رؤيتها مكنتها من الاشتغال على جناحي الحقيقة والمجاز لغة وأسلوبا وفكرا
محمد الحمامصي:تشكل أفكار الكاتبة فاطمة حمد المزروعي في مجموعتها الصادرة أخيراً عن مشروع (قلم) أحد مبادرات هيئة أبوظبي للثقافة والتراث بعنوان (نهار الظباء) رؤيتها العميقة لانشغالاتها الذاتية والعامة امرأة وكاتبة وباحثة أكاديمية، هذه الانشغالات التي تكشف عن ارتباطها الواعي والمستنير بقضايا وهموم مجتمعية وإنسانية جوهرية لا تزال تشكل مصدرا لقلق المرأة وتوترها. تنسج المزروعي قضاياها وهمومها من تفاصيل ومفردات تحمل خصوصية المجتمع الإماراتي خاصة والخليجي عامة، تدخل في ذلك تفاصيل المكان أو الزمان والمناخ، الأمر الذي يجلي رؤيتها ويصقلها دون أن تقع في فخ المباشرة، بل العكس توقعنا في تعددية الدلالات ودهشة التوهج. تفتح المزروعي قصص مجموعتها بقصة (وجه الشبه) التي على الرغم من اعتمادها على لغة بسيطة خالية من المجاز، بحيث يستشعر القارئ لها أنه قابض على تلابيبها، إلا أنها تشكل أكثر قصص المجموعة عمقاً، فهي تدخل بنا إلى أكثر المناطق عتمة في الذات، لتخرج لنا إلى السطح ذلك الخوف الكامن، الخوف المستتر وغير القادر على المواجهة، مواجهة التغيير الذي طرأ على الشخصية، فهذه المرأة العائدة من عملها والتي تستعد للقراءة والكتابة في هدوء بعد خروج أبنائها بصحبة الأهل، تنظر فجأة من نافذتها لترى نفسها /ذاتها تطرق الباب، وفي هذه اللحظة تذكر قول زميلتها في العمل عن شبيهة لها، لنعيش عالماً يصعب فيه فك الحلم عن الخيال عن الواقع، لندرك أننا أمام شخصية واحدة منشطرة، أولهما وهي الحقيقية تلك التي تشكل جزءا من العالم الأم والزوجة والأهل والمكان والزمان واللغة، والثانية تشكلها هي نفسها مضافاً إليها التطورات التي جرت وغيرت اللسان (مكسرة اللغة) وغيرت لون العينين (بعد أيام قال الأطفال لأمهاتهم إن جارتهم تلك لم يعد لون عينيها أسود، وأن حديثها صار بعربية مكسرة).إن المزروعي تحذر بجمالية فنية عالية من فقدان الشخصية الأصيلة لعناصر خصوصيتها الثقافية والحضارية أمام ثقافات وحضارات أخرى، وهو الأمر الذي يبدو أكثر وضوحا في قصتها. (جمعة المغني) الذي يضغط عليه ليبيع بيته في جميرا القديمة، هذا البيت الذي يحمل إرثه من مخطوطات وكتب قديمة (فيها تاريخ البلد والقصص الشعبية والأغاني القديمة، وربما أحد لديه القدرة على طبعها في يوم من الأيام حتى بعد وفاتي)، ويتوفى جمعة فعلا وتخرج زوجته الهندية بعد بيع البيت بصحبة أبنائها إلى الهند، فيما تبيع الخادمة (كل الأبواب والشبابيك والمكيفات وكل شيء يستحق البيع من بيت جمعة، وأما عوده وأشياؤه فباعتها لرجل مهتم بالتراث لا تتذكر منه إلا اسمه أبو سلمان، وقد كان كريما معها فاشترى الأغراض بألفي درهم!) أما جمعة المطرب والمغني المشهور فقد اكتفت الصحف المحلية بنشر خبر وفاته في ذيل صفحة الفن.وتواصل المزروعي طرح همومها لتدخل إلى قضية تربك الكثيرين في مختلف المجتمعات العربية، فعلى الرغم من تحذيرها من ضياع الإرث والأصالة، إلا أنها تحذر في قصتها التالية (الشرخ) من خطورة توحش الجد / الماضي، فهذا الجد الذي بينه وبين حفيدته الصغيرة شرخ يزداد عمقا، هذا الجد الذي يتحول في حلم الحفيدة إلى ذئب يطاردها حتى لينتقل الأمر إلى واقع في المرآة، (أمسكت برأسها كي لا تنفجر وأمسك الجد ذراعها، فرأت في المرآة الذئب وقد تحول إلى صورة جدها الطيب)، هذا الجد يمثل صورة من صور الإرث يبدو طيبا لكنه غير ذلك، فهل أرادت المزروعي أن تقول لنا أن الإرث ليس كله خيراً وأن هناك جانباً شريراً فيه؟إجابة هذا التساؤل تأتي في القصة التالية (الصوت الخشن) حيث ميراث الجدة / البركة من الشعوذة، هذه الجدة التي تخرج الجان من أجساد النساء (الملبوسات) في طقس خرافي يطلق عليه الزار، هذا الميراث ترفضه بطلة القصة الفتاة الحالمة بالحب والحياة لكن أحد أختيها تقبله وترثه لتحل محل الجدة بعد وفاتها، الأمر الذي يكشف عن أن هناك من يرفض الخرافة والشعوذة، لكن هناك من يقبل أيضاً.وفي الإطار نفسه تجيء قصة (أم صنقور) لتفضح ممارسات الشعوذة ولجوء المتعلمين إليها، جنباً إلى جنب مع فضحها للمجتمع الذكوري الذي يحمل المرأة كل أسباب عدم الإنجاب، وحين تطالبه الزوجة بمراجعة الطبيب يصفعها، فتلجأ للشعوذة من أجل الإنجاب.وتدخل المزروعي بنا إلى قلب المجتمع في قصصها (القمر المخطوف)، و(ضحكة الديك)، و(في ظهيرة أغسطس)، لنرى جانبا من مفردات شخصية المرأة في حركتها الحياتية، هذه الصديقة العائدة بعد غربة لسنوات، ومدير العمل الذي يشبه الديك وتلك التي تشبه السلحفاة.أما قصتا (الأريكة)، و(السرير) فهما حالتان إبداعيتان شديدتا العمق والثراء، ففي الأولى نعيش منولوجا داخليا لحالة إنسانية جميلة، امرأة تدخل محلا لبيع قطع الأثاث لشراء أريكة، وتخشى أن يطيح ثمن الأريكة براتبها الذي تعيش عليه، تمر بين قطع الأثاث الكراسي، الأرائك، لتستقر على أريكة، تلف وتدور حولها حالمة ومتخيلة وعاشقة، حتى تقع في غرامها، بل كلتاهما المرأة والأريكة يتبادلان الغرام، وحين تتهدد العلاقة بينهما بالانفصال حيث يختار الأريكة رجل وزوجته، تندفع (تقف بين البائع والزوجة مثل لبؤة تدافع عن عرينها، وبصوت مخنوق: عفوا أنا اخترت هذه القطعة أولا، وأجري الآن معاملة الشراء وأتيت لآخذ باقي المعلومات، وبدت بصوتها ونظراتها جافة قاسية كجذع ألهبه هجير الصحراء).أما (السرير) فالراوي فيها (السرير) نفسه، هذا الجماد الذي تكسبه الكاتبة روحاً وقلباَ وحساًَ شفيفاً ليرى مشاعر وأحاسيس ونبضات الرجل والمرأة اللذين ينامان عليه، وبشكل خاص المرأة، فهذه المرأة العائدة لتوها بصحبة زوجها يقلقه تقلبها عليه وأرقها ويرى لتوترها وحزنها، ويظل يتساءل عن السبب وراء قلقها وحزنها، وهو الذي يحفظ تاريخ مشاعرها، حتى يصل إلى أن صديقتها الحميمة توفيت وأن زوجها لم يعنه حزنها على هذه الصديقة، وفي هذا الحزن الذي يملؤها ورغم البكاء (سحبها إليه، كانت تتخشب بين يديه رفضاً وحزناً، وتحاول مقاومته لكنها سكنت فيما يشبه الاستسلام، وبعد دقائق طويلة تركها كلوح بارد تتقاذفه أمواج الليل). إن تمكن المزروعي من رؤيتها جعلها تشتغل على جناحي الحقيقة والمجاز لغة وأسلوبا وفكراً، وتنسج حبكة مضيئة بالدلالات لهمومها وقضاياها، فجعلتها على بساطتها تلتحم داخل النسيج لتبلور دهشة وتوهج العالم الصغير، وهكذا شخصياتها التي لم تخرج عن الواقع وإن حملت تساؤلاته المأزومة والمتصارعة بحثا عن أجوبة.