أضواء
لنأخذ أنصع مثال على فشل الدولة العربية في توطين وتطوير المعرفة في مجتمعها، وهو مثال دول البترول العربية. فلقد مرت حوالي سبعة عقود منذ اكتشاف البترول في أرض العرب وقيام صناعة اكتشافه وضخه وتكريره وتسويقه، ومن هنا فإن المنطق يفرض أن يكون لدى العرب، وبعد مرور كل تلك السنوات، أفضل كليات هندسة البترول، وأكثر مراكز بحوث الطاقة إنتاجاً وأحسنهم مستوى، وأقدر القوى البشرية من مهندسين وفنيين وأخصائيي تسويق وإدارة لإدارة عمليات تلك الصناعة المعقدة. بل إن المنطق يفرض أن يكون العرب من أكثر أمم الأرض معرفة بعلوم وتكنولوجيا البترول والغاز.لكن المنطق العقلي شيء ومنطق الدولة العربية شيء آخر، فالواقع يقول، بحسرة وخجل، بأن موضوع بترول وغاز العرب هو في تراجع. ففي الخمسينات من القرن الماضي جرت محاولات عربية شتى لجعل هذه الصناعة عربية من كل جوانبها، وكانت قرارات التأميم هي المدخل لتلك المحاولات. لكن كل تلك المحاولات، وما تحقق منها في أرض الواقع العربي، قد انتكست بشكل مفجع في السنين الأخيرة. وها أن شركات البترول الأجنبية التي غادرت في الخمسينات والستينات تعود اليوم لتهيمن على صناعة البترول العربية استكشافاً وضخاً وتكريراً وتسويقاً وإدارة وتطويراً تكنولوجياً واحتكاراً لعلوم الحقل، في حين ضمرت الشركات العربية القديمة الواعدة واكتفت الحكومات باستلام الريع البترولي وتوزيعه بالطريقة البدائية الكسولة إياها.اليوم يقف العرب على هوامش تلك الصناعة التي كان من المفترض أن تكون من مفاخر جهد وعبقرية العرب. وهو وضع في الواقع العربي شاهد على الطريقة المفجعة التي نتعامل بها مع عالم المعرفة.ذلك المثال يشهد على ما فعلناه في الماضي، فماذا عن الحاضر والمستقبل؟ لنأخذ مثال الإمكانات الهائلة في ما يعرف باقتصاد المعرفة، وهي تهيئ فرصة تاريخية لفك العرب طوق التخلف الذي يحيط بهم. والانتقال إلى اقتصاد المعرفة لا يتطلب المرور بالاقتصاد الصناعي الإنتاجي الكلاسيكي المعروف، أي أن بالإمكان القفز إليه مباشرة. إن مرتكزات تقانات المعلومات والاتصال، من خطوط للهواتف والكمبيوترات وشبكات الإنترنت، لم يعد اقتناؤها بالأمر الصعب والمعقد، وكذلك الأمر بالنسبة لتعليم وتدريب مستخدمي تلك التقنيات للاستفادة منها.لكن الإشكالية ليست هنا، إنها تكمن في عملية توطين واستنبات لكل ذلك في البيئة العربية وتطوير كل ذلك لملائمته مع حاجات البيئة العربية، وأول الشروط الضرورية لذلك هو المسألة التي أصبحت تمثل إحدى المخاطر الكبرى في الحياة العربية، وهي مسألة اللغة العربية تعليماً ونشراً واستعمالاً وتطويراً وتفاعلاً مع لغات وفكر الآخرين من خلال برنامج ترجمة نشطة من وإلى اللغة العربية ومن خلال تطويع مستمر ومبدع للتقانات لتتلاءم مع طبيعة اللغة العربية.إن كل ذلك يحتاج لقرار سياسي على المستويين الوطني والقومي، ولتشريعات منظمة للعملية برمتها. ولبناء مؤسسات تحتضن وتطور تلك المبادرة، ولتعاون وثيق بين القطاع العام الذي يجب أن يرصد المال الوفير والدعم اللوجستي في المراحل الأولى، والقطاع الخاص الذي يجب أن ينقل كل ذلك إلى عوالم الاقتصاد الوطني الإقليمي والدولي.إن كل ذلك سيتطلب أن تتوقف الدول العربية البترولية، وهي التي لديها الفوائض والإمكانات المالية، من تبديد تلك الفوائض في المضاربات العقارية ومضاربات البورصات المحلية والعالمية وفي مظاهر الاقتصاد الخدمي التفاخري، وتوجيه تلك الفوائض لبناء الاقتصاد المعرفي الذي بدوره سيسهم في بناء مجتمع المعرفة. دعنا هنا نذكر أنفسنا بتجربة دولة نامية كالهند في جعلها مدينة بنجلور إحدى أهم المحطات الدولية في التواصل المعرفي وفي إنتاج البرمجيات وتطويرها.إن الهند اعتمدت على قوى بشرية وطنية مؤهَّلة من الداخل والخارج، ودول البترول العربية تستطيع أن تفعل الأمر نفسه لو أنها أرادت ذلك. لدينا المال لبناء أفضل الجامعات ومراكز البحوث، ولدينا البشر الراغبون في نقل مجتمعاتهم إلى رحاب عوالم المعرفة، ولم يبق إلا توفر الإرادة السياسية العربية العصية على البناء بشكل مفجع مع الأسف. وكما تعثرنا في ساحة صناعة البترول والغاز فإن الخوف يسيطر علينا من إمكانية التعثر في ساحة صناعة واقتصاد المعرفة، إنها عثرات أصبحت كوابيس في حياة العرب.[c1]* عن / صحيفة (الخليج ) الإماراتية [/c]