مع الأحداث
أصبح أفراد مجتمعنا يشكون من كل شيء، فهم يشتكون من بعضهم، ومن الظروف ومن القوانين ومن سوء المعيشة ومن فواتير الماء والكهرباء والهاتف والمجاري الصحية ومن تلوث البيئة، وحتى الجو لم يسلم من الشكوى ، فلا البرد يعجبهم ولا الحر. أليس غريباً أن نتحول إلى مجتمع مدمن للشكاوى ؟ الكل فيه يشكو من كل شيء وأي شيء.فالطالب يشكو من المعلم والمعلم يشكو من المدير والأم تشكو من الأبناء ، والأب يشكو من الأم ومن مديره في العمل ، وهكذا سلسلة لا تنتهي من الشكاوى في كل مكان وفي أي مجتمع بشري ، ولكن لا أنكر أن لدينا الكثير مما يستحق الشكوى، ولكن الشكوى بحد ذاتها أصبحت هواية وخبرة وفنا لدى الكثيرين بين كل أفراد وطبقات المجتمع، الكثير يشكو من شكاوى حقيقية فعلا وموجودة على أرض الواقع ، ولكن أن يفتح الشاكي بابا لا يغلق في وجه الشكوى، شكاوى مستمرة ، ودون حوار حقيقي بين الشاكي والمشتكى منه، ودون أيضاً وجود رغبة حقيقية في حل سبب الشكوى من جذوره، ستتكرر الشكوى بكل تأكيد، خصوصاً إذا لم يكن هناك طرف آخر في الشكوى نتحاور معه ، ومع تكرارها ستصبح عادة يومية يتخللها كثير من المهارات. فها هو ذا طالب المدرسة من بداية السنة الدراسية وهو يشكو لوالديه من مدرس المادة الفلانية ، وتمر الشكوى على الوالدين مرور الكرام ، ولم ينتبها مطلقاً للحقيقة التي تقول إن الابن أساساً يكره هذه المادة، ولكنه لم يجد أمامه سوى المعلم كي يسقط عليه كل الكره الذي يحمله للمادة ، وحتى الطالب نفسه تمر عليه الشكوى طيلة السنة ولا يتوقف أمامها ولو للحظات كي يتساءل بعض الأسئلة - مثلاً - لماذا أشكو من هذا المعلم بالذات مع أنه يعاملني معاملة ودية طيبة، وحاول بكل السبل الممكنة مساعدتي في التغلب على ضعفي في المادة؟.هنا يتضح لنا أن هذه الشكوى الدائمة ومن شيء محدد، إنما هي غير إرادية ، تمر مرور الكرام من العقل الواعي المدرك فلا ينتبه لها ولا يعيها أويستوعبها ، إلا إذا حدث شيء جديد في حياة هذا الشخص وأوقفه وجعله يتوقف أمامه ، ويتساءل: لماذا أشكو ؟ كما أن الشخص الذي اعتاد الشكوى في حياته، هو شخص أسقط مهمات كثيرة ملقاة على عاتقه من خلال هذه الشكوى، ووضع عذرا منطقياً للفشل في هذه الأمور تحديداً ، فمثلاً هذا الطالب الذي أعتاد الشكوى من المعلم أسقط فوراً من عقله شيئاً يسمى ( المذاكرة ) لأنه وبكل بساطه قدم الآن عذرا منطقياً ، وأمام الجميع لعدم مذاكرته لهذه المادة بالذات ، وعذرا آخر منطقياً أيضاً إن هو رسب فيها. والآن ظهرت الشكوى الدائمة في حياتنا الاجتماعية بشكل أوسع واشمل وأعمق من ذلك، ولم تصبح حالات فردية فقط، بل أصبحت شكاوى شعبية أيضاً ، فالكل الآن يشكو من الأوضاع التي تعم البلاد من سوء المعيشة ، وارتفاع سعر البنزين ، وغلاء الأسعار، وأجرة المواصلات ، والبطالة ، وارتفاع نسب العنوسة، والطلاق، وغلاء المهور ، وصعوبة العثور على مسكن ، والقوانين والأنظمة ، نعم الكل أباح لنفسه الشكوى ، ولكن في المقابل أسقط أموراً كثيرة على حال البلد وجعلها عذراً منطقياً أمام نفسه ، وأمام الآخرين لسوء مزاجه ولمعاملاته السيئة لغيره، وللتكاسل عن أداء ما عليه من مهمات وواجبات أسرية واجتماعية ووظيفية، ظانا بذلك أنه يستطيع استغفال الآخرين بهذا السيل من الشكاوى. لذا أقول: الكثيرون منا - ولا أقول جميعنا - يشتكي ويشتكى ، وإن تذمرت منه ومن شكواه، حاصرك بهذا السؤال البغيض ( ماذا استطيع أن أفعل غير أن أشكو؟ ) ، ويؤلمني أن يملك إنسان عقلاً ، ثم يسأل ماذا بيدي أن أفعل ؟ بيدك العقل وبيدك نفسك وذاتك تملكها وحسبك ، وتستطيع من خلال ذاتك أن تفعل الكثير إن أنت أردت (حقيقة ) أن تفعل أي شيء ، فقط تحتاج أن توقف سيل الشكاوى وتفكر وتتساءل: ماذا استطيع أن أقدم لنفسي ولأسرتي ولوطني ؟ سؤال يستحق أن تقف أمامه طويلاً، ونبحث له عن إجابة ، بدلاً من أن يضيع المزيد من الوقت في شكاوى زائفة، أليس كذلك؟