإمامي في الشمال حتى اليوم. وكان لا بد أن ينفعل مع هذه الأحداث.وهاهو يفرح من المناضلين الذين تحققت أحلامهم بنيل الاستقلال فيكتب "من وحي نوفمبر" وفيها يربط بين السودان واليمن: من ماء نهر النيل جئت مهاجراًوعلى ذرى شمسان مرسى رحاليولأن صفات حميدة عديدة تربط بين السودانيين واليمنيين، مثل "الطيبة" التي هي نتاج للبساطة والتواضع، والتي يرى فيها مجذوب "طيبة أهله" فقد عاش في اليمن وكأنه يعيش في السودان:[c1]عاشرت شعباً فيه طيبة موطنيالوالدان هنا وعطف الخالقاسمته حلو الحياة ومرهاحالي كحاله.. حاله من حالي[/c]ويسطر ما شاهد قبل الاستقلال:[c1]شاهدت جيش "الانجليز" أجل وذاك"الشيخ" و"السلطان" "زهو"الولي"[/c]ظن الإنجليز والشيوخ أنهم ناجون وأنهم مخلدون:[c1]حكموا كما شاءت لهم أهواؤهمذلو الشريف وكل مجد عالظنوا- وكم خابت ظنون- أنهمناجون.. معصومون من أهوال[/c]ولكن ما إن أطل "ردفان" حتى صارت الأسود بغالاً، وجاءت الحرية التي انتزعت انتزاعاً:[c1]وأطل "ردفان" العظيم مزمجراًفإذا "الأسود" تصير مثل البغالواتتنا تخطر في اختيال جميلةحرية "بالنار".. لا بنوالوهنا يطل نوفمبر:وتسلم الثوار في "نوفمبر"أمر البلاد بهمة ونضال[/c]وحين أكمل محمد مجذوب ربع قرن من الزمان في اليمن، قال:[c1]ربع قرن- ياحياتي- يا يمنربع قرن في اليمنربع قرن لليمن[/c]ولأنه لم يكن :موجوداً" في اليمن مجرد وجود، وإنما كان "عائشاَ" ومشاركاً في بناء الحياة الجديدة، عدل عن قوله: "في اليمن" إلى قوله "لليمن".ولهذا اوذي محمد مجذوب إيذاءً كبيراً حين تفوهت إحداهن بكلمة "غريب" وهي تسأله: كم لك بيننا ، كم يا غريب؟ فا نفعل واستنكر، فأجابها وعتب عليها:[c1]وتسألينني؟: أطلت، غزاك شيب؟؟فكم لك بيننا؟ كم ياغريب؟؟من "السلطان" و"الوالي" إمام ومازالت خيامي ياحبيب!!بهذا قد أجبت. فهناك لوميتقولين : الغريب؟ أنا الغريب؟؟نداء غاص في قلبي حساماًعذابي طال، إن جرح الطبيب[/c]كلمة "غريب" فعلت ما فعلت بمحمد مجذوب وجعلته يتساءل ويكرر السؤال:[c1]غريب بعد طول المكث، ماذا؟؟غريب فيك يا :يمني" غريب؟؟[/c]كيف يكون غريباً وهو الذي أتى إلى اليمن شاباً يافعاً، ثم أصبح رهن المشيب، أتى متخذاً من نيله وشعبه، وسادة، ومن أرض اليمن مهداً رحيباً، فنام قرير العين وأقام، وعشق، وبكى فرحاً، ويصور نفسه ثدياً عروقه في السودان وحليبه في اليمن ومن هنا يصبح سؤال "من أنا؟" بعد الحيرة التي أصابته يصبح معبراً عن مأساة حقيقية:[c1]أتيتك _ والشباب الغض تاجوهآ نذا رهينك يا مشيبأتيت وسادتي "نيلي" وشعبيو "أرض البن" لي مهد رحيبأتيت مُخيّراً فأقمت عشقاًأمن فرح دموعي والنحيب؟تمازجت العناصر صرت ثدياً"هناك" عروقه و "هنا" الحليبوطالت حيرتي في أمر ذاتيأردد من أنا؟؟ هل من مجيب؟[/c]جاء مجذوب إلى اليمن يافعاً، وطاب له العيش وأعطى ما أعطى:[c1]يافعاً قد جئت، مختاراً، محباًفأنخت العيسألقيت العصاطاب لي العيش، فعشتوبما أستطيع من جهد بذلت[/c]ولكن الشباب ولى، وأشتعل الرأس شيباً، وداهمته المحن ومع ذلك، فبالحب والتقدير صارت اليمن وطناً له:[c1]وغزاني الشيب، صادتني المحنبيد أنى- يا حياتي يا يمننلت منك الحب والتقديرلي صرت الوطن* هوامش:[/c]1- تفاصيل ذلك في كتاب: تاريخ الثقافة العربية في السودان، الدكتور عبدالمجيد عابدين، مكتبه الخانجي، القاهرة وكتاب : جسر الوجدان بين اليمن والسودان، الدكتور نزار محمد عبده غانم- صنعاء.2- د. نزار : ص14/16.3- تاريخ السودان الحديث، ضرار صالح ضرار، الدار السودانية- طبعة 1964م.4- د. نزار علاقات ما بعد الإسلام.5- راجع :الهجرة المعاصرة.6- قاموس اللهجات السودانية، د. عون الشريف قاسم، الخرطوم- المقدمة.7- د . عابدين ص59.8- د. نزار ص33.9- نفسه ص3410- نفسه ص3511- العدد 42 من مجلة دراسات يمنية، الصادرة في صنعاء، عن مركز الدراسات والبحوث اليمنية بتاريخ أكتوبر- ديسمبر 1990م. وكذلك د. نزار ص35.12- ديوان : قمري والمد والجزر، للأستاذ محمد مجذوب علي من البطاقة الشخصية.13- ديوان : عودة وضاح اليمن، دار العودة- بيروت ، الطبعة الأولى 1076م، ص104 .
|
ثقافة
اليمن في شعر محمد مجذوب علي (1 - 2)
أخبار متعلقة