أضواء
د. طارق سيفمنذ مدة غير قليلة، كان يراودني الأمل في أن تفيق طيور الظلام في كهوفها وتراجع ما اقترفته أفكارها وأيديها في حق الإنسانية، وتحاسب نفسها بعد أن أصبحت خارج التاريخ والجغرافيا، في ظل ما ألصقته بالإسلام والمسلمين من تهم وجرائم لم يستطع أعداؤهم أن يلصقوها بهم على مدى عقود من الزمن، وأعطوا المبرر للمجتمع الدولي ليطارد كل مسلم على أنه إرهابي إلى أن يثبت العكس، ودفعوا بالمتطرفين والمهووسين ومرضى العقول إلى التطاول على دين الرحمة ورسول الإنسانية.ولكن مع الأسف، لا تزال رسائل طيور الظلام تتساقط علينا بين الفينة والأخرى لتؤكد إصرارهم على المضي قدماً في غيِّهم والتمسُّك بمشروعهم الظلامي ونشاطهم الإرهابي وأفكارهم المتطرفة التي لا تعبر عن عقيدة أو مذهب، وإدراكهم الخاطئ لحقيقة الدين الحنيف ودعوة رسوله الكريم.فمنذ بضعة أيام جرى بث رسالة صوتية جديدة مسجلة في أحد كهوف جبال أفغانستان أو باكستان، بعث بها أحد المأزومين من طيور الظلام بعد مرور نحو شهرين على رسالة أخرى جرى بثها في منتصف يناير الماضي، الأمر الذي أثار أسئلة عديدة: ما جدوى هذه الرسائل؟ وما الهدف منها؟ ولمن توجه؟ وما مضمونها؟ وهل يعتقد صاحبها أن هناك أحداً ينصت لها أو يسعى للعمل بما فيها؟ وما هو العائد منها طالما لم يكن هناك أي صدى للرسائل السابقة؟رسائل طيور الظلام ستستمر طالما تمسكوا بالجهاد الافتراضي في الفضاء الإلكتروني، لكن مضمون هذه الرسائل لا يخرج عن كونه «أضغاث أحلام». أسئلة كثيرة تتوارد على الذهن كلما جرى بث رسالة جديدة، صوتية أو مرئية، لزعماء إمبراطورية طيور الظلام، الأمر الذي يحتاج إلى محاولة لفهم هذه الظاهرة، وربما نستطيع أن نتعرف على حقيقة ما يرمي إليه هؤلاء الظلاميون من نشر للعنف والإرهاب في العالم باسم الإسلام.لن تكون رسالة ابن لادن المذاعة منذ أيامٍ الرسالة الأخيرة، إلا إذا دنت ساعته مقهوراً أو مقبوراً، وإذا حاولنا البحث عن الأهداف أو الأسباب الكامنة وراء بثه لهذه الرسائل، سنجد أنها كثيرة ومن أهمها:* إثبات أنه لا يزال على قيد الحياة ومتابع للأخبار الحية، لذلك فهو يختار التعليق على أحداث ساخنة في المنطقة العربية لإثبات الوجود، فهو متمسك بمبدأ «أنا أعلق إذن أنا موجود».* التأكيد على أن تنظيم «القاعدة» لا يزال بخير. ربما يكون في موقف يحرمه من العمل، لكن الظاهرة الصوتية تثبت وجوده في مواجهة الجميع، طالما أن الكلام لا يكلف شيئاً.* طمأنة التنظيمات الإرهابية التي أخذت فكرة «القاعدة» وباتت تعمل بمفردها ووفق مصالحها، بأن الزعيم الملهم صاحب الفكرة لا يزال حياً، فعليهم أن ينشطوا وسوف تتحمل أكتافه النتيجة، فكل عمل إرهابي في العالم يُنسب إلى «القاعدة».* التأكيد على أنه الزعيم الأوحد لتنظيم «القاعدة»، والمنظر الرئيسي له، وصاحب الصنعة الأصلية للإرهاب، وليس تابعه «قفه» صنعة «تايوان»، وأن فتواه ملزمة التنفيذ سواء كانت منطقية أو همايونية، دينية أو سياسية، ولم لا، وهو الشيخ والعالم والمفتي والسياسي والقاضي والجلاد والزعيم الذي لا تُردُّ له كلمة في عالم الظلام؟* إشعار المجتمع الدولي بأن تهديد «القاعدة» موجود وخلاياها النائمة مستعدة للعمل، فهي رهن بنان زعيمه الأوحد، ويدها قادرة على أن تصل إلى كل مكان في العالم فاستمعوا وعوا! لذا فإن رسائل ابن لادن موجهة لعدد غير قليل ومتنوع من المتلقين، والذين لكل منهم ما يبحث عنه في هذه الرسائل وفق مصالحه وتوجهاته ورؤاه، ومنهم على سبيل المثال:* المجتمع الدولي بأسره، عرباً وأجانب، ليبلغه بأنه يرصد ما يحدث، وقادر على كيل التهم لكل من يريد.* المتطرفون والإرهابيون المنتشرون في دول الشرق الأوسط الذين يتبنون أفكار «القاعدة» ويحتمون بغطائها، حتى لا يتم انكشافهم للسلطات المحلية.* الحركات الإسلامية المتطرفة التي تستغل الفرصة لمهاجمة القادة والزعماء وكيل التهم للشعوب بالاستعباد والاستسلام وقبول الأمر الواقع.* أجهزة استخبارات الدول الغربية التي تريد أن يظل الإسلام العدو الرئيسي الذي توجه إلى قلبه كل الحراب والأسهم.* أصحاب النفوس الضعيفة الذين يؤمنون بشعارات ابن لادن بأنه يقف ضد الحملة «الصهيونية -الصليبية»، وهو في واقع الأمر لم يزد جهده عن التصريحات والرسائل وأشرطة الفيديو، أي «الجهاد الإعلامي المسموع والمرئي» فقط، ولم يفعل شيئاً واقعياً وملموساً حيال ما يعانيه المسلمون في فلسطين أو الشيشان أو في أماكن أخرى من العالم.* بعض القادة والزعماء العرب الذين يجدون في رسائل ابن لادن الفرصة الكبرى ليزجوا في المعتقلات والسجون بمزيد من خصومهم ومعارضيهم بزعم اتهامهم بالتطرف والعنف.* وسائل الإعلام التي تجد في رسائل ابن لادن فرصة للتطبيل والتهليل وإطلاق الشعارات، واستضافة المحللين والخبراء الاستراتيجيين الذين يحاولون تفسير ما لا يقوله، وينفخون في كلماته، وكأن الكون يدور حوله، وأن كلماته هي القول الفصل في الجهاد.* الشعوب المقهورة من الديكتاتوريات الحاكمة، وهي ترى في «طق حنك» ابن لادن تنفيساً عما تعانيه.* الإدارة الأميركية برئاسة «باباك أو أمك»، التي تسعدها رسائل ابن لادن حتى تبدو التحذيرات الإرهابية حقيقية، ومن ثم تعطي مبرراً لاستمرار الحرب على أعداء أميركا و»البعبع» الذي يهدد الديمقراطية الغربية.* الرجل الثاني في تنظيم «القاعدة»، أيمن الظواهري، بألا «ينسى حاله» ويعتقد أنه استولى على «القاعدة»، وانفرد بالرسائل، فزعيمها لا يزال يتابع الأحداث ويعلق عليها، ويوزع فتاواه على جماعة الشر.تتبقى لنا محاولة الوقوف على مدى قناعة صاحب الرسائل بوجود أحد ينصت لما يقول وربما ينفذه، وهنا قد يرى البعض أنه لا مكان لطرح مثل هذا التساؤل، خاصة أن استمرار ابن لادن وإصراره على بث الرسائل على مدى السنوات الثماني السابقة يحمل ضمنياً الدلالة على ثقته في أن هناك من يتلقاها، وأن التنظيم لا يزال له أتباع. لكن هذا التبرير مردود عليه، فالرجل يدري تماماً انتهاء أكذوبة تنظيم «القاعدة»، وهو على يقين من تفككه إما نتيجة الخسائر المادية والبشرية التي مُني بها وإما نتيجة انحسار مناطق العمليات التي كان ينطلق منها أتباعه، في ظل المطاردة الهائلة لمعظم دول العالم لعناصر التنظيم واعتقال معظمهم.التساؤل، إذن، عن حقيقة جدوى هذه الرسائل مشروع وواقعي، لكن الإجابة عنه تحتاج إلى معرفة مضمون الرسائل التي يبعثها ونوعية المفردات التي يستخدمها، وهنا نجد أنفسنا نواجه رؤية سطحية للأحداث ناتجة عن متابعته للأخبار من محبسه الإجباري دون توافر القدرة على التحليل من ناحية، وضعف الإدراك الاستراتيجي الواضح في فهمها وتفسيرها من ناحية أخرى.فعندما يفهم أن الجهاد هو الاختباء في الكهوف وتركيز النشاط في بث الرسائل، ثم يكيل التهم جزافاً للجميع، بمن فيهم قيادات الجماعات الإسلامية، ويطالب الآخرين بالجهاد، نشعر بمدى العزلة التي يواجهها في محاولته الاتصال بالعالم الخارجي، والسعي للخروج من «الجهاد الافتراضي» إلى عالم الواقع.ويتساءل في رسالته الأخيرة بدهشة عن أسباب توالي المصائب على الأمة الإسلامية! رغم أنه السبب الرئيسي في هذه المصائب، وإذا كان يطالب بتشكيل «هيئة مناصحة» من علماء المسلمين فربما يكون هدفه الرئيسي هو الحصول على النصح، لأنه لم يجد من ينصحه عندما غرَّر به أصحاب الأفكار المتطرفة ودفعوه إلى طريق الظلام.من المؤكد أن رسائل طيور الظلام ستستمر طالما تمسكوا بالجهاد الافتراضي في الفضاء الإلكتروني والإعلامي، لكن المهم هو إدراك أن مضمون هذه الرسائل لا يخرج عن كونه «أضغاث أحلام».عن/ جريدة «الاتحاد» الإماراتية