نبض القلم
روى كاتب العباس بن خالد البرمكي أنه جالسه يوماً بمدينة (السلام) بغداد، فدخل شاب حسن الصورة، رث الهيئة، فقال له العباس : ألست ابن صديقنا فلان؟ فقال : بلى، يا سيدي، فقال : لقد كان والدك حسن المظهر، جميل الهيئة، فما بلغ بك ما أرى؟فقال : كان أبي يبالغ في مظهره وتجمله أكثر من كسبه، وتوفي، فكنت بعده أقتات بالضروري لأعيش، إلى أن ضاقت بي الحال في الليلة الماضية، ولم أطق على إخفاء ما حل بي من غم وحزن، فقصدتك، لعلي أجد شيئاً نقتات به. فأعطاه العباس مائة درهم، وقال : احتفظ بهذه عندك إلى أن أنظر لك عملاً يناسبك.فلما قام من عنده قال العباس لغلام يثق به : اذهب خلفه وقص أثره وانظر ماذا سيشتري بهذه الدراهم، واعرف منزله، وعد إلي لتخبرني بما رأيت. فلما رجع الغلام قال للعباس : إن هذا الغلام مسرف، لقد اشترى طحيناً وسكراً ولحماً وعسلاً وحوائج الأعراس بما قيمته ثلاثون درهماً، بل إنه اصطحب معه طباخاً من طباخي الأعراس، وأحسب أن عنده دعوة لوليمة أو عزومة.وبعد أيام أتى الفتى العباس فأعرض عنه العباس، بل استثقل جلوسه بين يديه، فقال الفتى : يا عمي ليس لقاؤك لي اليوم كاللقاء الأول، فأجابه : كنت في المرة الأولى أرجو صلاحك، أما اليوم فإني يائس منك، فقال : وما سبب ذلك؟ فقال : أخبرني غلامي أنك أنفقت ثلاثين درهماً قبل أن تصل إلى دارك، وكان حقك ألا تصرف أكثر من ثلاثة دراهم. فقال الفتى : لو عرفت خبري لعذرتني. قال : وما خبرك؟.قال الفتى : لقد كنت مع ضيق حالي أمسك نفسي عن سؤال الناس، وأكتفي بما يسد الرمق ويبقي على الحياة، غير أني أسكن وأهلي بجوار دار فلان، (وذكر له اسم رجل من تجار بغداد وأثريائها) وكان لمطبخه نوافذ تفضي إلى منزلي، فأولم وليمة كبيرة لا أشك أنك حضرتها، فامتلأ منزلي بروائح الأطعمة الشهية، وكنت أرى أطفالي يتشوقون لتذوق ذلك الطعام، كان كل واحد منهم عندما يشم رائحة الشواء يقول : إنه جدي يشوى، ويقول الآخر: إنها رائحة نقانق تقلى، وأسمع ابنتي تقول: إنني يا أبي أشتهي طعاماً مثل هذا، وكان قولهم يقرح قلبي، وكنت آمل أن يدعوني صاحب الوليمة إليها ولكنه لم يفعل، فظننت أنه سيرسل إلينا بقليل من تلك الأكلات الشهية، ولكنه لم يفعل، لقد احتشد في داره أكابر القوم وعلية المدينة، وكنت أنت واحداً منهم، أما أنا ما رآني أهلاً لذلك. فوا الله يا عمي، ما نمت تلك الليلة، لقد أمسيت بها كالملدوغ، وأصبحت فلم أجد من أتوسم فيه الخير سواكم، فأتيتكم، فلما أعطيتني تلك الدراهم، ذهبت إلى السوق لأشتري بها بعض الحوائج، وأصلح منها ما اشتهاه أطفالي. فأكلوا منه أياماً، فحمدت الله وشكرت لكم ما صنعتم من جميل لن أنساه، وظل أولادي يدعون لكم في كل وقت.فقال العباس: أحسنت بارك الله لك. ثم نادى غلمانه ليسرجوا له بغلته، ولبس ثيابه وركبها، وذهب إلى صاحب الوليمة، وقال له: لقد دعوتني وجماعة من وجوه بغداد إلى طعام مقتنا الله عليه، وكرهنا أشد الكراهة من أجله، وعرضت نعمتنا للزوال. وقص قصة الفتى. وقال: لقد عزمت على أن أخرج صدقة كبيرة عن كل رجل حضر وليمتك، وأنه لن يلبي دعوتك أحد بعد اليوم، ولن يأتي وليمتك أحد بعد الآن.تذكرت هذه الحكاية بعد ما رأيت وسمعت ما يجري في بلادنا من بذخ في ولائم الأعراس، وما يتم فيها من بذخ وإسراف وما يحصل من مباهاة في الحفلات، وما ينفق فيها من أموال ما أنزل الله بها من سلطان، خاصة في حفلات وجهاء البلد، وكبار رجالات الدولة، ومشايخ القبائل، والأثرياء، الذين لم يراعوا مشاعر الفقراء، ولا أحاسيس صغار الموظفين، فهل يا ترى قد “ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة” (البقرة 7). أم يا ترى قد “طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون” (التوبة 87). فهل لي أن أذكر هؤلاء بقوله تعالى:“إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب” (غافر 28) وقوله تعالى: “وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يجب المسرفين” (الأعراف 31).[c1] *خطيب جامع الهاشمي بالشيخ عثمان[/c]