قصة قصيرة
جفا النوم ولدي فطلب مني أن أحكي له قصة.. كالقصص التي كنت أحكيها لهُ في طفولته.. أجبته موافقاًَ واستطردت قائلاً: القصة التي سأقصها عليك (قصة تيس معبق)، فوافق، فقلت:المكان «معبق» مركز حدودي بين لواء تعز وسلطنة لحج (سابقاً). الزمان عام 1963م في الطريق الذي يصل الشيخ عثمان (من مدينة عدن) بالمنطقة الحدودية، مروراً بطور الباحة إلى شمال الوطن (سابقاً)، وكالعادة، السائق (طه شمسان المكابري) - للسيارة اللندروفر - الذي تعوَّد على السفر فيها بصورة شبه يومية، عند الغروب، وهو عائد إلى مسكنه في منطقة معبق.. وعلى غير العادة لاحظ طه رتلاً من السيارات العسكرية البريطانية تتجه نحو منطقة معبق (حيث يسكن)، ارتاب طه- من ذلك المنظر الذي لم يسبق أن رأى مثله في هذه الناحية، تملكته الدهشة، وحينها أدرك بفطرته ووعيه.. أنَّ الهدف لهذه الحركة العسكرية البريطانية لن يذهب بعيداً عن السيطرة العسكرية على قلعة المقاطرة..فكَّر طه في الأمر وعلى الفور قام بمجازفة « خارقة» وهي قطع الطريق، عبر الصحراء لكي يصل معبق قبل وصول الإنجليز - وفعلاً وصل قبل الفجر.. أطلق طه صوته المجلجل ورجليه الضاربتين للريح في طرقات معبق، كان يطرق أبواب منازلها.. ليخبر المواطنين بما رآه وماهو قادم من خطر.. فما كان من المواطنين إلاَّ أن لبَّوا النداء ونهضوا نهضة رجل واحد في فجرٍ سجله التاريخ.. يوماً من أيام البطولة والفداء للوطن ضد مستعمر غازٍ طامعٍ..حمل المواطنون (وهم ثلة من الرجال.. وقليل من النساء والصبية) بنادقهم القديمة وبعضاً من الفؤوس والعصي في وضع دفاعي على شكل كمين عند وادي معبق ضد القوة الغازية.. أخذ طه ورفيق له يدعى (العرَّاط) وضع الانبطاح في ساقية أرض زراعية.. توزَّع الآخرون في أماكن مختلفة من الوادي.. وعند دخول القوة الغازية الوادي صبَّ المواطنون النار عليهم فكانت مفاجأة لهم حيث قُتل قائدهم وهو برتبة (ميجر) كما يُدعى، وجُرح عدد من الجنود وفرَّ الآخرون.. غير أن عدداً من الجنود استمروا يقاومون ليسحبوا جثة القائد القتيل والآخرين من الجرحى وقد تمكَّنوا.. بحكم فارق العتاد العسكري من ذلك. عَلِق خمسة جنود ومرافقتان صحيتان في شعب جبل قريب من موقع المعركة.. استمرت المعركة حتى طلوع الشمس، واستطاع المواطنون أسر الجنود الخمسة والمرافقتين الصحيتين وسيارتين تحملان مواد غذائية مختلفة وأدوية ومواد إسعافية وكذلك الأسلحة التي كانت بحوزتهم...أطلق طه صرخة الانتصار.. (وكانت صرخة استشهاده). قال ولدي كيف يا أبي؟! قلت له: وبحسب رفيقه العرَّاط.. عند لقائي به بعد زمن طويل ممَّا حدث.. قال: إنَّ طه جاءته رصاصة من الخلف (في ظهره) بينما كنَّا معاً في وضع الانبطاح - ولحظة النصر قد لاحت - صرخ طه.. ملتفاً بجسمه واضعاً ظهره مكان صدره وفيه بضع نفس من الروح موجهاً بندقيته في اتجاه مسار الرصاصة الغادرة.. وعيناه تبحثان عن الغادر.. عندها لفظ أنفاسه الأخيرة، وفارق الحياة فكان الشهيد.. واستمر مضيفاً: أذهلني الموقف فتحركت كي أتفقده، وحال رفع رأسي أصابني أحد الجنود بطلقة هشمت فكيَّ وسحقت ضروسي ثم أُُغمي عليَّ - وبينما العرَّاط يروي كنتُ أتطلَّع إلى أثر إصابته.. أضاف العرَّاط قائلاً لي : هل تعلم أنني في اليوم السابق للمعركة رأيت في منامي أني أصلَّي مأموماً بطه..؟ عرفت معنى الرؤيا بعد أن شفيت من الإصابة، إنه (أي طه..) الشهيد.. وأنا المقتدي مصاب خلفه..علمتْ قيادة الثورة في صنعاء بما حدث.. وبلسان حالها.. أشادت بالموقف البطولي لمواطني منطقة معبق وأشادت بالشهيد طه شمسان المكابري وعزَّت أهله، ثم وعدت قيادة الثورة (آنذاك) بالقيام بالواجب تجاه أسرة الشهيد وأسر الجرحى الآخرين من مواطني معبق لتصديهم البطولي للقوى الغازية.. كما تناولت أجهزة الإعلام.. هذه المعركة أبعادها وأهدافها..أما السلطات البريطانية في مدينة عدن (آنذاك) قد صرَّحت بأن هذه المجموعة من الجنود قوة استطلاعية حدودية أخطأت الطريق فوقعت في كمين.. وأعربت عن أسفها لما حدث وقدمت الاعتذار لحكومة الجمهورية العربية اليمنية (آنذاك) ومواطني منطقة معبق، وطلبت من الحكومة اليمنية تسليمها الأسرى.. وبعد اتصالات غير مباشرة.. تسلمت السلطات البريطانية في عدن الأسرى... أظهرت أجهزة التلفاز البريطانية والأوروبية مشاهد تسلُّم الأسرى وأظهرت أيضاً تيساً أسود اللون بمعية الأسرى.. كان أهالي معبق قد أهدُوه للأسرى المسرَّحين لإظهار الجانب الإنساني والحضاري لهم..كان ذلك الفعل مثار ابتهاج المغتربين اليمنيين في الغرب وبالذات في بريطانيا.بحسب قول أحد المغتربين لوالدي -، أخبرني أحد الزملاء التربويين (رئيس قسم الورش والبولوتكنيك في الثمانينيات من القرن الماضي بمكتب التربية..) والذي كان يعمل سابقاً في (A- F) القوى الجوية سابقاً في خورمكسر إبَّان الاستعمار البريطاني... أنه كان يعرف القائد القتيل.. حيث كان محل تقدير واحترام من القادة البريطانيين الكبار... ولذلك كان حزنهم شديداً وكبيراً... واعتبروه خسارة فادحة لهم.اتخَّذت القيادة البريطانية قراراً باعتبار التيس الهدية - والذي سمي بتيس معبق فيما بعد - بديلاً.. يحمل نفس رتبة ذلك القائد ( المفجوعين به..) ووضعت له حراسة خاصة تتكون من جندي وكلب.. بالإضافة إلى الاهتمام والتدريب الخاص، وأثناء الطابور الصباحي تُعطى له التحية... ويعامل معاملة القادة احتراماً للرتبة العسكرية (وتذكاراً لفقيدهم).وفي أحد الأيام .. في غفلةِ الحارس الجندي، انقض الحارس الكلب على القائد التيس وأنشب أنيابه في رقبة التيس فمات على الفور إثر نزيف حاد من الوريد.. (علَّق أحد الخبثاء أنَّ فعل الكلب غيرة وليس تعبيراً عن الجوع فكلاب بريطانيا شبعى)، أستمر الزميل التربوي.. يروي لي.. بأنَّ الحراسة المكلَّفة للتيس في المعسكر ارتبكت، فأرادت أن تخفي ما حدث كي تتحاشى غضب القائد العام لقيادة القاعدة العسكرية لمنطقة الشرق الأوسط - والتي كان موقعها عدن - فأرسلوا من يبحث لهم عن تيس بديل يحمل نفس المواصفات.. وقد كان ذلك، فأُخفي الأمر ونقلت الرتبة العسكرية إلى التيس البديل، وتعهدوا بتدريبه واهتموا بأمره حتى جاء يوم العرض العسكري العام وبحضور القيادة القاعدة.. لم يلحظ الحاضرون أي فارق... عندها تنفست الحراسة المغدور بها الصعداء.قال لي ولدي: هل انتهت القصة يا أبي؟قلت له: نعم، قال: القصة أطارت النوم من عيني!! وأضاف قائلاً: أنا أستغرب كيف مات التيس بهذه البساطة؟!قلت له: هذه عضة كلب - غيور غادر حاقد - بريطاني.قال: إذا كان الأمر كذلك... لا بأس، واستطرد متسائلاً: المهم تيوسنا اليوم في مأمن؟ زمان كان القتل والاغتيال بواسطة الكلاب، واليوم نسمع عن أساليب جديدة... عدوى أنفلونزا الطيور ثم.. الخنازير والعالِم الله ما هو القادم؟! الفيروسات أشكال وأنواع يا أبي، والموت بالجملة!!قلت له: اطمئن، الله سوف يحمي تيوسنا، وثروتنا الحيوانية، وسيحفظ إنساننا قبل كل شيء من كل مكروه يأتي من أي اتجاه كان وطالما عرفنا من أين أتت وستأتي الرصاصة الغادرة، وعضة الكلب الغادر وكذلك الفيروس المرسل.. وعملنا على إحباطها.. وكلها أساليب غدر وحقد مآلها إلى الزوال... ودم التيوس هو الباقي في الذاكرة على الأرض التي سُقيتْ به - بعد أن لفظت المستعمر وزال استبداده :قال: زدني قصة أُخرى يا أبي: قلتْ يكفي يا بنيَّ.. قد قارب الفجر أعدك أنني في الغد سأقص عليك قصة الشبل الذي لا يعرف أن أصله من أسد... وجده كان ضرغاماً في القلعة..