ساركوزي، الشاب قياسا بـ«عتاولة الديغوليين»، مثير للاهتمام في جوانب كثيرة، غير أن ما يشد في مسيرته الحافلة، القصيرة في عالم السياسة الفرنسي، هو مواقفه الجريئة، أو قل الهجومية، حول مشكلات الهجرة والمهاجرين.الرجل هو الذي أطلق مصطلح «الإسلام الفرنسيش قاصدا بذلك أن يوجد مسلمو فرنسا نموذجا خاصا بهم لا يخضع لقراءات وتفسيرات للإسلام آتية من الخارج.قال ذلك أثناء توليه حقيبة الداخلية، حينما كان يحضر اجتماعا لاتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا في ابريل 2003. وهو من أجل ذلك «ابتدع» مجلس الديانة الإسلامية في فرنسا، من اجل حصر مرجعية المسلمين الفرنسيين في جهة واحدة.كانت علاقته بالمسلمين المهاجرين جيدة، فقد نظر إلى خطواته باعتبارها مسعى حميدا باتجاه إنصاف المسلمين، وتطبيع حضورهم، خصوصا انه هو ابن مهاجر مجري.لكن صورة ساركوزي بدأت بالتجهم، خصوصا بعد تصريحاته الشهيرة التي قالها بعد حوادث شغب الضواحي الباريسية (خريف 2005) عن «حثالات فرنسا»، وقبلها طبعا مشكلة منع الحجاب في المدارس.وضع المسلمين الفرنسيين، الذين يقدر عددهم رسميا بحوالي 6 ملايين، ويقدره المسلمون بحوالي 10 ملايين، هو وضع ساخن، ومشكلاتهم تشكل منطقة تجاذب بين مرشحي الرئاسة الفرنسية، ورغم أن المتوقع هو ذهاب أصوات عرب فرنسا ومسلميها لصالح اليسارية رويال، الأمر الذي انتبه له حزبها فبدأ بالتودد للمسلمين والمهاجرين، إلا أن رويال لم تسلم من النقد والنقمة بعد تصريحاتها المعارضة للحجاب أخيرا.ما يهمنا هنا في هذا السياق، ليس مصير انتخابات الرئاسة، ما يهمنا هو تناول مشكلة « الإسلام الفرنسي» أو «الإسلام الأوروبي» بشكل عام، والأخير «الإسلام الأوروبي» هو مصطلح روجه وتحمس له المفكر السويسري من أصل مصري، وحفيد مؤسس الإخوان المسلمين حسن البنا، أعني المفكر طارق رمضان.ساركوزي ليس أول سياسي أوروبي يدعو إلى إيجاد نموذج إسلامي خاص بمسلمي أوروبا، خصوصا ان هؤلاء المهاجرين المسلمين أصبحوا الآن أوروبيين بالجيل الثالث، ويشكلون نسبة كبيرة في أوروبا، وهناك تقديرات تتحدث عن حوالي 24 مليون مواطن مسلم في دول أوروبا الغربية فقط، ناهيك من أوروبا كلها.فهل تؤثر حقيقة وجود هؤلاء المسلمين، الذين وصلوا الى الجيل الثالث، أو الرابع حتى، على كيفية فهمهم للإسلام، وهل يتأثر الفهم للإسلام بالمحيط المكاني والظرف الزماني؟هذه أسئلة حقيقية وليست ترفيهية، ولا اعتقد أن أحدا يقول بوجوب سعي مسلمي أوروبا، ولنقل فرنسا مثلا، إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وفرض الضوابط المطلوبة في الملابس والنمط الاجتماعي، فكل الإسلاميين، ولا أقول المسلمين فقط، كل الإسلاميين (إلا القاعدة)، كل يقرون بأنه لا يجب على مسلمي أوروبا السعي لتطبيق الشريعة الإسلامية، ونحن نعرف أن مطلب إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة هو جوهر الجواهر بالنسبة للخطاب الإسلامي السياسي، فلماذا أصبح في حالة مسلمي أوروبا أمرا ملغى ومهملا ؟! ببساطة لأنهم: مسلمون في أوروبا ! الغرض من هذه المقدمة هو أنني كنت أشاهد الشيخ يوسف القرضاوي في حلقته الأخيرة من برنامجه العتيد «الشريعة والحياة» في قناة «الجزيرة»، وكان يرد بحماسة على فكرة الإسلام الأوروبي أو الفرنسي، محتجا بأممية الإسلام وعالميته، وان هذه الدعوات ضد عالمية الإسلام... وأفكار أخرى من هذا القبيل طرحها الشيخ المثير للجدل. القرضاوي تحدث عن أن عالمية الإسلام لا تعني أنه لا يوجد اختلاف في التفاصيل، ولكن الأصول الإسلامية الإجمالية واحدة، هكذا قال.وأنا هنا أقول إن مشكلة مسلمي أوروبا هي في التفاصيل، فإذا كان الشيخ القرضاوي نفسه يرى أن مسألة «النقاب» وهو تغطية كامل وجه المرأة، هي مسألة فرعية، وهو لا يرى النقاب أصلا، أو كما قال في خطبة الجمعة التي ألقاها في جامع عمر بن الخطاب في الدوحة في (3 نوفمبر 2006): «أنا لست من أنصار النقاب.. لكني من أنصار الحرية».إذا كان هذا رأي الشيخ في النقاب، وهو بهذا القدر عنده من الهامشية، فإن الأمر ليس كذلك في مكان آخر، فوفق استطلاع لمؤسسة «غالوب» صدر أخيرا حول وضع المسلمين في بريطانيا، ونشر في «الشرق الأوسط» ، فإن مسألة ارتداء بعض المسلمات للنقاب فرقت بين البريطانيين، من مسلمين وغير مسلمين. فبينما رأى 87 في المائة من المسلمين أن ارتداء النقاب لا يعيق الاندماج في المجتمع، اعتبر أكثر من نصف البريطانيين أن النقاب عائق أمام الانخراط في المجتمع.فها نحن، أمام تفصيل صغير، كما يراه القرضاوي، ولكنه مسألة مهمة جدا في دلالاتها الاجتماعية وتأثيرها على فرص التلاقي والاندماج لدى مسلمي بريطانيا.الشيطان في التفاصيل كما يقال، والتنظير عن «وحدة الأصول الإسلامية» و«وحدة المصادر والتصورات» كل هذا كلام غير محدد، وعند التطبيق على ارض الواقع تبرز مشكلات أخرى.ولا يجوز أن نستهين ببعض المسائل بحجة أنها فرعية وصغيرة، مثل مسألة النقاب، فانطماس وغياب وجه امرأة بالكامل في مجتمع مثل المجتمع الفرنسي او البريطاني، ليس مسألة تفصيلية بالنسبة لتأثيرها على فكرة الاندماج وإذابة الهواجس والقلق، فالزي بحد ذاته رسالة، وأي رسالة.هذا مجرد مثال، تفصيلي، نجاري فيه لغة الشيخ القرضاوي، وإلا فإنه هو نفسه يعرف تأثيرات الزمان والمكان والسياسة والاقتصاد على أي قراءة للاسلام تنتجها مثل هذه الظروف.هو سخر من فكرة «مصرنة الإسلام» نسبة لمصر، أو «مغربة» الإسلام نسبة للمغرب، وعليه فهو سخر طبعا من فكرة الإسلام الفرنسي، وما شابه هذا. وهي سخرية في غير محلها طبعا، فكما أن هناك فروقا واختلافات بين قراءة الإسلام لدى المسلمين أنفسهم، وتكونت مذاهب وطوائف إسلامية في الماضي بسبب ظروف وثقافة ومصالح كل طرف، ففي الحاضر الظروف أكثر، والمصالح أوضح تضاربا من الماضي، فما المانع من «إسلام على المذهب الأوروبي» أو قل الطائفة الأوروبية، مثلا؟!وللعلم، فإن الشيخ القرضاوي هو «رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء»، ولا أدري لماذا خصص لمسلمي أوروبا خطابا إفتائيا وفقهيا خاصا بهم، ألا يمكن أن يكون ذلك مدعاة لحصول الفكرة نفسها التي سخر منها الشيخ ؟! فيصبح لدينا إفتاء أوروبي وإفتاء إفريقي، وآسيوي... وهكذا.هل سيقال إن ذلك جاء بسبب مراعاة الظروف الخاصة هناك للمسلمين، فليس من المعقول أن نطبق عليهم ذات الفتاوى التي نطبقها على مسلمي مدينة الرياض أو طنطا ؟!لكن، ألا يقال، ومن نفس هذا المنطلق، إن خطاب المسلمين الحضاري، وفكرة وجودهم هناك، وتحولهم بالفعل إلى مواطنين كاملي المواطنة في بلدان أوروبا، تتطلب «تجديدا» فقهيا وعقلانيا شاملا، يجيب على الأسئلة المركزية، التي تختلف حتما مع مرتكزات الخطاب الإسلامي السائد لدينا في العالم الإسلامي.بمعنى: أن تطرح بشكل جذري فكرة الدولة الإسلامية، وتتحول الفكرة، لدى مسلمي أوروبا، إلى إيمان نهائي بمدنية الدولة، وأن لا يصبح هذا التحول للدولة المدنية من قبيل العمل « المؤقت» حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، بل يصبح اجتهادا أصيلا وفكرة نهائية، بسبب الفلسفة السياسية التي قامت عليها الدول والمجتمعات الأوروبية الغربية. وعليه يصبح هذا الذهاب لفكرة الدولة المدنية العلمانية معنى من معاني الإسلام الأوروبي الذي نتحدث عنه هنا. قد تكون هذه الخلاصة جريئة وضخمة، هذا صحيح، ولكن واقع المسلمين هنا أيضا معقد وضخم وخطير ومثير، فطبيعي انه في مثل هذه الظروف الاستثنائية تولد الأفكار الاستثنائية، تماما كما أن الماس النفيس يخلق في أعماق الصخور والضغط الاستثنائي !بكل حال، فإن عالمية الإسلام التي يتخوف عليها الشيخ القرضاوي، لا بأس عليها، وهي تتجلى أكثر في كون الإسلام، بسبب شموله وإمكانيات الاستجابة الكامنة فيه، لديه القدرة على أن يكون في أعماق نجد والصعيد وجبال الأطلس، وفي نفس الوقت يكون في شوارع باريس وحدائق لندن وجامعاتها، حاضرا، جذابا، وفعالا، هذه هي العالمية الحقيقية، وليست توهم أن قراءة معينة له هي العالمية. ومن يدري؟! ربما يفيد الأبناء المهاجرون أهلهم، ويقدمون لهم نموذج خلاص حقيقي، بعد أن تعب الأهل وأتعبوا الابناء معهم!في النهاية، لسنا معنيين بساركوزي ولا منافسته رويال، ومن المؤكد أن كلا من المرشحين يتعاملان مع الموضوع الإسلامي في فرنسا من زاوية المصالح السياسية، ولكن نتحدث عما هو أهم من ذلك، وهو: فتح الأفق المسدود من اجل استخراج إمكانات التطور والنماء والتفاعل داخل الإسلام نفسه، حتى يصبح الإسلام والمسلمون قوة تغيير ايجابي، لا مصدرا للخوف والجدل، أعرف أن هناك نماذج كثيرة تبعث على الأمل والبهجة لـ«مواطنين» مسلمين في الغرب، شكلوا صورا بهية على: أي إسلام نريد. ولكن جنبونا السياسة، واخرجوا مصائر الناس من حلبات التصارع بين اليمين واليسار، ومن بين الحاكم وخطيب الجمعة، حتى تبقى فسحة تنفس للناس العاديين.[c1]كاتب سعودي [/c]