أحمد الحبيشي :في زمن غير منسي من التاريخ الحديث للتشطير ، وحينما كانت الدولتان الشطريتان تقيمان في اللاوعي ، تولت الأيديولوجيا مهمة مصادرة السياسة وتأميم الوعي في أن واحد .. فأصبح الدور الوظيفي للمجال السياسي تابعاً للأيديولوجيا السائدة في كل من الدولتين اللتين تموضعتا خارج السياق الموضوعي لجغرافيا الوطن الواحد وضمير الانسان الحي .. بمعنى أن الثقافة السياسية فقدت مضمونها الوطني الذي يجعل منها ضميراً حياً للوطن المجزأ ومرآة صافية لوجهه الشرعي الواحد !! وفي زمن غير منسي- أيضاً - اندلعت حرب فبراير 1979م بين الشطرين لتقدم دليلاً إضافياً على عجز ثنائية التشطير والأيديولوجيا عن الخروج من مأزقها الذي يتمثـّل بدوره في العجز عن إيجاد حل سحري يمنع وقوع الحروب الشطرية والأزمات الدورية ، ويحافظ على التجزئة الكيانية في آن واحد.ومما له دلالة عميقة أن تكون حرب فبراير 1979م آخر المحطات الخطرة لتلك الثنائية ، حيث انتهت تلك الحرب بتحولات نوعية في مجرى العلاقات بين الدولتين الشطريتين من جهة ، وكذلك في مجرى العلاقة بين الممارسة السياسية والثقافة السياسية من جهة آخرى . أسهمت سياسة الرئيس على عبد الله صالح - منذ وصوله إلى الحكم في يوليو 1978 في إعادة تشغيل مفاعيل العمل الوطني بهدي أهداف الثورة اليمنية ، التي اعاد الاعتبار لتاريخها وجدد زخمها من خلال إطفاء بؤر الحروب الأهلية وطي صفحات الصراعات الداخلية ، والحرص على الانفتاح والتسامح والقبول بالأخر ، والبحث عن القواسم المشتركة والسعي لتغليب قيم الحوار على ما عداها من القيم السائدة ، الأمر الذي أفسح الطريق لتأسيس ثقافة سياسية مستقلة عن هيمنة الأيديولوجيا وسلطتها . وبقدر ما أسهمت توجهات حقبة الرئيس على عبد الله صالح في تأسيس ثقافة سياسية جديدة ، بقدر ما أصبحت هذه الثقافة عنصراً فاعلاً في بنية الثقافة الوطنية التي نهضت لتخليص سؤال الوحدة من سلطة الآيديولوجيا ، فقد تميزت هذه الحقبة بإصرار الرئيس على عبد الله صالح المتواصل على ممارسة تعب البحث عن اجوبة جديدة على الأسئلة التي تطرحها الحياة المعاصرة بكل متغيراتها وتناقضاتها ، بعيداً عن الأجوبة الجاهزة والحلول المعلبة ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه المهمة تبرز على الدوام في الظروف الإستثنائية التي تشهد متغيراتٍ عاصفة ومتسارعة ، وجراحاً غائرة ، وعوامل كبحٍ لا يـُمكن تجاوزها بدون التخلص من قوالب التفكير المألوفة ، وطرائق العمل القديمة . وكما أن الظروف تتغير باستمرار ، فإن الحقــيقة تظل نسبية وليست نهائية ، والوصول إلى الحقيقة ليس سهلاً ولا بسيطاً .. ولذلك فإن النخب التي تعتقد أن الحقيقة النهائية في أيديها ، ولا ينبغي التعب من أجل البحث عنها يومياً ، بل يكفي تناولها من الملفات الجاهزة ، أو تقارير الأجهزة أو الكتب القديمة أو الوثائق الحزبية أو الشعارات الشعبوية ، إن النخب التي تعتقد بذلك ، لا شك في أنها تخاطر بفقدان مقدرتها على التجدد والاستمرار ، وتغامر بضياع مستقبلها السياسي وبعدم قدرتها على أن تكون طليعة سياسية في المجتمع . ولأنه ليس كذلك فإن الرئيس علي عبد الله صالح تصرف طوال تلك الحقبة التي أشرنا إليها ، على نحو أضحى فيه مسكوناً بهموم البحث المستمـر عن الحقيقة ، ومحاولة إعادة اكتشاف واقع بحاجة مستمرة إلى المزيد من الكشف . من نافل القول أن الرئيس صالح دأب على التواصل الحي مع العديد من قادة الشطر الجنوبي والقوى السياسية ورموز المجتمع المدني وممثلي الفعاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلاد ، وذلك بهدف التشاور والتنسيق والتعرف على وجهات النظر المختلفة ، والتفاعل مع ما يراه ممكناً وضرورياً من الرؤي والتصورات .. وقد جسد الرئيس بهذا السلوك التزاماً غير مسبوق بقواعد الممارسة الديمقراطية تجاه المجتمع ، حيث لا فرق بين مؤيديه ومعارضيه وخصومه ، بمن فيهم أولئك الذين قاوموه بالسلاح منذ وصوله إلى الحكم عام 1978م . بهذا السلوك أسهم الرئيس علي عبد الله صالح بقسطه في تأسيس ثقافة سياسية جديدة ، يستحيل بدونها معافاة جراح الصراع السياسي السابقة ، وصياغة مشروع وطني للتغيير يجسد روح وأهداف الثورة اليمنية ، ويتجاوز رواسب المشاريع القديمة التي تميزت بالإفراط في افتراض تمثيل الحقيقة ، والاستغراق في إجترار ثقافة الإلغاء والإقصاء التي كانت على الدوام نقيضاً للحرية وصنواً للاستبداد وعدواً للمعرفة ، بعد أن أفرطت في فرض وصايتها على العقل والحقيقة من خلال إضفاء القداسة على الآيديولوجيا السياسية بمختلف طبعاتها وتلاوينها الدينية والطبقية والقومية على حد سواء . ما من شك في أن التيارات السياسية والفكرية في اليمن تكاد أن تكون إمتداداً لتيارات مماثلة لها في الساحة العربية التي شهـدت تجارب مأزومة ومشوهة ، افرزتها المشاريع القديمة بعد أن طبقت على الصعيدين النظري والعملي أفكاراً وشعارات قومية واشتراكية وإسلامية . والحال إن المشاريع القديمة التي نقصدها كانت قد وصلت إلى سد الحكم في بعض البلدان العربية أن لم نقل معظمها بوسائل الاستقواء بالقوى الأجنبية أو الإنقلابات العسكرية ثم خسرت في نهاية المطاف وهجها وبريقها.لم تتوقف الآثار السلبية لتلك التجارب الخاسرة على إضعاف حيوية المجتمع العربي وتهميش قواه الحية ، بل امتدت لتصيب بدائها العضال مختلف النخب الحاكمة في تلك البلدان التي نكبت بتجارب شمولية فاشلة ، وعجزت عن تقديم نموذج قابل للاستمرار والتجديد ، وانتهت إلى إفلاس سياسي وفكري وثقافي تكونت على تربته الهشة أزمات وانهيارات مدوية ، مقابل بروز مخاطر وتحديات عديدة ، لا يمكن مواجهتها بدون إمتلاك مشروع جديد للتغيير يقوم بالدرجة الأولى على قاعدة تحرير السياسة من ثقافة الاستبداد والإلغاء والإدعاء باحتكار الحقيقة.وأخيراً بوسعنا القول ان الرئيس على عبد الله صالح ما كان لينجح في تكليل العقد الأول من فترة حكمه بمبادرته الوحدوية التاريخية “ التي عرضها على قيادة الشطر الجنوبي من الوطن في نوفمبر 1989 م ، وتدشين عقده الثاني بميلاد الجمهورية اليمنية والتحول نحو الديمقراطية في 22 مايو 1990 ، لولا إدراكه المبكر والواعي لأهمية تخليص السياسة من سلطة الآيديولوجيا ، وتجنيب البلاد مخاطر التحول إلى ساحة مكشوفة للإستقطابات الدولية والأقليميه .