د. قاسم المحبشي وفي العصور الحديثة اطلقت كلمة " الحضارة" على اوروبا، مقابل الآخرين غير المتحضيرين.اذ أن الكلمة ظهرت في ستينات القرن السادس عشر في فرنسا من قبل بعض المحلفين الفرنسيين امثال (جان بودان ولويز لوروي) بمعنى (تحضير وتهذيب Civlite civilise) وهي تصف الناس الملتزمين بالعمل وفق اشكال سياسية معينة وتكشف فنونهم ووسائلهم عن درجة من الكياسة والسمو ويعتبرون اخلاقهم وسلوكياتهم ارقى من اخلاقيات وسلوكيات غيرهم من ابناء مجتمعهم او المجتمعات الاخرى.. ومنذ القرن الحادي عشر فصاعداً، شاع وصف الشعوب والجماهير الفلاحية بما في ذلك سكان المستعمرات بأنهم اجلاف سذج محكوم عليهم بسبب وضعهم المتدني في المجتمع، بالغباء والخشونة وسوء السلوك " باتريون 20.واكتسبت كلمة الحضارة في اوروبا الحديثة معنى التميز والتفوق حيث جرى الاعتقاد حتى اواخر القرن التاسع عشر بأن اوروبا وحدها هي الحضارة والباقي يحتاج الى تحضير وكان الاستعمار مدفوعاً بهذا الحافز، ومن هنا تفهم قول ماركس في وصف اهل الشرق " انهم عاجزون عن تمثيل انفسهم ينبغي ان يمثلوا".على هذا النحو اكتسبت معنى كلمة حضارة دلالة عنصرية عرقية قومية تعصبية ومازالت حتى اليوم في كثير من الثقافات الراهنة.منذ بداية القرن العشرين بدأ نقد المركزية الغربية شبان الحضارات وكان اول ناقد كبير لها هو الفيلسوف الالماني اوزولد شينجلر 1938م حيث بين في كتابه " تدهور الحضارة الغربية" وجود عدد من الحضارات الجديرة بالاهتمام بالاضافة الى الحضارة الغربية هي الحضارات المصرية القديمة ، وحضارة بلاد الرافدين الاثورية والااكادية والبابلية والكنعانية والحضارات الهيلنية والحضارة الصينية والحضارة الهندية، والحضارة العربية الاسلامية والحضارة الرومانية، والحضارة السلافية الارثوذكسية الروسية والحضارة الغربية.ثم جاء ارنولد توينبي في عمله الشهير" دراسة للتاريخ" ليشدد النقد الى فكرة الحضارة الغربية المتمركزة حول ذاتها كاشفا عن عدد واسع من الحضارات الجديرة بالتسمية قدرها بـ 26 حضارة عقيمة ومتعطلة ومتعاقبة مخفقة وناجحة، زائلة ومستمرة.يقول لنا توينبي لقد كان الاعتقاد السائد في الغرب حتى اواخر القرن التاسع عشر ان الحضارة هي اوروبا وان التاريخ قد انتهى مع الامبراطوية البريطانية وانه لم يعد شيء جديد يمكن انجازه في التاريخ.ومثل هذا الاعتقاد يظهر اليوم في الامبراطورية الامريكية المنتصرة ، حيث ينهي فرانسيس فوكوياما في التاريخ ويذهب هنتجتون الى القول بأن الحضارة هي اوروبا واميركا في مقابل العالم غير المتحضر الباقي حسب تعبير"الغرب" والباقي قضايا التداخل الحضاري عنوان الفصل الثامن من كتاب " صدام الحضارات".غرضنا من وراء هذا السرد التاريخي هو التعرف على المعنى الذي منحه الكتاب للحضارة حيث وجدناهم يخلطون بين الحضارة والثقافة والمدنية والقومية والعرق والامة والمجتمع ككل ، ومن التعريفات التي تكرر في الكتب المدرسية تعريف الانجليزي ادوارد تايلو 1832-1917م في كتابه" الثقافة البدائية" الذي يطابق فيه بين الحضارة والثقافة بقوله " ان الثقافة " الحضارة " هي " كل مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والاخلاق والقانون والعرق وغير ذلك من الامكانات والعادات التي يكتسبها الانسان كونه عضواً في المجتمع " وقد شاع هذا المعنى الانتربولوجي للثقافة عند الدارسين العرب كتعريف للحضارة ورغم ان الالمان قد فرقوا بين الحضارة والثقافة ، الا ان هذا التفريق لم يكن موفقاً حيث يذهب ماكس فيبرالي " ان الحضارة تمثل العقل ولا وطن لها، اذ تنتقل نماذجها بسهولة من مجتمع الى آخر، اما الثقافة فأساسها العاطفة والقيم الروحية وهي تعبر عن روح الجماعة التي تنشئها وهي تقوم على الكمال الروحي والفلسفي والعاطفي".بيد ان معظم العلماء الامريكيين مثلهم مثل الفرنسيين لايفرقون بين لفظي الحضارة والثقافة بل ويخلطونهما بالمدنية، اذ استخدم الامريكي ديورنت في كتابه " قصة الحضارة" كلمتي مدنية وحضارة بمعنى واحد بقوله " نستخدم كلمتي (مدنية و حضارة) في هذا الكتاب بمعنى النظام الاجتماعي والتشريع الخلقي والنشاط الثقافي".ويرى الفرنسي تشايلد " ان المدنية هي حضارة المدن وان كل مايأتي من المدنية هو رمز ونتيجة للحضارة" ولايفرق ارنولد توينبي بين الحضارة والثقافة والمدنية والمجتمع، بل يستخدمها بمعنى واحد فالحضارة عنده هي الوحدة الاساسية في دراسة التاريخ العالمي اذ انها تعبير عن اوسع كيان بلغه المجتمع البشري ويرى الامريكي "برودل" انه " من المضلل ان نحاول على الطريقة الالمانية- فصل "الثقافة" عن اساسها الحضارة اذ ان الحضارة والثقافة كلاهما يشير الى مجمل اسلوب الحياة لدى شعب ما، والحضارة هي ثقافة على نطاق واسع" هنتجتون 69.ويرى هنتجتون ان التاريخ الانساني هو تاريخ حضارات ومن المستحيل ان نفكر به باي معنى آخر والحضارة هي الكيان الثقافي الاوسع، القرى والمناطق والجماعات العرقية والقوميات والجماعات الدينية.. وهكذا فإن الحضارة هي اعلى تجمع ثقافي من البشر واعرض مستوى من الهوية الثقافية يمكن ان يميز الانسان عن الانواع الاخرى ، وهي تعرف بكل من العناصر الموضوعية العامة مثل اللغة والتاريخ والدين والعادات والمؤسسات والتحقق الذاتي للناس ، وهناك مستويات للهوية لدى البشر فساكن روما قد يعرف نفسه بدرجات مختلفة من الاتساع :" روماني ، كاثوليكي، مسيحي اوروبي ، غربي" والحضارة التي ينتمي اليها هي اعرض مستوى من التعريف الذي يمكن ان يعرف به نفسه ، الحضارات هي " نحن" الكبرى التي نشعر ثقافياً بداخلها اننا في بيتنا، في مقابل " هم" اي الاخرين الاغيار..والناس يعرفون انفسهم من خلال النسب والدين واللغة والتاريخ والقيم والعادات والمؤسسات الاجتماعية ويتطابقون مع الجماعات الثقافية " قبائل- جماعات اثنية- طوائف دينية مذاهب ونحل- امم) ومع الحضارات على المستوى الاكبر، كما يستخدم الناس السياسة لتحديد هويتهم الى جانب دفع مصالحهم وتنميتها فنحن لانعرف من نكون الا عندما نعرف ماليس نحن ، وذلك يتم غالباً عندما نعرف " نحن ضد من ؟".وينتهي هنتجتون الى اعتبارالحضارات المعاصرة هي القبائل الكبيرة التي تتصارع اليوم،كما كانت تتصارع في الماضي القبائل الصغيرة.هذه بعض النماذج التي تلقى الضوء على الفهم المضلل والملتبس للحضارة تحديداً وللتاريخ على نحو عام، حيث جرى الخلط بين التاريخ وقواه. [c1]التاريخ وقواه :- [/c]على الضد من ذلك الخلط و التشوش الذي عرضناه نرى ان الفهرسة الصحيحة للتاريخ وقواه تتحدد في الآتي:اولاً : ان اجود تعريف للتاريخ يقوم في ان التاريخ حركة الكون كلة حركة ازلية ابدية لابداية لها ولا نهاية من جميع الجهات الى جميع الجهات، وصراع ازلي ابدي دائم وما هو في حقيقة الامر الا رد فعل وتكيف بالتطور وتطور بالتكيف واتخاذ موقف تزيده قوة في مواقع محمية وتزيده حماية في الصراع الدائم ولاشيء يجي الى التاريخ ولاشيء يخرج منه ولا نفني فيه الحوادث ولاتستحدث لكنها دائمة التغير والتبدل .. والانسان كائن مؤرخ وله تاريخان :1- تاريخ طبيعي ولا مصادفة في الطبيعة 2- تاريخ وضعي ولا اختيار في فعل الانسان.وما عناصر التاريخ الا وسائله واسبابه وغاياته وقواه التي يتطور بها صاعداً في معارج التقدم والتطور والارتقاء والتي هي:1- الثقافة علماً وادباً وفناً : وهي القوة الابداعية في التاريخ، والثقافة هي كل التطور الدائم المستمر في العلم وفي الادب وفي الفن.2- الحضارة : سياسة واخلاق وتشريع وهي قوة التاريخ التنظيمية ونعني بها كل التطور الدائم المستمر في السياسة وفي الاخلاق وفي التشريع.3- المدنية : زراعة وصناعة وعمارة: وهي قوة التاريخ المادية السلعية ونعني بها كل التطور الدائم المستمر في الزراعة والصناعة وفي العمارة والتعدين والتدجيل ولايكون التاريخ بهذا التعريف الا مجمل خبر الانسان في الثقافة وفي الحضارة وفي المدنية التي هي عناصر التاريخ التي منها يتكون ومنها لامن غيرها جميع قواه الفاعلة في جميع ظروف الزمان والمكان والحركة والفعل ورد الفعل والتطور والتكيف واتخاذ الموقف.والتاريخ تاريخان: تاريخ واقعي فعلي يدور حول محور " التجارة والحرب والاحتكار" فيه ضعفاء مغلوبون مقهورون يخدمون اغنياء اقوياء غالبين قاهرين في السلم ويدافعون عنهم في هذا التاريخ الذي هو تاريخ تدافع وتنافس وحرب واقتتال منذ قام قابيل وقتل هابيل حتى الساعة- في الحرب ، وتلك حقيقة لاخير ولاشر ولاجبر ولا اختيار، بل سنة من حقائق التاريخ وحقيقة من سننه.وتاريخ متخيل في الحلم والامل والتمني والرجاء والمثال ، يدور حول محور العمل للانتاج واللعب للابتهاج والاكتفاء بالذات والاستغناء عن الغير والعدل والخير والجمال للجميع وهو التاريخ الذي نتمناه ونحلم به ونطمح اليه ونرجو تحققه ولانهاية للحلم والامل والرجاء والمثال.
|
ثقافة
الحضارات . . صدام أم حوار 2-2
أخبار متعلقة