أفكار
كشف القرار الذي اتخذه الاتحاد الأوروبي مؤخرا بتقوية علاقاته مع إسرائيل عن مجموعة من الحقائق التي تعبر عن زيف كثير من المواقف التي تتبناها أوروبا في الشرق الأوسط وتجاه النزاع العربي ـ الإسرائيلي علي وجه التحديد.إن قرار الاتحاد الأوروبي توثيق علاقاته بإسرائيل يدحض كل ادعاءاته بالرغبة في ممارسة دور أكثر توازنا واعتدالا من الولايات المتحدة في عملية السلام في الشرق الأوسط, فليس هناك أكثر من هذا التشجيع يمكن أن يتلقاه قادة إسرائيل للمضي قدما في سياساتهم القمعية تجاه الشعب الفلسطيني وحصاره في قطاع غزة واستمرار التهام الأراضي من خلال بناء المستوطنات أو الجدار العازل. وقد نجحت ضغوط تل أبيب في إقناع رئاسة الاتحاد الفرنسية بسحب نص كان ينوي الاتحاد تبنيه ويؤكد فيه موقفه من التسوية السلمية في الشرق الأوسط. وليست الإشارة العابرة في القرار إلي ضرورة تسوية النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي علي أساس إقامة دولتين سوي ذر الرماد في العيون بهدف تحرير القضية الأساسية وهي توثيق العلاقات مع إسرائيل.مايثير السخرية والأسى معا أن قرار الاتحاد الأوروبي تجاهل سلسلة من الانتقادات الحادة التي وجهها مسئولو الأمم المتحدة لإسرائيل في التوقيت نفسه وطالبوا فيها بمعاقبتها علي سياساتها في الأرض المحتلة, فقد وصف الأسبوع الماضي ريتشارد فولك مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة سياسات إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني بأنها جريمة ضد الإنسانية وطالب المحكمة الجنائية الدولية بالنظر في إمكان ملاحقة ساسة إسرائيل وقادتها العسكريين لانتهاكهم القانون الجنائي الدولي, كما اتهم مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الأسبوع الماضي الدولة العبرية بممارسة تعذيب بدني ونفسي علي المعتقلين الفلسطينيين. ولم تنجح كل تلك الاتهامات في أن تحيد الاتحاد الأوروبي عن موقفه المتمسك بتوثيق العلاقات مع إسرائيل.ولفهم الموقف الأوروبي الأخير لابد من تناول موقف فرنسا الرئيسة الحالية للاتحاد الأوروبي حتي نهاية ديسمبر, ونظرتها الجديدة للعلاقة مع إسرائيل في ظل رئاسة نيكولا ساركوزي. ففرنسا هي التي تقدمت بالنص المشار إليه لتوثيق العلاقات مع إسرائيل, وياللعجب فقد تعرض مشروع القرار الأصلي الذي قدمته باريس لانتقادات دول معروفة تقليديا بمواقفها المنحازة لإسرائيل ـ مثل بريطانيا وبلجيكا ـ نظرا لعدم توازنه وانحيازه الفاضح لإسرائيل, مما اضطرها إلى تعديله. وكانت فرنسا قد تقدمت بنص مماثل قبل عقد قمة إطلاق الاتحاد من أجل المتوسط في13 يوليو في باريس, ولكنها اضطرت للتراجع عنه ـ مؤقتا ـ بسبب معارضة كثير من الدول العربية المشاركة في التجمع خاصة مصر. ويبين هذا الموقف مقدار المسافة التي اجتازتها فرنسا منذ أن كانت توصف حتي وقت قريب ـ في عهد الرئيس جاك شيراك ـ داخل الاتحاد الأوروبي بأنها تتبني مواقف فريدة للعرب. وحينما سئل وزير خارجية فرنسا برنار كوشنير عن انتقادات فلسطين ومصر للقرار الأوروبي, قال إن توثيق العلاقات مع إسرائيل ليس له أي مغزى سياسي! وهو كلام عجيب, فهل يمكن لأي اتفاق سياسي ألا يكون له أي معنى سياسي؟!إن تفسير فرنسا الرسمي لسياستها الحالية في التقارب مع إسرائيل يتلخص في أن تحسين العلاقات سيساعدها هي وأوروبا علي التأثير بصورة أكبر في سياسة الدولة العبرية. الواقع إن هذا التبرير الرسمي ماهو إلا وسيلة لإخفاء التغيير الكبير الذي جاء به ساركوزي في نظرة بلاده لسياستها في الشرق الأوسط وعلاقتها بإسرائيل. وهي نظرة تكاد تتطابق مع فكر المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الذين انتهوا بالسياسة الخارجية الأمريكية إلي كارثة حقيقية. ولن نبالغ إذا قلنا إن سياسة ساركوزي الخارجية تنهي تقليدا فرنسيا عتيدا يعود إلي بداية عهد الجمهورية الفرنسية الخامسة عام1958 وعصر الرئيس شارل ديجول الذي دشن سياسة فرنسا المستقلة داخل المعسكر الغربي. وقد استمر هذا التقليد الديجولي في إتباع سياسة مستقلة عن الولايات المتحدة في عهد كل الرؤساء الذين جاؤوا من بعده بمن فيهم الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران. وكان لهذه السياسة الفضل في بناء سمعة فرنسا الدولية, خاصة في دول الجنوب عقب انتهاء حقبة الاستعمار,وتتلخص نظرة ساركوزي في ضرورة التحالف الوثيق مع الولايات المتحدة وإتباع مواقف مماثلة لها قدر الإمكان, فهو يري أن فرنسا ستستمد قوتها الدولية وقدرتها علي التأثير بفضل تحالفها مع الولايات المتحدة, وكما كان الحال مع المحافظين الجدد الذين كانوا يحيطون بالرئيس جورج بوش ويؤثرون على خياراته, فإن هناك مجموعة مماثلة من رجال السياسة والفكر والأعمال الفرنسيين المؤيدين للولايات المتحدة والذين يحيطون بساركوزي ويؤثرون علي قراراته.هذا الفكر الجديد الذي أتى به ساركوزي يفسر الإصرار الفرنسي على تقوية العلاقات الأوروبية مع إسرائيل, وهو ما قد يكلفها في نهاية المطاف فقدان المكانة والمصداقية التي تمتعت بها في العالم العربي طوال عقود ممتدة.[c1]*عن/ صحيفة (الأهرام) المصرية[/c]