هل كان ممكنا أن يصبح مبدعون مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وغيرهما نجوما ساطعة في سماء الثقافة العربية لو أن يوم23 يوليو1952 مر كغيره من الأيام ولم يحدث فيه التغيير الذي أعاد صوغ وجه الحياة في مصر والمنطقة العربية والشرق الأوسط بوجه عام؟ ربما يكون في هذا السؤال اختزال للخلاف ـ الصراع الطويل الذي لم يحسم بين أنصار الثورة التي مرت ذكراها الثامنة والخمسون قبل أيام وأعدائها بشأن موقع المثقفين فيها وأثرها عليهم.فأنصار ثورة يوليو 1952 يعتبرون مثقفي مصر الكبار الذين اينعوا في خمسينيات القرن الماضي وستينياته من ضمن إنجازاتها, ويعيدون إليها الفضل في الازدهار الذي حدث في هذين العقدين في معظم مجالات الإبداع الثقافي. فكان هذا الابداع هو مصدر ما بات يعرف بعد ذلك بالقوة الناعمة التي ساهمت في تشكيل دور مصر القيادي عربيا وإقليميا في الربع الثالث من القرن الماضي.ويرد أعداء الثورة مجادلين في سلامة أن ينسب إليها فضل في إبداع من تشكلت ثقافتهم وتكونت قدراتهم غير العادية قبلها, ومعتبرين أن النظام السياسي الذي أقامته كان قيدا عليهم ومكبلا لإبداعهم وليس عونا لهم أو ملهما. وهم يرون أن ما يعتبرونه أجواء ليبرالية سادت أربعينيات القرن الماضي هي التي أتاحت الحرية اللازمة للإبداع والمبدعين. فإذا ظهر إبداعهم الأقوى والأكثر أهمية في عصر الثورة, هكذا يواصل أعداؤها أطروحتهم, فلا فضل لها ولا حسنة, بل الفضل كله لهم لكونهم تمكنوا من مواصلة إبداعهم في ظل الأجواء الثقيلة التي فرضتها والقيود التي وضعتها علي حرية التفكير والتعبير.وإذ يبقى الصراع خالدا بين أطروحتين مغلقتين ومصمتتين يزعم أصحاب كل منهما احتكار الحقيقة بعد58 عاما على ثورة 1952 يبدو ضروريا القيام بزيارة جديدة إلى الرئيس جمال عبدالناصر والمثقفين المصريين في المرحلة التي مازال الخلاف الحاد علي تقييمها حائلا دون كتابة تاريخها السياسي والاقتصادي والاجتماعي, وليس الثقافي فقط, علي أسس موضوعية.وربما يكون السؤال الافتتاحي في هذه المقالة عونا في محاولة إجراء هذا التقييم في مجال الثقافة الذي لا ينكر خصوم ثورة1952 أنه شهد ازدهارا. فكان هذا الازدهار كبيرا وواضحا علي نحو يصعب إنكاره, بل يجوز القول إن ثورة1952 لم تحقق مثله إلا علي المستوي الاجتماعي عبر الحراك الواسع الذي حدث في المجتمع للمرة الأولي منذ التغيير الذي شهده في مرحلة بناء الدولة الحديثة في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وكان انتشار التعليم على نطاق واسع وبمعدلات لم يكن ممكنا تخيلها قبل ثورة1952 قاسما مشتركا بين الازدهارين الاجتماعي والثقافي. فقد أصبح التعليم الأداة الرئيسية للحراك الاجتماعي بما أدى إليه من توسع سريع في الطبقة الوسطى وإتاحة الفرص أمام الفئات الدنيا للالتحاق بها. كما كان انتشار التعليم, في الوقت نفسه وعلي هذا النحو, ضرورة للازدهار الثقافي بل شرطا له. فما كان ممكنا لهذا الازدهار أن يبلغ مبلغه في ذلك الوقت بدون التوسع الذي حدث في الإقبال على الانتاج الثقافي الذي ازداد كمه وارتقى نوعه.وإذا كان أعداء ثورة1952 يقرون بأن ازدهارا ثقافيا حدث في ظلها, فليس لهم أن ينسبوا كل فضل فيه إلى مرحلة سبقتها كان لها أثرها فعلا في تكوين المثقفين الذين برزوا بعدها. غير أن هذا الازدهار ارتبط أيضا بالروح التي أوجدتها الثورة والقضايا الجديدة التي أثارتها, بل بالاختلالات التي ترتبت علي نظامها السياسي أيضا ودفعت بعض مثقفي مصر الكبار إلى معالجتها أدبيا وفنيا فأبدعوا في ذلك أكثر من غيره في بعض محطاتهم. ولا يقتصر ذلك على الأعمال الرائعة التي قدمت أقوى نقد للنظام غير الديمقراطي وأكثره جمالا مثل ثرثرة فوق النيل وميرامار والسلطان الحائر وشيء من الخوف وغيرها.فإذا كان للحقبة المسماة ليبرالية دور في تكوين كبار مثقفي مصر ومبدعيها, فقد كان للحقبة الثورية فضل لا يمكن لمنصف إنكاره فيما يتعلق بالإلهام الذي أوجدته والعوالم الجديدة التي فتحتها والدعم غير المسبوق الذي قدمته لهم وللثقافة. وإذا كان التحول السياسي الذي أحدثته ثورة1952 قد أغلق بابا من أبواب حرية التفكير والتعبير, فقد فتح في المقابل أبوابا شتى أمام مجتمع كان تطوره محجوزا وثقافة كان دور الدولة فيها شبه معدوم, وأمام مثقفين صارت أمتهم العربية كلها مستقبلة لأعمالهم وحاضنة لإبداعاتهم ومحفزة لهم على مزيد من الانتاج.وكان الزعيم الراحل جمال عبدالناصر ـ شخصيا ـ متسامحا مع النقد الثقافي بخلاف موقفه تجاه النقد السياسي, كما يتضح من كثير من الوقائع المسجل بعضها في عدد من الكتب آخرها كتاب الزميل د.مصطفى عبدالغني الصادر عن مركز الأهرام للنشر والترجمة والتوزيع قبل أسابيع قليلة تحت عنوان المثقفون وثورة يوليو.. الشهادات الأخيرة. صحيح أن رجال دولة الثورة لم يميزوا ـ بعكس رئيسهم ـ بين ثقافي وسياسي, ولا بين إبداع يتناول نظامهم, وهجوم يتعرض له. لكن تميز عبدالناصر في هذا المجال وفر حماية لبعض المثقفين في لحظات معينة كان سهلا فيها سحقهم. وعندما قال الراحل نجيب محفوظ ذات يوم إن عبدالناصر سمح بنشر رواية أولاد حارتنا في أكبر صحيفة عربية وهي الأهرام, ثم ببثها علي حلقات في إذاعة صوت العرب عندما هوجم, كان يعبر بقوله هذا معني أن القيود التي فرضتها ثورة1952 لم تفعل في الابداع الثقافي فعلها المدمر للعمل السياسي.والحال أنه آن الأوان لكي يعيد أعداء هذه الثورة النظر في رأيهم الذي لا يعترف لها بأي فضل أو انجاز, وأن يراجع بعض أنصارها موقفهم الذي يضفي عليها قداسة ويرفض الاقرار بأي أخطاء لها أو سلبيات فيها.ولأن بعض المثقفين كانوا, ومازالوا, جزءا من هذا الانقسام الحاد الذي شارك بعضهم في تعميقه, فقد بقيت قضية دورها الثقافي موضع خلاف لا ينتهي بالرغم من أن58 عاما كاملة مرت عليها. ولذلك فهؤلاء الذين يواصلون إقامة الأسوار التي تمنع الالتقاء على كلمة سواء بشأن ثورة1952 مدعوون جميعهم إلي زيارة جديدة لها, ولدور زعيمها الذي نذر نفسه لأمته فأصاب وأخطأ, ولموقع المثقفين فيها سعيا إلي إجلاء حقيقة ما حدث في خمسينيات القرن الماضي وستينياته, وبأمل أن تكون هذه الزيارة أكثر موضوعية من سابقاتها.
ثورة 1952 والمثقفون.. زيارة جديدة!!
أخبار متعلقة