قصة قصيرة
إنها القرية التي غادرتها منذ ما يزيد على عقدين من الزمن ذاكرة حية أعادت إلى ذهني تفاصيل كثيرة أعادتني إلى سنوات مضت ورسمت في ذاكرتي هيئات شخوص من رحلوا خلال هذه الفترة الزمنية التي أظنها قصيرة .. لكنها لاتبدو كذلك إذا ما قستها بعدد من غيبتهم يد المنون من سكان تلك القرية النائية البسيطة المحدودة السكان.رحل اخيارها بمن فيهم أبي طيب الله ثراه وأسكنه فسيح جناته .. وعدد ممن هم من جيله .. ممن لم يتعد بهم العمر العقد السادس في أحسن الأحوال.ترك رحيل عددهم أيما حسرة وحزن وجعل ذكرهم مقترناً بذلك الزمن الجميل الذي مضى معهم المقترن أهلاً بذوات أرواحهم المتسامحة..وإنسانيتهم الرقيقة العذبة ومحياهم النقية بمسحة الإيمان والرحمة.رحل جل هؤلاء..المصفرة وجوههم بتراب الأرض التي عتقوها حتى الثمالة..الزرع والحرث والابتهال إلى سماء..كانت تمثل استجابتها لتضرعاتهم مدداً من خير المطر الذي يعم قراهم ويبعث السكينة في نفوسهم،ويؤمن عيشهم وسط محيط الجبال الوعرة الفقيرة لا أدري كيف اخترت..رمضان لزيارة قريتي ربما لشيء في أعماق ذاتي ذاكرتي الواقعة تحت طيف من تلاوين الذكريات المرتبطة برمضان تحديداً بما في أيامه ولياليه من إشراقات السماء والنفوس المؤمنة والوجوه المبتهلة بقدوم خير الشهور رمضان الذي أنزل فيه القرآن هنا عن هذه الزاوية من منزلنا الأثري العريق الذي غير جذورها إلى ما قبل جد الجد الثالث للأسرة المنحدرة من بطون قبائل مأربية كما هو حال العديد من الأصول الأولى هنا كان مجلسي أبي طيب الله تراه..في أمسيات رمضانية..ما زالت نكهة عطرها فيضاً ربانياً يشنف حاسة شمي اقترنت كل الصورة بذكرى الزمن الذي مضى،وانقضى.حول مجلس أبي كان..نفر من أهالي قريتنا يقضون سهراتهم الرمضانية القصيرة..والتي تعد بمثابة تهجد خالص للمولى عز وجل..أو هي حلقات صوفية أكثر مما هي سهرات رمضانية على غرار ما هم اليوم..هنا كنا نرى الله..في أفق الغروب والشروق وفي ركام السحب والبرق كنا نلمسه في..حول الزرع،وعند نبع الماء..وعند جلنار الندى في كل شيء من حولنا..في نسمات الأرض وانبعاثاتها وعطر ترابها..وتلك السيمفونية العجيبة التي تحدثها ديدان الأرض من جحورها عند قدوم المساء في تسابيح الطيور وتلاوينها..بل كنت وأمثالي من أبناء القرية..نعيش قدراً من نفحات خير بني البشر الرمضانية في توادهم في هيئة (المنيحة) الرمضانية..وهي شاه تقدم من الميسورين للمعسرين في رمضان كي يستفيدوا من إدرار لبنها..في رمضان تحديداً..تأتي سكينة تلك التي كان يعيشها جيل الآباء وأي رقي بشري أمتلكوا في تفسير أمور حياتهم..متجاوزين في رمضان تحديداً ما قد سلف من مشاحنات بسبب خلافاتهم العابرة حول الأرض والمراعي..أي فرق بين صورة الأمس وحاضر اليوم ما جعلني أسأل هل حقاً،نشكل امتداداً..لهؤلاء الأسلاف؟عند مواضع عديدة أستوقفتني عقارب الزمن الذي مضى..حملني طيف الذكريات إلى ..تفاصيل الزمان والمكان..البشر والشجر والحجر كل شيء بدأ مخالفاً لما كنت قد رسمت للرحلة من أجندة مسبقة..بديت شائخاً شاحباً وجلاً..متكاكئاً..حزيناً..لكن ما اعتبرته تبديلاً في واقع الأمس مستجداً في حاضر اليوم بكل ما فيه من مفارقات..لا تقوى ذاكرتي التي أرادت تسير زمن النقاد والصفاء محاولة قدر الإمكان ربطه ولو جزئياً بحاضر اليوم الذي بدى متنافراً إلى درجة مهولة مع ما كان وما شاد في زمن خيارنا للأسلاف أضواء القرية الليلة..بدت متنافرة متباعدة اختفت حالات التراحم الرمضانية التي عهدتها رسم الدهر أو وخط..على وجه الحياة..التي بدت تائهة شائخة زالت معالم تلك النفحات الخيرية والتي كانت تجسدها نفوس بني بشير تجاه..بعضهم.طوفان الخصومات والمماحكات،والتنافرات..حاولت أن أسمو بذاكرتي إلى فضاءات أخرى وهمية..حتى أجد مبرراً لما جرى ويجري ا إلا أن تعابير من حول..بما فيها مرتجهم وافتقار إلى ما أعده مكارم الأخلاق في إروقتنا..ذرفت دمعة على قبر أبي،ومن جاوره من أهالي ضيعتنا..احتضنت معطف أبي بالتراب برائحة الأرض والزرع لا أجد نفسي..أعود خائباً حزيناً إلى أحضان المدينة التي أضنها ابتلعت الكثير قبلي.