قصة قصيرة
إنها فتاة شابة مات زوجها وتركها وحيدة مع طفليها، وكانا صبياً في الثالثة عشرة، وطفلة في السابعة.. ماذا صنعت؟ ما كادت فترة الحداد تنقضي، حتى جلست الأم تجمع أفكارها، وتحصي ما تركه لها زوجها من مال، هو قيمة وثيقة التأمين على حياة زوجها، ومبلغ آخر أصغر منه، هو كل ما تبقى له من رصيد في البنك ولا شيء أكثر من هذا.. فالمعاش الذي تقرر صرفه لها ولأطفالها بعد وفاة زوجها يكاد لا يكفي أجر البيت الذي يعيشون فيه.وكان لابد لها من أن تواجه ولديها بهذه الحقائق.. إنها تريد أن توفر لهما حياة كريمة بعد ذهاب عائل الأسرة.. ولكن لكي تفعل ذلك، لابد لهما أن يدركا أن هناك أشياء كثيرة يجب أن تتغير في حياتهم.. وكان أول هذه الأشياء هو الانتقال من البيت الذي يعيشون فيه إلى بيت أصغر وأقل أجراً.. وقال الابن : “أنا الآن رجل البيت يا أمي، فلا تحملي هماً.. سأذهب إلى مدرستي في الصباح، ولن أهمل تعليمي.. أعدك بهذا.. ولكنني سأقضي بعض ساعات فراغي في القيام بعمل.. أي عمل أستطيع أن أحصل منه على أجر يعاوننا على مواجهة أعباء الحياة.أما شقيقته، فقد كانت أصغر من أن تتحمل أية مسؤولية في هذه السن الصغيرة.. وانتقلت الأسرة للحياة في البيت الصغير الجديد.. والتحق الابن بعمل في المساء، وخرجت الأم بدورها تبحث لنفسها عن عمل، فقد كانت امرأة متعلمة.. وقد عملت بالتدريس في وقت من الأوقات، ولم تترك وظيفتها إلا عندما أصبحت أماً، واضطرتها ظروف الحياة اضطراراً إلى ترك عملها لتخصص كل وقتها لوظيفتها الأولى كأم وزوجة وربة بيت.وانقضت بضعة أعوام، والحياة تسير بهم في هدوء ويسر، إلى أن تخرج الابن من الجامعة.. وأصبح محامياً.. وكبرت الطفلة الصغيرة.. وأصبحت عروساً، قاربت سن الزواج.إلى أن جاء يوم، وقف فيه المحامي الشاب يترافع في أول قضية له بين زوجين انفصلا بالطلاق واحتدم الخلاف بينهما على حضانة ابنهما الوحيد، وكان صبياً في التاسعة.وجاءت أم الصبي تبكي، وترجو المحامي الشاب أن يحميها من زوجها السكير الذي يريد أن ينتزع ابنها منها! وفي المحكمة، وقف المحامي يتكلم.. وكانت مفاجأة - انه لم يشر بكلمة واحدة إلى قضية موكلته.. وإنما راح يسرد لهيئة المحكمة قصة حياته هو مع أمه وشقيقته بعد أن مات والده.قال : “افتقدنا والدنا، فقد كان أباً صالحاً كريماً.. ولكننا لم نفتقد يوماً معنى الحياة.. كانت أمنا، أباً وأماً لنا في آن واحد.. حقيقة فقدنا بموت والدنا بعض ما تعودناه من نعومة ويسر في حياتنا.. ولكننا تعلمنا أشياء كثيرة لولاها لما كنت أقف اليوم محامياً أمامكم في هذا المكان.. تعلمنا الشعور بالمسؤولية.. وأفخر بمشاركتي في تحمل جانب من مسؤولية رعاية أمي وشقيقتي.. لقد عملت بائعاً للصحف، وسائقاً للسيارات، ومع هذا أكملت تعليمي.. وتفوقت في دراستي حتى تخرجت في الجامعة.. إنني مدين لرحيل أبي المبكر بهذا النجاح الذي حققته.. ومدين لأمي التي ضحت بشبابها وحياتها، وكل ما تملك من أجلنا أنا وشقيقتي.. وهو دين سيظل يطوق عنقي ما حييت!”.وحكم القاضي بحق الأم في حضانة ابنها.. وفي صفوف الجمهور، كانت هناك امرأتان.. الأولى، أم الصبي التي كسبت القضية لتوها، وكانت تبتسم ابتسامة النصر، أما الثانية فقد كانت تبكي.. كانت أم المحامي الشاب الأم التي وقف ابنها يضع بيده وساماً على صدرها في ساحة القضاء.