سئم الناس عادة الصحافة في إكثار النحيب على كوارث العام المنصرم. ولكنهم لا زالوا يتلهفون على النبوءات السياسية للعام المقبل. ويبدو ذلك أمراً منطقياً بالنسبة لهؤلاء الذين يستثمرون أموالهم أو يعيشون في الحقل السياسي أو يهتمون بما يجري في بلادهم العربية. وهناك أيضاً بالطبع الجاذبية والسحر الكامن والقديم لمهنة العرافة. أما هنا في القاهرة وفي المدن الواقعة على شاطىء البحر المتوسط، فقد جاء الشتاء أشد برداً من المعتاد. ولذلك فثمة دافع “مناخي” للقيام بنبوءات تدفىء القلب. وبمعنى من المعاني يجب على كل من يهتم بدراسة الشؤون السياسية أن يخصص جزءاً من جهوده للعرافة. فهذه الفئة من الناس لا تستطيع أن تعيش بدون توقعات لتطور الوضع السياسي في العالم وفي المنطقة التي ينتمون إليها. وبينما تطور علم النبوءات السياسية وصار يحظى بمزيد من الاهتمام الإعلامي والدعم المالي, لا تزال التوقعات السياسية تحتاج إلى مقدار معين من مهارة العرافين. ولذلك ينأى الباحثون السياسيون بأنفسهم عن تقديم توقعات, وخاصة تلك التي تقتصر على الأمدين المباشر والقصير. وحتى في المدى الطويل سيطر اتجاه نسميه في علم السياسة أو علم التوقعات بـ”المالتوسية” الجديدة نسبة إلى عالم السكان مالتوس الذي توقع أن يؤدي نمو السكان في العالم إلى كوراث نظراً لنمو الموارد بمعدلات أقل من معدلات نمو السكان. وكان أول وأبرز ما أنتجه “علم التوقعات” على المستوى العالمي هو تقرير روما عام 1974 الذي أطلق إنذارات شديدة حول نضوب الموارد ووقوع كوارث بيئية نتيجة للإكثار من الإنتاج ونمو سكان العالم. ومنذ ذلك الوقت اتخذت النبوءات مساراً تشاؤمياً. وفي تقديري أن هذا النزوع التشاؤمي يلبي حاجة حقيقية لإطلاق صفارات الإنذار بالنسبة إلى مجتمع دولي يتطور بصورة عشوائية ودون أن يمتلك رؤية طويلة المدى. ولكن جانباً من هذا النزوع يعود إلى “غريزة” الأخذ بالأحوط, حيث يمكن دائماً وقوع كوارث هي جزء لا يتجزأ من “زمن العالم”. ولكننا في هذا الشتاء القاسي وفي هذه المنطقة التي تشتعل بالحرائق، نشعر بالالتزام بأن نأخذ بالتفاؤل. فيكفينا ما وقع ويقع لنا وبنا. أما النبوءات ذات الطابع السياسي المباشر والتي تتعلق بقضايا ومشكلات لا تزال تتداعى, فهي تشتمل على مخاطرة كبيرة. فالباحث العلمي يمكن أن “يحرق” نفسه أو يدمر سمعته لو أنه نشر توقعات يمكن متابعتها بسهولة خلال أمد زمني قصير ويثبت زيفها في غضون شهور. لكن المسألة تستحق المخاطرة. على المدى المباشر دائماً ما تروج التوقعات الانتخابية. وأهم الأحداث المتوقعة في هذا المجال هي الانتخابات الرئاسية الفرنسية في العام المقبل. ولا تزال هذه الانتخابات بعيدة نسبياً وشديدة الصعوبة في التنبؤ بها. وعادة ما تكون لاستطلاعات الرأي العام منحنيات معينة. فالمرشح المعارض عادة ما يبدأ قوياً وينتهي ضعيفاً, باستثناءات قليلة. وهنا أخاطر بالرهان على الأضعف وهي السيدة رويال سيغولين التي أتوقع أن تفوز على منافسها الأقوى والأكثر دهاء بكثير السيد نيكولاس ساركوزي, محدثة بذلك معجزة حصول أول امرأة فرنسية على أعلى منصب سياسي في فرنسا بل وفي أوروبا كلها. فرنسا بالغة الأهمية بالنسبة لنا وخاصة في السنوات القليلة الأخيرة والتي صار فيها للدور الفرنسي النشط بصورة غير معتادة، أهمية كبيرة في حسم كثير من القضايا العربية. انظر مثلاً للقرار 1701 الذي أنهى الحرب الإسرائيلية المجرمة ضد لبنان بشروط مجحفة. حسناً لقد بدأنا بالحديث عن القضايا العربية. وأتوقع أن تشتد الأزمة اللبنانية خلال أول شهور العام وربما تصل إلى مستوى مناوشات عسكرية أو شبه عسكرية, ولكن نبوءتي أن الأزمة اللبنانية ستنضج سيرها نحو حل إيجابي مهما كان عصبياً أو مؤقتاً. لا حرب أهلية في لبنان، لا هذا العام ولا العام المقبل ولا في المدى المباشر. لبنان سيحصل على تركيبة سياسية أكثر توازناً وربما أفضل ولو بشيء من التضحيات خلال العام المقبل. يختلف ذلك تماماً عن الوضع في العراق الذي هو بالغ الخطورة بالفعل, وسيزداد خطورة في العام المقبل, وصولاً إلى حرب أهلية حقيقية وواسعة المدى في نفس العام أو العام التالي ومع إعادة نشر القوات الأميركية داخل العراق وبعيداً عنه معاً. وهنا أعتذر عن عدم الأخذ بقاعدة “التوقعات المتفائلة” في هذه الحالة تحديداً خلال العام المقبل. أتوقع أيضاً أن تتصاعد الأزمة الصومالية والاهتمام الذي تحظى به في المستويين الدولي والإقليمي. وربما تصاب المحاكم الإسلامية بنكسة عسكرية وسياسية خلال الشهور الأولى من عام 2007. ولكنها ستتمكن من إعادة تجميع قواها وتحقيق انتصار سياسي من خلال الحلول الوسط من ناحية، واستعادة عافيتها العسكرية من ناحية أخرى خلال النصف الثاني من العام. أقطع بأن خطة بلير التي ترمي إلى وضع السودان تحت الحصار وربما ضرب بعض المطارات بقصف جوي، هي خطة نشرت بقدر من الاهتمام في العالم الغربي لن تتحقق ولن تكون سوى “أعمال تهويش” في أفضل الحالات, ولكني لا أستبعد أيضاً تغييرات مهمة في قمة المستوى السياسي السوداني وربما نظام سياسي جديد أكثر قدرة على تحقيق مصالحة وطنية. أما أهم توقعات أو نبوءات العام الجديد فهي حدوث انفراج حقيقي للمسألة الفلسطينية. ويرتبط بذلك عقد انتخابات مبكرة ونجاح حركة “فتح” في استعادة أغلبيتها المفقودة في الأرض المحتلة، وتنشيط الدبلوماسية الدولية لحل المسألة الفلسطينية. وسوف يقوم هذا الحل على فكرة “الاتفاق المؤقت” ربما بالقرب من نهاية العام المقبل أو الربع الأول من عام 2008. ولا يعني ذلك أن الانفلات الأمني ستتم معالجته بسهولة ويسر. إذ ليس من المستبعد أن تقع مصادمات بعضها كبير بين “فتح” و”حماس”. وبالمقابل لا أستبعد أن تقوم “حماس” بمبادرات سياسية تغير من موقفها التقليدي المعروف من إسرائيل بقدر محسوب. ولكن في نهاية الأمر لا أستبعد إطلاقاً أن تقبل “حماس” بتراجع انتخابي من أجل تحسين ظروف الشعب الفلسطيني والتعامل بمسؤولية مع قضيته التاريخية ومع الحالة البرلمانية والسياسية الفريدة في الأرض المحتلة. ويمكننا أن نذهب مع التوقعات خطوات أبعد بالنسبة للحالة السياسية في المغرب العربي. إذ أتوقع أن تحدث تطورات سياسية مهمة في كل من الجزائر وليبيا. وفي المغرب فإن توقعات حصول التيار الإسلامي على موقع برلماني أفضل في انتخابات 2007 صحيحة، ولكن ليس بالقدر الذي يأمل فيه الإسلاميون أنفسهم. وسوف تحسب انتخابات 2007 لصالح الديمقراطية المغربية الوحيدة تقريباً في العالم العربى. أما في تونس فالموقف قد يظل بالغ الاحتقان خلال العام المقبل, مع استعادة القوى الديمقراطية لشيء من نشاطها المفقود بسبب شدة “الضبط السياسي”. وأخيراً مصر. لا يمكن الرهان على الإصلاحات الدستورية والسياسية المحدودة التي يدخلها الرئيس مبارك، لذلك أتوقع استمرار الأمر الواقع في هذا البلد العربي الكبير الذي يتحرك ببطء أكثر مما يلزم في معظم الأوقات دون أن يتخلى كلية عن قدرته على صنع مفاجآت يصعب التنبؤ بها. وثمة إغراءات كبيرة لإعادة تنشيط أو إحياء النظام العربي أولاً بدافع مواجهة التمدد الكبير في قوة إيران ونفوذها الإقليمي, وثانياً بتأثير الحاجة لإنهاء الفوضى والصراعات الإقليمية الكبيرة. وبوجه عام أعتقد أن ثمة فرصة لشيء من الإحياء العربي ولكنه غير مؤكد وقد يستمر التعثر أو يزداد مستوى عدم الاكتراث العام بالمستوى العربي من جانب الدول العربية مقابل تعاظم انخراطها في علاقاتها وتفاعلاتها الدولية.
أخبار متعلقة