أضواء
ليس هناك شك بأن الأعضاء في مجلس الأمة منتخبون من قبل الشعب، لكني لا أعرف بالضبط ما إذا كان المجتمع الكويتي سيحتمل أولاً، ويتقبل تالياً، مثل هذا الاقتراح أم لا. لأن مثل هذا القرار، الذي يستلزم وجود شرطة دينية، قد يكون له تبعات خطيرة على هامش “الحرية” الذي ينعم به المجتمع الكويتي اليوم؛ في ظل وجود الدستور، وتطبيق القوانين، واستمرار استقلال القضاء. ويمكن القول إنّ اقتراح تكوين الهيئة هذا، هو استمرار للصراع بين “العقلانية” الداعمة للحرية، و”الأصولية” المتوجسة من الحرية. فالقضية إذاً تتمحور حول محاولة النيل، بطريقة أخرى، من الحقوق والحريات التي كفلها الدستور للمواطن الكويتي، وخاصة أن التيار الأصولي في الكويت يحاول-عبر النواب الإسلاميين- تعديل المادة الثانية من الدستور، من أجل حصر مصادر التشريع في “الشريعة” الإسلامية.وفي هذه الإشكالية يشير الدكتور خلدون النقيب أنه في هذه الحالة ستكون هناك حاجة “إلى من يحدد ما المقصود بالشريعة الإسلامية حسب فهمه لها، ويوازن بين الاجتهادات والنصوص الفقهية، وإلى من يستفتى في المصالح المرسلة وفي الأمور التي لم يرد فيها نص... فمن الذي يقوم بهذا كله؟” ويجيب النقيب بالقول: إنّ من السذاجة السياسية الاعتقاد بأن النخبة الحاكمة في أي بلد عربي ستسمح للحركات الأصولية بالقيام بهذا الدور، الذي يصل إلى حد اكتساب حق (الفيتو) على الحاكم، مضيفاً: أنّ الجهة الوحيدة التي يمكن أن تسمح لها السلطات السياسية بتفسير “الشريعة” هي المؤسسة الدينية الرسمية فقط. ومهما يكن الأمر، من المعروف أن دولة الكويت من أوائل الدول الخليجية التي ظهرت فيها بذرة التجربة الدستورية واستمرت، منذ زمن ما سمي بـ”القانون الأساسي” في أواخر الثلاثينات من القرن الماضي، أي قبل استقلالها كلياً عن الاستعمار البريطاني في بداية الستينات الميلادية. حيث أصبحت الكويت إلى حد ما دولة مؤسسات، لديها دستور واضح، وبرلمان منتخب، ويتمتع شعبها بهامش لا بأس به من الحرية الاجتماعية والسياسية؛ ولذلك تعتبر هذه التجربة الكويتية أفضل بمراحل من الدول الخليجية وبعض الدول العربية الأخرى. وقد أسهمت هذه التجربة بفعالية في إنتاج مجتمع مدني منظّم وملتزم بأنظمة الدولة وقوانينها، على الرغم من ما مرت به هذه الدولة الصغيرة من تحولات عاصفة طوال تاريخها السياسي. إلا أن الأسس الديموقراطية، التي يلجأ إليها السياسيون في الكويت، كانت كافية لبقاء المواطنة والوحدة الوطنية حاجزاً أمام المحاولات، الداخلية والخارجية، لنسف وحدة الوطن الكويتي. فرغم قلة سكان دولة الكويت (حوالي 4 ملايين نسمة) إلا أن الديموغرافيا الكويتية ثرية في اختلافها الديني والمذهبي والعرقي، وهذا يستلزم وجود مساحات واسعة من التسامح، لن تتواجد من دون قوانين واضحة تكفل للأفراد حريتهم التامة.أما الاقتراح تكوين الهيئة، الذي تعتزم النواب الإسلاميون تقديمه لمجلس الأمة الكويتي بدعم من بعض الجمعيات الإسلامية، فهذا ما لم يألفه المجتمع الكويتي ولن يألفه، طالما أن صورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبطة، في أذهان البعض منا، بسَوق الناس قسراً بعصا الخيزران. وللأسف الشديد أنّ الدول العربية عامة، اعتادت استنساخ تجارب الفشل من بعضها البعض، فهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السعودية كان تأسيسها، في بداية ثمانينات القرن الماضي، لظروف خاصة ومختلفة عن الظرف التاريخي اليوم؛ ولذلك لا يمكن للكويت أن تنقل التجربة نفسها في ظروف مختلفة تماماً، ربما لا يمكن أن تحتملها الآن. خاصة في الوقت التي نبحث نحن في المملكة عن حلول لتقنين تجاوزات أفراد هذا الجهاز الحكومي المرتبط عمله بفرض الرقابة على الناس في الشوارع والأمكنة. فالقضايا الساخنة التي وصلت حدتها إلى اتهام بعض أفراد الهيئة بالقتل وإيقافهم وتقديمهم للمحاكمة، وحتى إنْ تمت تبرئة بعض أولئك أمام القضاء إلا أن الفجوة في اتساع مستمر بين الحسبة والمجتمع، كلما طفت على السطح قضية راح ضحيتها أوراح برئية، أو تعرضوا بسبب أفراد الهيئة لإساءات معنوية في حريتهم وكرامتهم. وأظن أنّ الأخبار والتقارير الصحفية، خلال الأشهر القليلة الماضية، حفلت بالكثير من القضايا التي لفتت انتباه الرأي العام. وفي كل مرة توجه الانتقادات لمثل هذه الممارسات غير الإنسانية، يخرج إلينا من يقول (إن من ينتقد الهيئة يريد النيل من الدين) وكأن الهيئة هي الممثل الرسمي للدين الإسلامي، رغم أن الدين المتسامح بريء من أخطاء الهيئة الفادحة. ومن يزور موقع (youtube) يرى شوهة الصورة من خلال ما يمكن اعتباره أقل تلك الأخطاء، ففي أحد المقاطع المصورة، يظهر رجل ملتحٍ-ذُكر إنه من أفراد الهيئة- يطارد امرأة في الشارع على مرأى من الناس، أسفل أحد الأبراج التي نعتبرها من معالم بلادنا ونتفاخر بها أمام العالم! وقبل فترة وجيزة طالعتنا صحافتنا المحلية بقصة المرأة التي تبلغ من العمر 75 سنة، والتي داهم اثنين من أفراد الهيئة منزلها، في إحدى القرى بمنطقة حائل، بتهمة “الخلوة” غير الشرعية مع فتى أوضح أنها أمه من الرضاعة! وفي الوقت الذي تحاول فيه الرئاسة العامة للهيئة تحسين صورتها في المجتمع جاءت القاصمة من الرئاسة نفسها، حيث طلب مسؤولوها عدم حضور النساء قبيل الاجتماع المزمع عقده بين مسؤولين من الهيئة ومنسوبي إدارات الغرفة التجارية الصناعية بجدة، والمخصص أصلا لمناقشة مفهوم الاختلاط بين الجنسين! (جريدة الوطن: 2817).من الصعب على أي مواطن خليجي أن يتصور بأن الكويت ستتحول بين عشية وضحاها، إلى ميدان للملاحقات بدافع حراسة “الفضيلة” التي لا يمكن أن تتبلور من دون قوانين تحفظ كرامة الناس وتضمن تصرفهم وفقاً لخياراتهم الذاتية. ولذلك أستطيع القول إنّ الاقتراح الذي ينوي بعض النواب تقديمه لمجلس الأمة الكويتي، لا يعدو كونه استمرار لمغازلة المجتمع من جهة ومحاولة فرض السيطرة والتسلط على المجتمع من جهة أخرى، إلا في حالة كونه ثمناً سياسياً لصرف النظر عن المطالبة بتعديل المادة الثانية من الدستور الكويتي. [c1]* عن/ موقع “العربية. نت”[/c]