اقواس
لقد أصبحنا مستوردين للعصرية وأدواتها، ولكن علاقتنا بمظاهر التقدم هي علاقة استعمال وليست معايشة وخلقاً وابتكاراً، ونحن بالتالي نعيش العصر بعقلية وثقافة قديمتين، وليس بعقل العصر وثقافته.وهكذا يبدو أننا وسط انشغالنا بقضايا كثيرة قد أصابنا الارتباك فلم نعد قادرين على تحديد ما هو مهم، وما هو أهم، وأصبحنا غارقين في كم من التفاصيل الصغيرة لمختلف جوانب حياتنا، ومنشغلين في خلافات، واتهامات. وكلما استغرقتنا هموم الحاضر غاب عنا أفق المستقبل. ورغم أن العالم يطل على القرن الحادي والعشرين بعقل جديد، وثورات علمية ومعرفية وتقنية عديدة في مجالات شتى، فإننا مازلنا نعيش بعقلية قرون مضت.إن أخطر ما ينتقل إليه عالمنا هو هذا التحول الهائل في أثر المعرفة، وقيمة المعلومات، وآثار البحث العلمي ونتائجه على المجتمع كله، بنظم تعليمه، وهياكل كل إنتاجه، وشكل الإنتاج، وكيفيته، قد أصبحت قضية تشغل العالم المتقدم، لكي يستطيع مواكبة هذا التغيير الجذري الذي يحدث.والغريب في الأمر أن العالم الصناعي المتقدم أصبح ينظر إلى العمالة - أي العنصر البشري - نظرة قاصرة، ولم تعد - في نظره - تمثل قيمة كبيرة في العمل والصناعة، بعد أن تطور في صناعة الروبورت أي الإنسان الآلي، وأجهزة الحاسوب الآلي (الكمبيوتر)، وتقنية المعلومات. وبذلك أخذ في التحول التدريجي من الصناعات ذات العمالة الكثيفة إلى الصناعات ذات المعرفة الكثيفة.وعند هذه النقطة تتضح ملامح الخطر القادم الذي يتهددنا، والذي سوف يحكم علينا بالتخلف سنوات أخرى طويلة، إن لم نلحق بالركب.فالمعرفة التقنية الحديثة تمثل الآن 70 % من قيمة إنتاج قطع الكمبيوتر، مقابل 12 % للعمالة، وتمثل أيضاً 50 % من قيمة إنتاج الأدوية، مقابل 15 % للعمالة.وهكذا - في عديد من قطاعات الإنتاج والصناعات الحيوية - تتزايد القيمة النسبية للمعرفة، وتتضاءل قيمة الكم البشري. والمعرفة ليست نتاجاً ذهنياً لفرد، ولا معلومة يمكن تداولها عند مستوى ما من المجتمع، يتولى إدارة الحياة والتخطيط لها، لكنها عقل المجتمع كله، ونظمه، وقوانينه، وثقافته، وسلوكه.وما لم نكف عن كثير من القضايا والهموم التي تأكل حاضرنا، وتبعدنا عن آفاق المستقبل، ونتنبه لهذا التحول الذي ينتقل إليه العالم، فإن آفاق مستقبلنا لن تكون أبداً أفضل من حاضرنا.