بعد أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001 لم تعد الجماعات الإرهابية تستقيم على شكل خلايا متناثرة بل أضحى تمددها الأفقي رهيباً ووصلات الاتصال بينها متعددة ومتجددة فلا غرابة أن نعرف أن عملية (ميلياني) في فرانكفورت والتخطيط التفجيري ضد أحد الأسواق في مدينة (شتراسبورج) الألمانية قد تم التخطيط لهما في العاصمة البريطانية بينما حضرت وجلَبت المتفجرات من أفغانستان، أما منفذو الهجوم فقد جاؤوا من لندن.وفي عملية مراجعة موضوعية خالصة لهكذا حال فإنه لا يمكن لأحد أن يتنكّر عن حقيقة مرة مفادها أن عوامل الدفع باتجاه تقوية المشاريع والقوى الظلامية ككتلة صمّاء والمساهمة في تكريس تراثها المؤسس على مسلّمات الإبادة والحدّية، والإيغال في إراقة الدم عند التعامل مع القضايا المختلفة، قد جلب علينا من الأهوال ما لم يحسبه أحد، خصوصاً ممن كان يتربع على عروش الحكم في المنطقة، الذين كان همهم هو السير وفق خطة المشروع الكبير في مواجهة الكتلة الشرقية، ولم يقرؤوا حتماً بأنه وفي الوقت الذي كانوا يستحلبون فيه الشر والعداء للاشتراكية كان المُستَحلَبُون يجتهدون في استخراج قدر متواز بل وأكبر من الفتاوى والأحكام التي امتزجت مع مفهوم (الضحية) والخاصة بكفر الحكّام وولاة الأمر وحتمية قتال الصليبيين، وفي ذلك الأتون دخلوا الى مراكز البحوث ووزارات التربية والتعليم حتى أصبح كثير من الطلائع الشبابية في العالم العربي والإسلامي رهينة بأيديهم يصيغونها وفق مرئياتهم المتطرفة والمتطلعة نحو إلغاء كل مغاير لمنطقهم المنزلق في وحل الشعارات الفضفاضة والهلامية، بل أكثر من ذلك فقد اختصروا مسافات شاسعة من الفكر الإنساني المتراكم في فترة زمنية تربعوا هم فوق صفيحها متنكرين لحضارة بنتها كل الشعوب مشتركة، فكانت فخر الإنسان في كل الأزمان، لأنّها قامت على التوازن بين المادة والروح، وحفظت للإنسان كرامته، وصانت حقوقه، وحددت واجباته; حضارة لم تصادم الحضارات الإنسانية الأخرى، بل احتضنتها بحنان واحتوت المثل السامية فيها برفق، وعمقت بتسامحها وعي الإنسان ومداركه، وأغنت ثقافات شعوب المعمورة بفعل المثاقفة والحوار الحضاري الذي ذللّت من خلاله روح الصدامية والعصبية، وقضت على الأحقاد والتطرف، وأغنت الإنسانية بما أضافت من علوم في مختلف حقول المعرفة.أضف إلى ذلك فقد أسست بعض الحكومات العربية لبناء أرضيات وروافد ناجزة للإرهاب عندما ساهمت بقوة في عملية إفقار الشعوب العربية والمسلمة وتجويعها، الأمر الذي ولّد شهية جامحة نحو الانتقام وعدم الوثوق بأي ركن سياسي طالما قُرِنَ أو نسب أصله أو فرعه إلى السلطة (الغاشمة) فانفتحت أبواب الجحيم على الجميع.لقد أهملت حكومات في المنطقة مسألة التنمية الشاملة لعقود من الزمن، فأنتجت اقتصاداً مشوها، وهياكل اقتصادية متأرجحة ومُضطربة، وحتى الأموال المستولى عليها بات استثمارها يواجه شكلاً من أشكال التمييز في الدول الغربية، فأصبحت الدول الخليجية والمستثمرون العرب غير قادرين على توظيفها لا في موطنها الأصلي ولا في استثمارات خارجية حقيقية لأنها معرضة للقيود والمصادرة، وبالتالي أصبح من السهل، في بعض الاحيان، أن تتدفق على شكل تمويلات للتنظيمات الإرهابية، وذلك هو الذي يفسر الحالات التي نجد فيها اثرياء يقودون تلك المنظمات ويجندون قاعدتها من الفقراء.أضف إلى كل ذلك فقد لعبت السياسة الغربية وبالذات الأميركية دوراً واضحاً في اتساع رقعة الإرهاب بسبب ازدواجية المعايير التي تتبعها في التعامل مع الأطراف، وضعف دور المؤسسات الدولية وفي مقدمتها الأمم المتحدة في حل كثير من الصراعات المحتدمة في أنحاء عدة من العالم، مثل قضايا التحرر العادلة في فلسطين وكشمير وايرلندا، ما أعطى انطباعاً بغياب العدالة الدولية وعجزها عن تلبية طموحات الشعوب إلى الحرية، ففي الوقت الذي تنظر فيه الولايات المتحدة إلى حماس والجهاد وحزب الله بأنهم أسُّ الإرهاب المُعيق لعملية السلام وترسيخ الديمقراطية تتناسى أدواراً إرهابية نَشِطَة للجماعات المتطرفة في إسرائيل كالهاغانا والهاشومير والبالماخ والأرغون وشتيرن ومنظمة كاخ (وهي كلها منظمّات تحوّلت من حركات ظاهرة إلى مستترة تحتفظ بالسلاح والمال أو تتستّر تحت اسم المستوطنين) من عمليات إرهابية وترويعية للفلسطينيين، فضلاً عن إرهاب الدولة الذي يمارسه الكيان الصهيوني المحتل تجاه الشعب الفلسطيني من هدم للبيوت وتجريف للأراضي وهي حقائق مفجعة نذكرها ليس بغرض الاستهلاك الإعلامي واستدرار العواطف، بل للتذكير بفظاعتها وشذوذها الإنساني.ونأتي الى مواقف القوى الدينية المسلمة من الإرهاب، وقد مثّل إصدار الهيئة الإسلامية الأسبانية فتوى دينية تعتبر فيها أسامة بن لادن وتنظيم قاعدة الجهاد (القاعدة) وكل الذين يسوّغون للإرهاب من خلال القرآن الكريم، مرتدين وخارجين عن الإسلام، مثَّل حركة متطورة لمنسوب الخطاب الديني المعتدل المناهض لمفاهيم العنف، خصوصا ان أكثر مواقف الإدانة التي عبرت عنها مختلف الحكومات والأحزاب والجمعيات العربية والإسلامية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر وإلى الآن لم ترتق إلى مثل هذا التوصيف، بل اتبعت أسلوباً أقرب إلى النقد العام منه إلى النقد المباشر ووضع اليد على الجرح، أو أنها كانت تُصدر بيانات إدانة مشفوعة بـ (لكن) وفيما يتعلق بمسألة مواجهة الفكر المتطرف هذا تجب الإشارة إلى أمر في غاية الأهمية ويخص المجامع العلمية ومعاهد البحوث والحوزات الدينية في عموم العالم وهي أنه لا يمكن أن تُثمر جهود مكافحة التطرف من دون الوقوف على روافد الحركات التكفيرية التي تتلخص في كثير منها في بعض قضايا التراث الديني الذي صِيغ كثير منه في فترة الصراع السياسي والآيدولوجي بين القوى السياسية في صدر الإسلام، التي اتبعت طرقاً ملتوية في تحقيق أغراضها عبر استصدار فتاوى أو خلق روايات من نوع ما يخدم أهدافها وتطلعاتها، يضاف إلى كل ذلك فإن الكثير من ملامح التفكير المتطرف الرائج هذه الأيام هو محصلة طبيعية لفكر الخوارج الذي اتسم بالقهر والقتل وتكفير الآخر، وكتب التاريخ والسير تزخر بحوادثه.وفي موضوع ذي صلة، لنلق نظرة على حالة الإرهاب في العراق.لقد كان العراق في نهايات فترة الحكم الصدامي البائد وبالتحديد في عام 1995 قد بدأ في تسيير ما أسماه بـ «الحملة المؤمنة» التي بدأ فيها بإعادة أدلجة بعض قيادات الجيش وما يسمى بفدائيي صدام، من دون الحرس الجمهوري، بفكر ديني تكفيري يلغي الآخر، وحاك خيوطاً ليست بقليلة مع قيادات دينية متطرفة غير عراقية بغية الاستعانة بهم في حالة هجوم الولايات المتحدة الأميركية عليه، وبعد سقوط النظام البعثي في 9 إبريل من العام 2003 بدأت هذه العناصر بالتحرك نحو تنظيم صفوفها وفق مناهج دينية متشددة، فأنشأت ما يسمى الآن بتنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين أو الجيش الإسلامي وغيرها من المُسمّيات، وبدأت في ضرب أي مشروع طموح يسعى العراقيون نحو تحقيقه بدءاً بمجلس الحكم وانتهاءً بالانتخابات العامة، وقد وجد الإرهابيون في العراق ساحة خصبة لقتال القوات الأميركية الغازية ومن يتعاون معها وصارت أمصار كثيرة من دول عربية وإسلامية ماكينة تفريخ للإنتحاريين.وفي ظل هذا الواقع العراقي المرير تبقى المسؤولية في المستقبل على الطلائع السياسية الجديدة في العراق كبيرة، فعليهم أولاً أن يبنوا مؤسساتهم واقتصادهم وبناهم الاجتماعية بالقدر الذي يؤهلهم للاستقلال والبدء في توديع الأجنبي بلباقة، وقبلها يتوجب عليهم عدم الشعور بأزمة الضمير من وجود مُحتل جاثم على صدورهم رغماً عنهم لأن الديمقراطية في ظل حراب الاحتلال خيار ليس هناك من يتمناه، لكنه أفضل من أن لا تأتي أبدا وتظل شعوبنا على قوائم الانتظار، فاليابانيون بنوا الديمقراطية والاقتصاد في ظل الاحتلال، كذلك الايطاليون والألمان والكوريون الجنوبيون، ولم ينتقص ذلك من ديمقراطيتهم بل هم من يقود العالم الصناعي والديمقراطي اليوم.ثم إن المسؤولية تقع على دول الجوار بان يهبوا لمساعدة العراق ويحيدوا المعادلات الدولية جانباً ولو بشكل مؤقت لا سيما أثناء فترة البناء العمودي للدولة العراقية، من دون أن يتحسسوا من هذه التجربة، بل على العكس من ذلك، فإن في وسعهم الاستفادة من تجربة العراق الذي يزخر بذخيرة وفيرة من الخزين الحضاري العظيم والتاريخ العريق المفعم بالتجارب الرائدة في مجالات الحياة والعلم والمعرفة.[c1]* كاتب بحريني[/c]
|
اتجاهات
الإرهاب في الخليج.. من أين جاء وإلى أين يسير ؟!
أخبار متعلقة