صورة لعدن القديمة
محمد زكريافي الرابع من يوليو سنة 1798م ، مادت الأرض من تحت أقدام مصر المحروسة ، وزلزل المصريون زلزالاً شديداً ، وبلغت القلوب الحناجر، وقامت الدنيا ولم تقعد واجتاحت أمواج من الغضب واشتعلت الأرض ناراً . فقد غزا الفرنسيس الديار المصرية ، فاحتلوا الإسكندرية ثم القاهرة بقيادة بونابرت . وكان صدى الحملة الفرنسية على مصر عظيماً ، فقد وصلت أخبارها الحزينة والمفزعة إلى الشرق العربي والإسلامي ومنها اليمن . ولقد ذكر أحد المعاصرين لأحداث الحملة الفرنسية أنّ الأزهر الشريف قلب القاهرة النابض وإشعاع الحضارة الإسلامية ، بات ساحة للقتال والجهاد . فقد كان يموج بطلاب العلم من شتى بلدان الوطن العربي والإسلامي الذين تقدموا الصفوف لمحاربة الفرنسيس الغزاة ، وكان من بينهم طلاب كثر من اليمنيين . وذكر أحد المعاصرين لأحدث تلك الحملة الفرنسية على مصر ، أنّ الطلاب اليمنيين الأزهريين ، أدوا دوراً كبيراً مع إخوانهم المصريين في المعارك التي خاضوها ضد الفرنسيين وخصوصاً في معارك بولاق الشهيرة التي دارت رحاها في القاهرة المعزية الواقعة على ضفاف النيل حيث امتزجت دماءهم بدماء إخوانهم المصريين . [c1]اليمنيون في مواجهة بونابرت[/c]ولقد أحدثت الحملة الفرنسية على مصر المحروسة ، دوياً هائلاً في اليمن ، وردود أفعال قوية وسخط عارماً بين اليمنيين . و كانت أخبار الحملة الفرنسية تترامى وتتوارد إلى مسامع اليمنيين بصورة شبه مستمرة ، وكان اليمنيون يهرعون إلى المساجد ، ويصلون صلاة القنوط , ويتضرعون إلى الله ألعلي القدير أنّ يخرج هؤلاء الفرنسيين من ديار مصر الطاهرة . ولم يكتف اليمنيون بالدعاء والتضرع في المساجد فحسب بل اتجه الشباب والكهل ، والقادر على حمل السلاح إلى بلاد الحجاز ، جماعات ، وزرافات لينضموا إلى إخوانهم المتطوعين الحجازيين وغيرهم من بلاد الشام ، والمغرب لتخليص مصر من مخالب الفرنسيس ، ومواجهة قائدهم المغرور بونابرت . وكتب المؤرخ الفرنسي Andre Raymond عن دور طلاب الأزهر اليمنيين الذين كان لهم دور بطولي كبير في العديد من المعارك التي دارت في كل مكان على أرض مصر سواء في القاهرة أو في صعيد مصر . [c1]في مدافن الإمام الشافعي[/c]والحقيقة لقد تحدث لي عدد من إخواننا المصريين وخاصة من أساتذة تاريخ مصر الحديث عندما كنت أدرس في كلية الآداب ـ قسم التاريخ ـ بجامعة القاهرة . أنّ الكثير من اليمنيين الذين استشهدوا في القاهرة وخصوصاً في معركة بولاق الشهيرة ، دفنوا في مدافن الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ . وهناك ساحة في تلك المدافن تسمى بالمدافن اليمانية ومن المحتمل أنّ يكون للشهداء اليمنيين الذين دفنوا على أرض مصر الطاهرة المحروسة .[c1]أهمية الكتاب[/c]ولقد سجل ودون الكاتب والمؤرخ اليمني لطف الله بن أحمد جحاف المتوفي سنة ( 1243هـ / 1828م) أحداث الحملة الفرنسية على مصر وانعكاساتها على اليمن في كتابه (( درر نحور الحور العين )) . ويعود أهمية هذا المخطوط بأنه يوضح وجهة نظر أحد الكتاب والمؤرخين اليمنيين الكبار المعاصرين لأحداث الحملة الفرنسية على مصر من ناحية ومن ناحية أخرى أن مؤلف الكتاب كان قريباً من صناع القرار السياسي ، مما أتاح له الفرصة الإطلاع عن كثب عمّا دار من محادثات سرية بين إنجلترا والدوائر السياسية في اليمن - حينذاك- لغرض وضع الخطط لمواجهة خطر الفرنسيين والعمل على القضاء على حملتهم العسكرية على مصر ، وإطلاعه أيضاً على المراسلات السرية التي دارت بين السلطنة العثمانية واليمن حول تلك الحملة الفرنسية. [c1]من مؤلف الكتاب؟[/c]ويترجم الدكتور سيد مصطفى سالم نقلاً عن المؤرخ العلامة محمد بن محمد زبارة حياة لطف الله جحاف العلمية ، قائلاً : “ هو الفقيه العلامة الحافظ المؤرخ الفهامة لطف الله بن أحمد لطف الله بن أحمد جحاف اليمني الصنعاني ، ومولده بصنعاء في نصف شهر شعبان 1189هـ ( 1775م ) “ . ولقد درس جحاف على كبار العلماء “ منهم الشيخ العلامة السيد علي بن إبراهيم عامر ، والسيد العلامة علي بن إبراهيم بن عبد القادر . . . وكان من جملة هؤلاء أيضاً شيخ الإسلام العلامة محمد أبن علي الشوكاني ، صاحب المؤلفات العديدة التي اشتهرت على مستوى العالم الإسلامي “ . ولقد أشاد به العلامة الشوكاني إشادة كبيرة ، قائلاً : “ أنه قرأ عليّ في النحو والصرف ، والمنطق ، والمعاني ، والبيان , والأصول والحديث ، وبرع في هذه المعارف كلها ، وصار من أعيان علماء العصر وهو في سن الشباب “ . [c1]في المناصب العليا[/c]والحقيقة أنّ من الأسباب الحقيقية التي دفعت بمؤرخنا لطف الله جحاف أنّ يتربع قمة المناصب العليا الحساسة في الدولة أنه عاش في صنعاء التي كانت تموج في تلك الفترة بكبار العلماء والفقهاء الذي نهل من علومهم المتنوعة ـ كما أسلفنا ـ وكذلك كانت صنعاء مقر الحكم والمُلك حيث يوجد فيها رجالات الحكم والسياسة الذي التقى بهم ، وأستطاع أنّ يكون من المقربين منهم بسبب ذكاءه المتقد ، وغزارة علمه ، وشخصيته العلمية الجذابة . وفي هذا الصدد ، يقول سيد مصطفى سالم : “ . . . أنّ لطف الله جحاف كان صنعاني المولد والنشأة ـ بل والإقامة حتى الوفاة ـ فأفاده هذا في أنّ يكون قريباً من رجال العلم ، فنهل من علمهم ما شاء ، وفي أنّ يكون قريباُ من رجال الحكم والسياسة ، فاتسعت مداركه وخبراته بالحياة ، وأخرج لنا مؤلفاته التاريخية الكبيرة “ . ويضيف قائلاً : “ ويتضح لنا هنا أيضاً أنّ مؤرخنا هذا كان يتمتع بكل الصفات التي تتمتع بها الشخصية العلمية ، مثل دقة البحث والاتصال بمعاصريه من العلماء والحوار معهم، والبحث عن الحقيقة مهما كلفه ذلك من جهد ، وسعة الصدر للوصول إليها ، وتقبله للنقد دون خوف ، مع سعة الإطلاع على علوم عصره ، وقدرة على الحفظ والفهم ، وغير ذلك مما شهد به أستاذه الشوكاني “ . [c1]مؤرخنا اليمني والحملة الفرنسية[/c]والحقيقة أنه الذي يهمنا في هذا الموضوع هو معلومات لطف الله جحاف القيمة والجديدة عن أحداث الحملة الفرنسية أو بالأحرى أعطانا معطيات عن رد الفعل في الجزيرة العربية وتحديداً في مكة المكرمة إزاء الغزو الفرنسي على مصر . وكيف ألتف الناس على تباين أجناسهم ، واختلاف أعمارهم حول شخصية مغربية وهو الجيلاني الذي دعا إلى مقاومة الفرنسيس وطردهم من مصر . ويلفت نظرنا أنّ مؤرخنا لطف الله جحاف رسم صورة واضحة ومفصلة عن المتطوعين الحجازيين الذين هبوا لنجدة مصر من الغزاة الفرنسيس بخلاف المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي المصري الذي أعطانا معلومات موجزة يشوبها الكثير من الغموض عن أولئك المتطوعين . وهذا ما عزز رأينا الدكتور سيد مصطفى سالم ، قائلاً : “ ومؤرخنا ( يقصد لطف الله جحاف ) بهذه التفصيلات الطويلة التي ذكرها في هذا النص ( أي عن أخبار المتطوعين الحجازيين ) ، قد تفوق على الجبرتي كثيراً ، إذ أن الأخير لم يذكر إلا النذر اليسير عن هؤلاء المتطوعين ، ولم يتتبع أخبارهم إلاّ في مصر فقط . ومن السهل أنّ نفهم سبب ضعف كتابات الجبرتي عن هؤلاء، إذ بُعدت الأحداث ، ولم يكن شاهد عيان لها ، فتهادت إليه أخبارهم مهزوزة متناقلة ...“.[c1]وانسحب بونابرت من عكا [/c]والحقيقة أنّ مؤرخنا جحاف تمكن أن يسرد أخبار هؤلاء المتطوعين الحجازيين أو بالأحرى الذين قدموا من الحجاز بصورة واضحة , الذين كانوا من مختلف البلدان العربية والإسلامية من اليمن ، والشام ، والمغرب فضلاً عن الحجازيين . وكان قائدهم يسمى الجيلاني الذي انطلق بهم من مكة المكرمة إلى مصر المحروسة . ويبدو أنّ هؤلاء المتطوعين الحجازيين . قد أزعجوا الفرنسيس ( الفرنسيين ) إزعاجا كبيراً أو بالأحرى ، فقد نفخوا في إخوانهم المصريين روح المقاومة مما ازدادوا قوة على قوة في مواجهة الفرنسيين بمصر ، وخصوصاً في صعيد مصر ، مما دفع بقائد الحملة الفرنسية بونابرت أنّ يقول أنه من الأسباب الرئيسية من انسحابه من عكا هو سماعه بأخبار المتطوعين الحجازيين الذين سببوا الكثير والكثير جداً من المشاكل والمتاعب للجند الفرنسيس بالقاهرة . وهذا ما أكده سيد مصطفى سالم عندما أشار إلى العوامل التي دعت بونابرت الانسحاب من أمام عكا ، قائلاً : “ . . . فقد أفاد الجبرتي بأن وجود الجيلاني في الصعيد كان من بين الأسباب التي برر بها بونابرت انسحابه من أمام أسوار عكا ، وذلك كما جاء في خطاب بونابرت الذي أرسله إلى القيادة الفرنسية بالقاهرة والذي ذكر بها خمسة عشرة سبباً : “ السادس “ : بلغنا توجه أهل الحجاز صحبة الجيلاني لناحية الصعيد “ . والحقيقة أنه من الأسباب الرئيسية الأخرى أيضاً التي هزمت بونابرت أمام أسوار عكا بصورة مباشرة و يعود أدراجه إلى القاهرة بخفي حنين أو يجر أذيال الهزيمة هي المساعدة الكبيرة والفعالة من قبل الأسطول الإنجليزي لوالي عكا أحمد باشا الجزار “ أثناء حصار بونابرت له في عكا ، وكان وجود هذا الأسطول أمام سواحل الشام من أهم أسباب فشل الحملة الفرنسية ... “. [c1]اليمن أثناء الحملة الفرنسية[/c]ونرسم صور، ومشاهد عن أوضاع اليمن في أثناء الحملة الفرنسية على مصر سنة ( 1213هـ / 1798م ) . فقد كانت أول الدول العربية التي استقلت عن السلطنة العثمانية حيث خرجت من اليمن سنة ( 1045هـ / 1635م ) بعد حكم استمر قرابة ما يزيد عن 90عاماً دار فيها صراع عنيف بين اليمنيين والعثمانيين . وكانت الدولة القاسمية التي أسسها الإمام القاسم بن محمد بعد خروج العثمانيين من اليمن . في أواخر عصرها تعاني من الفساد ، والفوضى اللذين شملا كل مفصل من مفاصل الدولة . وظهر على السطح الصراع البحري بين إنجلترا وفرنسا في البحر الأحمر ، والمحيط الهندي مما زاد من أهمية موقع اليمن الاستراتيجي التي تمثل الطرف الجنوبي من البحر الأحمر . ولقد ذكر أحد الكتاب المحدثين الغربيين أنّ الحملة الفرنسية على مصر لم يمتد أثرها فحسب على مصر بل أمتد أثرها على اليمن حيث تنبه كل من الإنجليز والفرنسيين أهمية موقع اليمن الجغرافي لهما وخصوصاً عندما تتأزم بينهما المشاكل السياسية في تلك المنطقة ، والحقيقة كانت إنجلترا تخطط على السيطرة على البحر الأحمر وبسط سيادتها عليه لكونه الشريان الحيوي والهام الذي يربطها بالهند وممتلكاتها في الشرق الأقصى ، فعمدت على إزاحة كل قوى غربية تحاول أنّ تدخل تقرب من سواحله . وهذا ما حدث مع والي مصر محمد علي باشا التي قضت على مشاريعه الكبرى المتمثلة في تأسيس دولة عربية قوية فتية تبسط نفوذها السياسي على مناطق هامة من الوطن العربي ومنها منطقة البحر الأحمر وخصوصاً بعد سيطرتها على اليمن في سنتي 1834ـ 1840م والتي أجبرته على الإنسحاب من اليمن بعد معاهدة لندن سنة 1840م التي أطاحت بكل أحلامه السياسية الكبرى في المنطقة . [c1]العثمانيون والحملة الفرنسية[/c]والحقيقة أنّ السلطنة العثمانية ، لم تحسم أمرها من إعلان الحرب على فرنسا في بداية الحملة على مصر ، ولكن تحت إلحاح إنجلترا العدو اللدود لفرنسا ، أعلن السلطان العثماني نفير الحرب ضد الأخيرة . ويوضح سيد مصطفى سالم الأسباب التي جعلت السلطنة تتردد في اتخاذ موقف واضح وصريح في البداية من حملة بونابرت ، قائلاً : “ ويتبين لنا أوضاع الدولة العثمانية ـ التي تجمع بين الضعف وبين القدرة على البقاء على الأقل ـ إذا عرفنا موقفها من الحملة الفرنسية على مصر ، إذ ظلت السلطنة مترددة في اتخاذ موقف إيجابي من فرنسا ، أو في قطع علاقاتها بها ، لضعفها من ناحية ، ولخوفها من ناحية أخرى من أنّ تكون هذه الحملة مقدمة لمخطط أوروبي عام لالتهام الممتلكات العثمانية ، ولكنها تجرأت على أنّ تتخذ موقفاً حاسماً ضد فرنسا ، فتقطع علاقاتها بها ، وتعلن الحرب عليها، وتتحالف مع أعدائها بعد أنّ علمت بهزيمة الأسطول الفرنسي في موقعة أبي قير البحرية “ . ويمضي في حديثه : “ وبعد أنّ دفعتها ( أي السلطنة العثمانية ) كل من روسيا وإنجلترا إلى التحالف معهما ضد فرنسا ، وهنا بدأت بإرسال الجيوش إلى مصر لطرد الفرنسيين منها “ وأمّا المراجع العثمانية فتذكر عكس ذلك بأنّ السلطنة منذ البداية ، كانت حازمة تجاه الحملة الفرنسية على مصر ، وأخذت في الاستعدادات الحربية لطردها من مصر ، فتقول تلك المراجع بالحرف الواحد : “ ولما علمت الدولة العلية باحتلال الفرنساويين ( الفرنسيين ) القطر المصري أخذت في الاستعداد لمحاربتهم “ . [c1]رسائل شريف مكة[/c] ويتعجب المرء من الرسائل التي بعثها شريف مكة إلى إمام اليمن القائم المنصور(علي ) المتوفى سنة ( 1224هـ / 1809م ) والتي كانت بإيعاز من السلطان العثماني . ومن البديهي أنّ تتحدث في صميم الحملة الفرنسية على مصر ، وضرورة الوقوف مع السلطنة العثمانية ولكننا نلاحظ أنّ تلك الرسائل كانت تدور حول مصالح شخصية لشريف مكة تتمثل في شحن البُن , وبضائع أخرى في سفنه الخاصة به من ميناء المخا باليمن في أسرع وقت ممكن “ فهو يدرك ( أي شريف مكة ) ... حقيقة موقفه الاقتصادي ، ويعمل على أن يستمر نشاطه التجاري المحدود بين موانئ البحر الأحمر ، إذ أنّ موارده الضئيلة لا تتحمل توقف هذا النشاط خلال الصدام الإنجليزي الفرنسي لهذا كله يستغل قرابته للإمام ـ عن طريق إنتسابهما للرسول صلى الله عليه وسلم ـ وينتهز فرصة الكتابة إليه عن أخبار الحملة فيطلب منه العناية بتجارته ـ وبسرعة شحنها ـ في الموانئ اليمنية “ . [c1]قاعدة بحرية إنجليزية في اليمن[/c]ومثلما فعلت إنجلترا مع السلطنة العثمانية في تحريضها على فرنسا من جراء حملة بونابرت على مصر حيث كانت السلطنة في بداية الأمر مترددة حيث كانت تشعر من الخوف من فرنسا من جراء اتخاذ موقف حازم من فرنسا ، ولكنها في الأخير قررت إعلان الحرب على فرنسا وقطع علاقاتها معها ـ كما قلنا سابقاً ـ . فقد بذلك إنجلترا جهوداً حثيثة مع إمام اليمن بضرورة الوقوف مع السلطنة العثمانية ضد الفرنسيين ، وأنّ يكون تحالفه معها تحالف عملي لمواجهة الخطر الفرنسي . ولقد عرضت إنجلترا على الإمام المنصور أقامة قاعدة بحرية عسكرية إنجليزية عند مدخل باب المندب . ولقد رسم مؤرخنا لطف الله جحاف صورة واضحة فيها الكثير من التفاصيل في كيفية استقبال مندوب إنجلترا في اليمن استقبالاً كبيراً وفخماً وتلك المعلومات التي اسردها جحاف في ثنايا صفحات مخطوطته تعد من المعلومات الجديدة التي يكاد ينفرد بها وحده . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : “ . . . ينفرد لطف الله جحاف تقريباً ـ بالنسبة للمؤرخين المسلمين المعاصرين ـ بذكر الحوادث التي وقعت في جنوب الجزيرة العربية ، وذلك أمر طبيعي نظراً لموقعه في هذه البقعة . ويتمثل هذا بشكل كبير في النص الثالث عشر الذي تحدث فيه المؤرخ ـ حديث شاهد عيان ـ عن رسول إنجلترا إلى الإمام ، وعن طبيعة المهمة التي أتى من أجلها إلى صنعاء “ . ويمضي في حديثه ، قائلاً “ وحدد المؤرخ أيضاً مهمة الرسول الإنجليزي بأنه يطلب الاستئذان في إقامة قاعدة إنجليزية عند باب المندب للوقوف أمام الزحف الفرنسي إلى المحيط الهندي “ . ولكن طلب إنجلترا رفض رفضاً قاطعاً . ويعلل سيد مصطفى سالم سبب ذلك الرفض اليمني لإنجلترا ، قائلاً : “ . . . هذا يؤكد وجود العداء التقليدي بين الشرق والغرب الذي ترجع جذوره إلى العصور الوسطى . وأهمية هذا النص تدور حول إبراز المشاعر الإسلامية والروح الوطنية المنتشرة حينذاك ضد كل ما هو أوربي “ . [c1]عدن وإنجلترا[/c]والحقيقة أنّ إنجلترا منذ الحملة الفرنسية على مصر سنة 1213هـ / 1798م ، وضعت نصب عينيها على ضرورة السيطرة على البحر الأحمر وجعله بحيرة إنجليزية لكون البحر الأحمر يمثل لها الشريان الحيوي والهام للهند ـ دُرة التاج الإنجليزي ـ وممتلكاتها في الشرق الأقصى . ومن أجل تحقيق هذا المشروع تحقيقاً عملياً على الأرض ، كان عليها أنّ تبحث عن موقع استراتيجي في البحر الأحمر أو بالأحرى على موقع يغلق مدخل جنوب البحر الأحمر وبذلك يمنع أية قوى خارجية تحاول اختراق مياه البحر الأحمر دون علمها ، فوجدت ضالتها ـ بعدن ـ المدخل الحقيقي لجنوب البحر الأحمر أو بالأحرى مفتاح مدخل جنوب البحر الأحمر . ولذلك مهدت الطريق إلى الإستيلاء على عدن . من خلال إقامة علاقات ودية مع سلطان لحج وعدن. والحقيقة لقد لمست إنجلترا أنّ الأخير على استعداد على التعاون معها وذلك من خلال تقديم التسهيلات لسفنها للوقوف ضد تسرب الأسطول الفرنسي إلى المحيط الهندي . ولقد وافق سلطان لحج أن تقيم إنجلترا قواتها في عدن ، ولكن هذا التعاون بين الطرفين توقف أو قل إذا شئت تجمد لفترة من الوقت بسبب أنّ قائد الأسطول الإنجليزي نلسن ، دمر الأسطول الفرنسي في معركة أبي قير البحرية وبذلك تحققت لإنجلترا أنّ الحملة الفرنسية قد فقدت مخالبها القوية ، وأنها منيت بهزيمة منكرة في مصر ، ولم يعد هذا الأسطول الفرنسي يهدد نفوذها في الهند والشرق الأقصى . ولا نبالغ إذا قلنا أنّ موقعة أبي قير البحرية ، كانت بمثابة الضربة القاصمة التي دمرت أهداف الحملة الفرنسية على مصر أو بالأحرى حطمت أحلام الشاب الضابط المغرور بونابرت في قطع الطريق على إنجلترا إلى الهند بغرض أنّ تنهار قوتها في تلك البقعة من المحيط الهندي . [c1]الرأي العام اليمني[/c]يذكر لطف الله جحاف في مخطوطته (( درر نحور الحور العين )) أنّ الرأي العام اليمني قد أنفجر غضباً من المبعوث الإنجليزي الذي طلب من إمام اليمن أنّ يسمح لإنجلترا بإقامة قاعدة بحرية عند مدخل باب المندب في البحر الأحمر لغرض وقف تسلل السفن الفرنسية من مصر إلى المحيط الهندي ولكن ـ كما أسلفنا ـ رفض طلبه . ومن المحتمل أنّ ذلك الطلب الإنجليزي قد تسلل من بصورة متعمدة إلى الشارع اليمني مما كان له رد فعل قوي . فقد كاد الناس أنّ يفتكوا بالمبعوث الذي أرسل من قبل الإنجليز إلى اليمن لمناقشة هذا الطلب . “ ويثور الرأي العام اليمني ، ويلتهب سخطه على هذا الرسول الذي جاء ليقتطع جزءاً من الأراضي اليمنية ، ويصل هذا السخط إلى الحد الذي يدفع الإمام إلى إحاطة هذا الرسول بقوة من الجند للمحافظة على حياته أثناء سفره أو على حد تعبير المؤرخ ـ لطف الله جحاف ـ : “ وأصحبه جماعة من جند يحفظونه من رعاياه “ . ويواصل تأكيد وجهة نظره الإسلامية ، فيقول إنّ الرسول عاد “ منكسراً خايباً “ لعدم إجابة طلبه “ . [c1]الحقائق التاريخية[/c]والحقيقة يجب الوقوف عند موضوع الذي ذكره المؤرخ لطف الله جحاف في مخطوطته ( درر نحور الحور العين ) أنّ الرأي العام اليمني ، قد غضب غضباً شديداً إزاء ما طلبته إنجلترا بإقامة قاعدة بحرية عند باب المندب في البحر الأحمر. ولسنا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا أنه كان هناك مبالغة كبيرة بأن الرأي العام في اليمن ، قد ثار ضد إنجلترا لهذا الطلب . فالأوضاع السياسية الداخلية السائدة في تلك الفترة التاريخية ، من الصعوبة بمكان أنّ تسمح لليمنيين أنّ يشاركوا مشاركة فعالة وعملية في الضغط على حكومتها و الحاكم في تغيير سياستهما . فقد كان من المعروف أنّ الإمام في اليمن في تلك الفترة هو صاحب القرار الأول والأخير ، ولا يستشير أحد , وإذا استشار أحد المستشارين المقربين إليه ، فإنه يستشيره ليسمع ما يناسب هواه السياسي. ومن المحتمل أنّ رجالات الدولة افتعلوا تلك المسألة بأن الناس غير راضين عن السماح لإنجلترا بإقامة قاعدة بحرية في اليمن ، وأنهم من الضرورة أنّ ينصاعوا لرأيهم . وبذلك يخلو مسؤولية رفضهم تجاه إنجلترا ، ويلقوها على الناس الذين لا حول لهم ولا قوة في إدارة شؤون بلادهم من قريب أو بعيد . فيجب بل ويتوجب على الباحثين إعادة النظر في كثير من الموضوعات التاريخية التي باتت بأنها من الأشياء المسلم بها ولكي نعلم على وجه الدقة الحقائق التاريخية علينا أنّ نستخدم أدوات منهج البحث التاريخي الذي يقوم على الاستقراء ، والاستقصاء ، والتحليل ، والشرح ، والتفسير . [c1]مضمون الخطابات[/c]وكيفما كان الأمر ، فقد كانت الرسائل المتبادلة بين السلطان العثماني وبلدان الشرق العربي والعالم الإسلامي مصبوغة بالصبغة الإسلامية التي تدعوا إلى تماسك الأمة العربية والإسلامية ضد الحملة الفرنسية على مصر والتي هي جزء لا يتجزأ من ممتلكات السلطان العثماني . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : “ فقد دار ( مضمون الخطابات ) حول قضية واحدة وهي قضية الدفاع عن الوطن العربي الإسلامي أمام الفرنسيين ، وتغلف بغلاف واحد هو الغلاف الإسلامي . فقد تحدث الحكام إلى بعضهم البعض باسم الأخوة الدينية الإسلامية ، وناشد كل منهم الآخر الوقوف أمام الفرنسيين باسم الإسلام ، واعتمد السلطان العثماني على الروح الإسلامية في ندائه إلى الجهاد ضد الفرنسيين . ومن البديهي أنّ يكون الغلاف العام لهذه الخطابات هو الغلاف الإسلامي ، فقد كان الدين منذ بداية العصور الوسطى وحتى ذلك الحين ـ بالنسبة للعالم العربي والإسلامي على ألأقل ـ هو الإطار الذي يحدد معالم الحياة الفكرية والثقافية والسلوكية بل والقومية إذا جاز لنا استعمال هذا التعبير الحديث “ . [c1]مصادر المؤرخ [/c]لقد استطاع المؤرخ لطف الله جحاف أنّ يمدنا بمعلومات قيمة ومستفيضة مرتبطة بأخبار الحملة الفرنسية على مصر يكاد لم يذكرها غيره من المؤرخين المعاصرين وهي موضوع مطوعي الحجاز الذين هبوا لنجدة إخوانهم المصريين , وقد أبلوا بلاءاً حسناً في مقاومة الفرنسيين في صعيد مصر ، وكان من بينهم اليمنيين الذين استشهدوا على تراب مصر الطاهرة . وعلى أية حال ، كانت مصادر مؤرخنا جحاف هي الكلمة الملفوظة أو بعبارة أخرى أنّ مصادر مؤرخنا مصادر شفهية . وفي هذا الصدد ، يقول سيد مصطفى سالم : “ قام لطف الله جحاف بالحج عقب انتهاء أحداث الحملة على مصر بقليل . . . فأتاح له فرصة الاستماع إلى تفاصيل أحداث الحملة ـ في مكة والمدينة ـ وعاد ليدون هذه التفاصيل في كتابه (( قرة العين بالرحلة إلى الحرمين )) ، ثم ليضيف إلى كتابه التاريخي (( درر نحور الحور العين )) الإشارات ، والتلخيصات التي تخص هذه الحملة “ . ويمضي في حديثه ، قائلاً : “ وهذه النواحي جميعها التي جذبت نظر مؤرخنا بشدة إلى أحداث الحملة والتي دفعته إلى الاهتمام بتدوين كل ما وصل إلى مسامعه أو قعت عليه يداه “ . [c1]في مقدمة مخطوطته[/c]لقد اجتاحت مشاعر الحزن و الغضب مؤرخنا اليمني مثلما أثارت مشاعر السخط والغضب الكبيرين اليمنيين على اختلاف فئاتهم الاجتماعية ، وتباين أعمارهم عندما ترامت إلى مسامعهم احتلال الحملة الفرنسية على مصر سنة ( 1212هـ / 1798م ) . وفي هذا الصدد ، كتب يقول في مقدمة مخطوطته ( درر نحور الحور العين ) “ وفيها ( سنة 1213هـ ) وردت الأخبار بدخول الفرانسة ( الفرنسيين ) جعل الله ديارهم دارسة ، وغيرهم من الأفرنج الأبالسة ، ديار مصر طهرها الله من الدنس فاستولوا عليها ، ومدوا أيدي الكفر إليها ، وأظهروا بها الفساد ، وعانوا وتسلطوا عليها من بها من المسلمين . . . “ . [c1]العلاقات اليمنية ـ المصرية[/c]والحقيقة أنّ اليمن و مصريشكلان محورين وركيزتين هاماتين في البحر الأحمر لكون مصر تمثل الطرف الشمالي من البحر الأحمر واليمن تمثل الطرف الجنوبي الأخر منه ، وعندما تحدث زلزال سياسي خطير في أحدى الطرفين الشمالي أو الجنوبي في البحر الأحمر ، فإن الطرف الأخر سرعان ما يشعر به . وهذا ما حدث عندما احتلت الحملة الفرنسية مصر فسرعان ما اهتزت اليمن اهتزازاً شديداً . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم ـ الذي قام بنشر وتحقيق مخطوط ( درر نحور الحور العين ) لصاحبه لطف الله جحاف والذي وضعه في كتاب سماه ( نصوص يمنية عن الحملة الفرنسية على مصر ) ـ : “ وموضوع هذا الكتاب صورة تاريخية من صور التأثير والتأثر التي تبرز على السطح بين الفينة والأخرى ، عندما يتعرض طرف من أطراف حوض البحر الأحمر لخطر خارجي أو داخلي تهتز له باقي الأطراف ، وهذا ما يؤكد رسوخ العلاقات المصرية ـ اليمنية وكأنها قدر مكتوب ، أو أنها استجابة لعبقرية المكان لكل من البلدين ، إذ تقع مصر عند شمال البحر الأحمر واليمن عند جنوبه . وبالأحرى يمثل حوض البحر الأحمر بوتقة لتفاعل الأحداث بين أجزائه ـ إما سلباً أو إيجاباً ـ منذ أقدم العصور حتى الآن “ . [c1]الهوامش : [/c]الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ نصوص يمنية عن الحملة الفرنسية على مصر ، الطبعة الثانية 1989م ، مركز الدراسات اليمنية ـ صنعاء ـ .محمد فريد ، تحقيق : الدكتور إحسان حقي ؛ تاريخ الدولة العلية العثمانية ، الطبعة الثانية 1403هـ / 1983م ، دار النفائس ـ بيروت ـ . ولمزيد من الإطلاع عن أحداث الحملة الفرنسية في القاهرة ، أقرأ كتاب “ المصريون والفرنسيون في القاهرة 1798 ـ 1801م ؛ Andre Raymond ( أندريه ريمون ) ترجمة : بشير السباعي ، الطبعة الأولى 2001م ، عين الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ، المركز الثقافي الفرنسي للثقافة التابع لسفارة فرنسا بالقاهرة ـ